وجيه نحله

Views: 593

نور لا تكفيه حدائق ومساحات

w

جوزف أبي ضاهر


أخذ النّور بين يديه فاتّسعت الحدائق، وأنبَتَ نبضُ ريشته زهرًا وألوانًا، وأقواس غمامٍ أبيض هو في أبجديّات الفنون مؤسّس لحضور الحركة والخط.

wmeedmond-rizk-rosaire

منذ نصف قرنٍ عَرَفتُ وجيه نحله… ظننت، وإذ بالوقت يأخذني، يومًا بعد يوم، إلى معرفة جديدة له أوسع وأعمق وأشمل.
هذا المبدع، المتنوّع الولادات، اكتشفت لاحقًا إشراقاته. وعرفت أن إبهاره للعقل يأتي إليه من العين والقلب واليد معًا.
في حوار له، في لوحة منه، في منحوتة، في تشكيل ما، أتكوّمُ مشدودًا إلى تأليف غير عادي، بتقنيّة متينة مبنيّة على موهبة أصيلة صقلتها تجارب كثيرة متنوّعة، ومعارف آتية من لهفةٍ ورغبةٍ ممّن سبق، ومما سبق في الحركة التشكيليّة اللبنانيّة، فالعالميّة المفتوحة شبابيكها على مراحل تجديد وتطوّر وابتكارات وموجات بعضها صادم.

w-2

الذاتيّة عند وجيه نحله برزت هويّةً، لها ميزات وعلامات فارقة أهّلتها للبروز مستقلّة، تُقَلّدُ ولا تُقلِّد. منذ بداياته الإنطباعيّة، أطلَّ التغيير على ريشته المتجدّدة وفي ألوانه… ولم تَطُل مرحلةً. أقل من عشر سنوات (1950 ـ 1960) كانت كافيّة لإطلاق تصوّر منه لمستقبلٍ ظُنَّ بداية خيال جانحٍ، على رغم الإعجاب والدهشة… وإذ بالأيام تكسر الظنَّ، تبدّده لمصلحة واقع رآه الرسّام من شرفته العالية، كما شرفات الشعراء الرائين والفنانين المبدعين.
لم يتعثر وجيه نحله بما ظُنَّ بحلمه، تخطاه، وما سمح لوقتٍ يضيعُ هباء، ولو نظرة إلى الوراء. التراث الشرقي الغنيّ، كلّه أمامه، اندفع نحوه وأعطاه ما يستحق من جهدٍ وعملٍ، فحصد غلالاً مهّدت لمرحلة لاحقة… وإذ بالحروف العربيّة تمتشق ذاتها على أصابعه، وفي كلِّ حرف إغراء شكل وحركة، فكيف إذا جُمِعَ مضمومًا وَجَمَع مضمونًا لآيات كريمة تُذهِبُ الذهب وتُغنيه فيلمع بريقه في لوحات كثيرة تصدّرت أمكنة ما كانت قبلها تعرف التشكيل؟ فاستحقّته.

w-nahle-4

اتّسعت دائرة الشمس، فمن العالم العربي المتلقّي لوحاته الحروفيّة والاسلاميّة بإعجاب وتقدير بالغين، إلى العالم الغربي الواسع الآفاق، الغنيّ الثقافات على تنوّعها وامتداد جذورها وفروعها.
من الشرق إلى الغرب مشى الوهج إلى جانب لوحات وجيه نحله. فُسحت له مساحات، وفُتِحت أبواب كان الإعجاب بوّابها: جوائز، تنويهات، كتابات، شهادات، رسائل جامعيّة، موسوعات، أفلام وثائقيّة (من أبرزها للمخرج الأميركي آدم سوتش 1978)… لفتت إلى فنّه، وأوسمة تتابعت تقديرًا وإعجابًا  بتميّز.
ما اكتفى، ولا حَدّت هناءة نجاح سعيه إلى آفاق طالتها رؤاه، وظلّت يده  ممدودة إليها، مشدودة إلى سفرٍ في مراكب الشوق الدائم إلى الجمالات.

w-a

انتقل من مرحلة الحركة واللون، وفيها ركضت الخيول جامحة، كادت تخرج من اللوحة إلى المتلقّي فتأخذه على غفلة، لو لم تظهر المرأة حَدّها، قبالتها، فتمسك بالمهج ولا تعيدها…. وأما الراقصاتُ فزهو ألحانٍ وألوانٍ وحرائر تلوّح، تستر مرّة، وتفضح مرّات، ولا تهتك سرًّا. الرسّام قارب التجريد فيها من دون إلغاء للملامح الأساس، كأنه يومئ، والايماء شارات إلى المخيّلة تحرّضها على التقاط الزغب المتحوّل أشكالاً كاملة الصفات. رافقت ذلك، وربما جاءت لاحقًا انخطافات تُعطي التجريد مضمونًا مُصاغًا على يد صناع، ما فرغ من جوهر.
تلاحقت الخطوات سريعًا وصولاً إلى نورانيّة، تجسّدت في لوحات معدودات (واحدة للسيد المسيح)، إكمالاً لمسار نصف قرن وأكثر، أفضى إلى فضاء متعدّد الطبقات والانعطافات، ما كان اللون قبله يتّسع لمثل هذا الظهور العلني القوي على انسياب شعاعات صُبح.

nahleh

ما قيل إلى الآن، مجرّد عناوين صغيرة، مرّت بها مجموعات أعمال تزيينيّة وبورتريهات لأعلامٍ، وكتابات أسماءٍ، ومنحوتات، وسيراميك، ومنسوجات، وجدرانيّات، ولوحات لأعمال مسرحيّة (فرقة كركلا) إحداها عملاقة (200 متر مربّع) وتصاميم هندسيّة لمدن مستقبليّة… والعمر على صَهوَة فتوّةٍ يكدّس الجمال حيث يطلّ، ويحلّ، ويجلس ولو في استراحة.
وجيه نحله علامة في زمننا نضمّها إلينا، أو تضمّنا إليها، لا فرق.
النّور بين يديه لا تكفيه مساحات وحدائق.
وسّعوا له قلوبكم.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *