مريم شمص…

Views: 275
مريم شمص
مريم شمص

“حافية بين عُمرين”

د. عبد الحافظ شمص

الأدب القصصي، كما هو معلوم، مادّة علميّة مؤثّرة، تدخل في نسيج عقل الإنسان فتميّزه، ليكون في ما بعد حَكَمًا بين ما يُسمّى حقيقة وبين الخيال، يهتدي بأفكاره مَنْ يتوق إلى المعرفة، المعرفة التي هي حاجة كيان، لا يكون الإنسان بدونها. كما أنّ الفنّ، حركة إدراك لتسجيل أنواع مختلفة من الثقافة والمعرفة، وهي من مكبّرات الحواس البشريّة التي تتيح التّقدّم، كما هي ردود أفعال انتقاليّة وإراديّة للسلوك ولطريقة الحياة بنسب عالية من الأخلاق لتحسين المجتمع والسّير به نحو التّقدّم والرّقي أدبيًّا ومعنويًّا. والعلماء مصابيح الأرض وورثة الأنبياء والقدّيسين.. وشخصيّة المرأة العالمة والمثقّفة لا ترقى ولا تتبلور إلاّ بالممارسة لتكوين المعرفة وتعميمها بالعلم وبكافة صُوره.

والشاعرة والأديبة مريم شمص، وفيّة لمهنتها القانونية كمحامية متفوّقة، تُدافع عن الحقّ وتنشر عِلْمَها وأَدبَها الذي يشكّل الينبوع الحسّي المتدفق.. هي شاعرة وأديبة لا تُبارى، تجبه الباطل بالصّواب وتنتصر للحق وأهله وتعمل له حتّى يتحقّق…

امتلكت مريم شمص ناصية الكلمة، فحملتها نبراسًا للهداية والإرشاد لأجيال عديدة.. وَبَنَتْ عالمها الفسيح وفقًا لنظرتها الأدبية والشّعريّة بحيث أصبحت عالمة سواها لشدّة تأَثّرهم بأدبها وبعطائها المضمّخ بالعبير.. رسّخت بناء القصيدة المُرسلة والرّواية، وحفظت أسرارهما وحقّقت المزيد من النّجاح، الذي كانت ولم تزل تعمل من أجله… حُلْمُها كان اختراق الوجود، كي تستطيع إضافة شعاع ضوء إلى الحياة، يعكس وجهة نظرها ويغني المتلقّي وذائقة القارئ، وهما أساس كلّ نجاح وتفوّق…

مريم شمص بروايتها الجديدة، استطاعت أن تفتح الشبابيك وتهرب، تنادي الشّمس الباسمة في أعلى صفحة، تحاول شدّ شعرها “المنكوش” ولا تعود إلى المنزل الدّافئ لتبقى معه إلى الأبد، مُتسائلة، مَن سيشغل ذلك “الدّرج” السّحري بعد الآن؟ مَنْ سَيُسَلّي الطّفلة التي اختبأت خلف شجرة كي لا تكبر أبدًا؟!

لوحة فنّيّة ساحرة

الكتاب الجديد، صادر عن “دار الفارابي”  بعنوان “حافية بين عُمرين”، وأوّل ما يطالعنا في الصفحات الأولى، الإهداء، وهو صورة شعريّة أو لوحة فنّيّة ساحرة.. خاطبت فيها أباها:

“ها أنا أسْتَرجِعُ حقّك في حياة لم تعشها في حلم لم يتسنّ لك الكتابة عنه في كلمات لم تقلها، وفي أنفاس لم تكملها.. أبي، ها أنا وكما وعدتك، أحيا عنّي وعنك، أستمتع الضّعف عن كلّ ما كان سيُمتّعنا معًا لو بقيت… برائحة الأرض بعد الشتوة الأولى كلّ عام. لوشوشة نسمات الصّبح العذراء في أُذُن الكون كلّ شروق. برنين خلاخل جاريات الليل السّمراوات، نُهرهر عباءاتهنّ المطرّزة بنجوم برّاقة على جسد السّماء كلّ غروب.. بدندنة المارد الأزرق أمام حبيبته غزالة السّماء الدّائخة نُعاسًا بين أحضان الزّمرّد اللألاء.. بطعم أوّل تفّاحة خضراء في أوّل كلّ خريف.. برائحة الكتب في حقائب التّلامذة، الجديدة، كلّ أيلول.. بلمسة أصابع كلّ مولود جديد أراه.. بعِشرة النّاس ذوي النّفوس الأبيّة، بالحبّ، بالصداقة، بالجمال، بالحريّة، بالأمومة، بالأدب، بالكلمات بالحزن المؤنّق، بالذّكريات وبالشّعر الإلهي…    أبي، قُلتَ لي ذات طفولة صارت سحيقة.. إقرأي، ولن يَمَسَّ الليلُ روحك أبدًا.. اكتبي، ولن تحتاجي يومًا للبكاء على كتف أحد.. فقرأتُ كثيرًا وكتبتُ كثيرًا.. وأيضًا عنّي وعنك، وسأظلّ أكتب، سنظلّ نكتب معًا إلى أن نلتقي…”.

كلمات هي ترانيم سماويّة وأناشيد وتراتيل صلاة.. بواكير مواهب تتفجّر ينابيعها.. تتفوّق حصرًا واختزانًا، وتتدفّق سخاء من عطاء يُرضي، لأنّه عطاء حرّ لا يقيّده قيد، ولا تصونه إلاّ إرادتها الصّلبة، إذ أنّ لها من رهافة الحسّ وتذوّق الجمال وسعة الوعي، ما يجعلها في المقدّمة… والمناخ النّفسي ضرورة ملحّة في حياة الأدب وشرط أساس في عمليّة الإبداع.. وفي وقت أنّ الأدب يُعتبر تجسيدًا مطلقًا لذات صاحبه… وللحبّ قوّة عظمى تَلِجُ على مؤثّرات الفرد، وتتعمّق في إحساسه فتردّه إلى واقعه. الحبّ يُرهف الشّعور وَيُنمّي الحسّ ويعطي الإنسان صورة كاملة لمعنى حياته ومكنونات عقله، ويزيد قدرته على التّخيّل، ويُوسّع مِساحات الخيال أمام عينيه فيرى ما لا يُرى.. والحبّ عبارة عن امتزاج الحسّ الرقيق والشّعور الشّفاف بالجمال، والتجلّد واللهفة…

والمعلوم، أنّ العمل الأدبي، في دائرة تنظيمه، يُشكّل نوعًا من أشكال الوعي الاجتماعي والنّشاط الإنساني، ويعكس بصورة فنّيّة وحضاريّة، القدرة على التّصوير الجمالي العام.

“ذات أرق”

إصدارها الأوّل “ذات أرق” تضمّن مجموعة قصائد مُرسَلة بمائة وعشرين صفحة من القطع الوسط ومن ثلاثين زمرّدة بعناوين جاذبة غلب عليها طابع الحبّ والشّوق واللهفة للّقاء. و”حافية بين عمرين” استعادت به مريم شمص حقّها في حياة حرّة كريمة  قَضَتْ معظمها ومنذ ولادتها وطفولتها في أحد أحياء مدينة صيدا القديمة، وهي تتصوّر طفولتها البعيدة وتستنشق روائح الشّوارع الضّيقة التي تنبعث منها أصوات البائعين…

طفولتُها التي تختبئ في كلّ خليّة من كيانها.. ومنافذ عُمرٍ مضى، كانت مُشرعة على السّماء والهواء، خضراء مُعْشَوْشبة كزغب شَعْرٍ أشقر على جبين طفل حديث الولادة.

وأخيرًا فمريم شمص تؤمن بأنّ في الأدب والشّعر حياة المجتمع، وهما القلب النابض للحياة. فالأدب على لسان أحد الحكماء، يخاطب العقل، والشعر يخاطب العاطفة.. والذي يميّز روايتها الجديدة أنّها جاءت بعبارات وجُمل جاذبة مسكوبة بقوالب فنّيّة تحاكي القلب والوجدان، ممّا يدلّ على نضارة وسعة أفقها وخيالها الرّاقي حيث استطاعت الدّخول، بوقت قصير إلى ذهن القارئ مستبدلة حبر يراعها بعصارة احساسها المرهف.

وتختم مريم مريم شمص فصول روايتها بفِقْرةٍ ترى أنّها ستترك أثرًا بالغًا في نفوس القرّاء حيث جاء فيها: “مغامرة غير منطقيّة، فلتدمّرني إن شئت.. فأنا مَيّتة منذ زمن بعيد، وبعدّة أشكال.. متُّ كثيرًا كي أَصِلَ إلى هنا وكي أَتحوّل إلى مُقامِرة مجنونة تلعب بكلّ ما لديها لتعيش مرّة واحدة.. مِتُّ أوّل مرّة حين أَعْلَنَتِ الحياةُ موت أبي.. ومرّة ثانية حين خطف الموتُ نفسَهُ أُمّي.. ومتُّ الموت الأكبر حين خَذَلَني قلبي باختياره زوجًا اغتال فيّ نفسي التي أُحبّها.. فلأُجرّب إذًا أن أعيش قبل موتي الأخير.. ولتكن موتة لذيذة، تستحقّ من أجلها أن أَموت…”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *