"نشيد مشرقي" لربيعة أبي فاضل:

Views: 12

مزاوجة بين الملحمية والغنائية

 في نصّ شعري مكثَّف

adib-2
د. أديب صعب ود. ربيعة أبي فاضل

د. أديب صعب

يكتب الشاعر ربيعة أبي فاضل قصيدة طويلة عنوانها: “نشيد مشرقي” (دار الإبداع، 2015 في 128 صفحة)، مؤلَّفة من مقاطع يغلب عليها النثر الشعري، في نص شعريّ صوفي يجمع الغنائية إلى الملحمية، ويتنقَّلُ تعبيراً، بين النثر والشعر الموزون، تتخلّلها بعض قطع بالفرنسية. لعلَّ مُقتضيات هذا البوح، الذي يذود فيه الكاتب العبارة ذوداً عنه، تُفسِّرُ التّنويع. ومَنْ يعرف الكاتب لا يشكّ في أن هذا التنويع نابع من تجربته الصّوفية الأَصيلة التي تحوّل الحياة كلمة تحلّ بيننا.

rabiaa-abi-fadel
د. ربيعة أبي فاضل

جاء في ختام القصيدة أنها كُتبت في العام 1914. الأمر مفهوم نظراً إلى معاناة مسيحييّ الشَّرق المستمرة حتى اليوم، بعد موجات القتل والقهر والتشريد والتهجير الحاصلة في سوريا والعراق، وما بينهما في “بلاد ما بين النهرين”. هذا يعيد إلى الذاكرة كتاب الأب إسحق أرملة التوثيقي الصادر في العام 1919، بعنوان: “القصارى في نكبات النصارى”، راوياً ما حلّ بتلك المنطقة وسكانها السريان والكلدان والأرمن، خلال الحرب العالمية الأولى. وها هو التاريخ يعيد نفسه.
تذكرّتُ كتاب الأرملة لأنه يُلقي ضوءاً ساطعاً على نشيد أبي فاضل المشرقي. ولئن كانت غالبية القرّاء، حتى المعنيين، تجهل هذا الكتاب اليوم، إلاّ أني أراه ضرورياً من أجل فهم أفضل لكلّ كتابة تاريخية أو اجتماعية أو أدبية أو سواها ذات علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بموضوعه. لكن من الغنيّ عن القول أنّ كتاب الأب أرملة يبقى تاريخياً – توثيقياً، بالرغم من استشهاداته الشعرية الكثيرة، ونفسه الملحمي، وعدم إغفاله “الجزئيات”، أي ما حلّ بالكثير من الأفراد الذين يسمّيهم، في حديثه عن “الكلّيات”، أي أعداد المنكوبين.
مع ربيعة أبي فاضل نحن أمام نصّ شعري يشير أحياناً إلى حوادث تاريخية تُعَدُّ معرفتها ضرورية لاستيعاب هذا النص استيعاباً أفضل. إنه نص تندمج فيه الملحمية بالغنائية، في إطار لغة دينية مسيحية كثيفة. هنا شمس الشرق تخبر “عن جراحهم، والقمر يحمل الأنين”. كما تخبر طيور المغيب عن رحيلهم في الغابات وعن “الجوع الذي أكل الأطفال وعن الليل الذي ابتلع الفجر”. ينظر حوله في كل جهة، فإذا “لا دجلة دجلة ولا الفرات فرات، وصحارى العطش تجتاح رمال القلوب من كل الجهات”. يتذكر ما حلَّ بالموصل في العام 1915 قبل أن يتكرر هذا بعد مئة عام، فيناجي الله بيأس: “ألم ترَ أهلنا في الشرق يُذبحون بأيدي الأشباح؟”، “وإلى متى تبقى إلهي صامتاً؟”، صامتاً عن “الأمّية الإيمانيّة” و”الخبث في صلوات آدم الحديث”، وعن شرقٍ “جعل القتال إلهَه، وتعاسة الإنسان أُولى المكرمات”.

adib
د. أديب وليام صعب

تلتمع في عيني الشاعر خيالات البوسفور، ودجلةَ، والعاصي، وجبل آرارات، والملاحم المستمرّة منذ مئة عام، التماعَ “أَنهارٍ من دماء لا تجفّ ومن هجرات لا تقف”. يرى أهله “يعبرون الآن، جبال سوريا وسهولها… وغداً يعبرون جبال الأرز والسّهول الفينيقيّة إلى البحر”. ويتساءل: “أيها الشرق، أيحيا الفضاء من دون طيور؟”. ويتمنّى لو يصير حمامة تمخر الأَجواء إلى القدس، إلى جبل الزيتون، حيث تسجد باكية، أو حكيماً أَشورياً يحمل الهدايا إلى “طفل الحياة”. وبحكمة تُذكّرنا بنبرة تي إس إليوت في “رباعياته”، يقول مخاطباً نفسه: “كن بسيطاً في دنيا البراعة، وزاهداً في عالم الكنوز… وتَزَوَّجِ السماءَ لأَنَّها وحدها تُنْجِبُ الملائكة والأولياء”.
ويتساءل أَبي فاضل بلغة توراتية: “مَنْ يعيد روح الله إلى وجه المياه؟”، بعدما كان قد خاطب الشمس بنبرة سومرية – فرعونية: “يا رفيقة الإنسان الكامل، يا كلمة الإله الأزلي”، وأيضاً بلغة إنجيليلة: “يا ممتلئة نعمة”، موحّداً بين نور الشمس والنور الإلهي: “أيها النور الذي لا يراه إلاّ النور، متى تنوّر وجودنا؟”. وبعد إعلان اليأس: “كمسيحي شرقي، ليس لألحاني مدى في هذا الشرق”، يجد الرجاء في الموت، لكن ليس أي موت، بل ذاك الذي هو “نور”، وهو “جسر للعبور نحو الحبيب”.

cover
غلاف كتاب “نشيد مشرقي”

وَيُنهي نشيده وقد سلخَ الخوفَ مِنْ ذاته وتَعرّى من التّراب وعبرَ الصَّحراء والسَّراب: “لم أعد أُبالي متى وكيف وأَين، لأَنّي خرجتُ على الزّمان، وصار المكان ورائي، وأَلْبَسْتُ الجسد ضوءاً، وجعلتُ الروح طائراً يُحَلِّقُ حيثُ يشاء”. ويتحقّق الانتصار على الموت بعدما “صار الموت قيامة”، فيقول: “هل لي أن أحمل الطِّيب مع الحاملات، أن أقبّل الصَّخر عند الفجر، أن أشهد أنّه تزحزح في الهواء؟ هل لي أن أنزع المسامير من جسد السّماء، وأن أحرّك كيانَ الأَرض كي تَستيقظَ وتفرح بالربيع؟”.
هكذا نطوي نشيد ربيعة أبي فاضل، هذا الإنسان الشاعر، المرهَف، العميق، وقد انطبعتْ منه على صفحة قلوبنا أَلحانٌ لا تنتهي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *