قصرالحَمْرَاء

Views: 832

أصبحَ اليوم من أكثر المَعالم التاريخيّة جذباً للزوّار فى إسبانيا

قصرالحَمْرَاء في غرناطة يَسترجِعُ رَونقَه وإشْعَاعَه وبَهَاءَه

وبَهو السباع فيه يُفصِحُ عن “سرٍّ مَكنون بعد عدّة قرون”!

maxresdefault
بركة السباع في باحة القصر العربي

مدريد – د.محمّد م. خطّابي

كانت مديرية مجلس إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف،ومختلف وسائل الإعلام والصحافة الإسبانية قد أفادت مؤخّراً أنّ الخبراء والمرمِّمين الإسبان العاملين فى قصر الحمراء الشّهير بغرناطة عثروا من باب الصّدفة أثناء عملهم اليومي الإعتيادي المتواتر على رسوماتٍ وتصاويرَ فى بهو الأسود أو ساحة السّباع بقصر الحمراء .
وتفيد هذه المصادر كذلك أنّ الجهة الشرقية من معلمة “بهو السّباع” بالحمراء ظلّ يحتفظ لعدة قرون بسرٍّ لم يفصح عنه الزّمان إلاّ فى الأشهر الأخيرة، والذي يقدّم نموجاً آخر جديداً لفنون الإبداع التي تخفيها أروقة، وغرف وباحات هذا القصر العربي والمعلمة الفريدة التي أبدع فى إتقانها السلطان الأندلسي المجدّد محمد الخامس الغنيّ بالله، فقد إكتشف الخبراء المرمِّمون المكلفون بالحفاظ، وصيانة هذه المآثر العمرانية المبهرة إستعمال المهندسين المعماريين الأندلسييّن لطرائق ووسائل وتقنيات متقدّمة تختلف عن تلك التي كانت تُعرف عندهم حتى اليوم،وقد وصف الخبراء هذا الإكتشاف بأنه تقنية جديدة جدّاً،كما تم ّ العثور من طرف هؤلاء المرمّمين خلف الأخشاب المنحوتة التي تغطي أسقف الغُرف والباحات بهذا البهو البديع على بعض الرّسومات، والتصاوير التي تعكس الصّور الظلية لبعض الحيوانات،وهذه الرسومات لم تكن معروفة ولا مألوفة وغير معتادة في تلك الفترة .
العنصر الجديد الآخر الذي إكتشفه الخبراء المرمّمون أنّ تركيب المواد الخشبية فى الأسقف يكمن فى القِطع، والجزئيات الخشبية التي لها شكل نجمة، وكل قطعة تنتهي بإحدى عشرة نقطة أو نهايات مسنونة، فى حين أنّ هذه القطع كانت من المعتاد تنتهي بسنّيْن إثنيْن فقط، وكانت هذه القِطع الخشبية المتماسكة والمتلاحمة فيما بينها تُستخدم لتناسب شكل النصف الدائري من القبّة، وهي الخاصّية الجديدة التي تجعلها فريدة من نوعها، ويرجع تاريخها إلى عام 1380 (القرن الرابع عشر). ولم يكن معروفاً حتى اليوم لدى الخبراء بوجود أشكال هندسية من هذا القبيل فى الأسقف الخشبية من بين مجموع هذه البناءات العمرانية.

lion-courtyard-palace-alhambra
من زخرفات سقف بهو السباع
إكتشافات جديدة
وتشير الخبيرة المسؤولة عن فريق العمل الذي يقوم بهذه المهام ماريا خوسّيه دوميني إلى أنّ: “الخصائص التي تمّيز هذه القبّة كونها تقوم على إستعمال الأسفاط،( يقول معجم العُباب الزاخر)” الطَّنَفُ والطُّنُفُ – أيضاً- إفْرِيز الحائط، وكذلك السَّقِيْفة”، وربما قد تكون هذه الكلمة قد إنتقلت إلى اللغة الإسبانية وإسقرّت فيها وإستعملتها الخبيرة باسم (zafates ) وهي تعني بها قطعاً مستطيلة من الخشب غير إعتيادية بالمرّة، والتي لم تقع أعينهم عليها من قبل، وعلى حدّ تعبير الخبيرة والمرمّمة الإسبانية: “أنّ لهذه القطع أشكالاً غريبة جدّاً ونادرة بحيث ليس من السّهولة واليُسر بمكان وضع إسم خاص لها أو بها”، كما توضّح أنه من المستجدّات الهامّة التي تميّز هذه الخشبات أنّ جميع هذه “اللوحات ” هي منحوتة وناعمة ملساء بنسبة تسعين فى المئة. وتضيف ماريا خوسّيه دوميني أنّ: “أهميّة هذا الإكتشاف تكمن فى معرفة الطريقة والتقنية اللتين كان مهندسو وصنّاع بني نصر التقليدييّن يعملون بهما، ونوعية الفسيفساء والزّخرفة التي كانوا يستعملونها، والتي لم يكن لنا علم بها أو عنها من قبل”،وتضيف الخبيرة: “هذا علماً أننا لم نفكّك بعد حتى الآن سوى العُشُر من السّقف، إلاّ أننا يمكننا أن نرى بوضوح التركيب الهندسي على أكمل وجه، كما يمكن أن نرى العلامات التي تعمل على تحديد كل قطعة، وهناك من يعتقد أننا عند معالجتنا للجزء الثاني من هذه المعلمة التاريخية سنجد تراكيبَ هندسيةً شبيهة بالسابقة”.
رسومات نباتيّة وحيوانيّة
وتؤكد الخبيرة الإسبانية أنّ هذا ليس هو السرّ الوحيد الذي تمّ إكتشافه، ذلك أنه فى معظم القطع التي تمّ تفكيكها فى السقف عثر المرمّمون فى ظهرها على رسومات وتصاوير تعود لعهد بني نصر، ولقد تمّ العثور على هذه الرسومات عند بداية عملية ترميم هذه المعلمة. وعندما تمّ تسليط الأضواء على هذه الموجودات لم تظهر فقط الرّسومات النباتية،والأشكال الهندسية، وأشكال آثار الزّينة، والزخرفة،والتنميق،بل ظهرت كذلك الرموز ومظاهر غير عادية أو معتادة في ذلك الوقت، فضلاّ عن رؤوس بعض الحيوانات أو البَشَر. لقد كان من المعتاد إستعال الزخارف النباتية، إلاّ أننا في هذه الحالة، وجدنا أيضاً، على سبيل اّلمثال، وليس الحصر شكلاً مصغّراً يمثل رأس كلب”، وأكّدت الخبيرة الإسبانية: “أنهم مع تقدّم عملهم فى هذا المجال يُنتظر بكلّ تأكيد أن نجد مزيداً من الرسومات”،التي قالت عنها أنها بحكم تواجدها فى الجانب الخلفي من الأسقف الخشبية ونظراً لعدم وجود الورنيش (البرنيز) أو الأوساخ، أو الأتربة بها فقد ظلت محفوظة بشكل مدهش،وقالت إن جميع الرّسومات التي تمّ العثور عليها ستصوَّر، وسيتمّ حفظها ووضعها ضمن أرشيف خاص لتكون رهن إشارة الدارسين والمتخصّصين.
Patio of the lions plaster detail from the Alhambra palace
سقف… يكشف عن معلومات جديدة
وقالت الخبيرة الإسبانية انه لا يُعرف لحدّ الآن لماذا تمّ رسم هذه الرسومات التي لم تكن إعتيادية فى ذلك الإبّان، وأضافت قائلةً – على سبيل الدّعابة والمزاح – ربما كان الملل هو حافزهم لوضع هذه الرسومات، وفسّرت ذلك بقولها: “مثلما نفعل نحن اليوم عندما ننتظر مكالمةً مّا فنقوم بخربشات على ورقة بيضاء، إلاّ أنه من المؤكد أنهم لم يتخيلوا أننا سنعثر يوماً على أعمالهم،أو نكتشف رسوماتهم”.وقالت إنّ هذه الرسومات التي تمّ العثور عليها بين تعاريج، وثنايا وخبايا المعلمة الأكثر جذباً للسياح فى إسبانيا،تخرج اليوم إلى النور على الرّغم من أنه ليست المرّة الأولي التي يتمّ فيها معالجة وترميم هذه الجدران التي سبق أن رمّمت عامي 1923 و1936 .
وعلى إثر هذا الإكتشاف قال مدير مجلس إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف، رينالدو فرنانديث مانثانو. :”أنّ قصر الحمراء ما فتئ يفاجئنا فى كلّ مرّة “ وعليه فإنّ عملية الترميم ستستمرّ على إمتداد الإثنى عشرة شهراً القادمة” وقال لابدّ أنّ هناك أسراراً أخرى قد يتمّ إكتشافها فى الأشهر المقبلة. ويشير مسئول آخر لعمليات الترميم وهو “رامون روبيو”: “أنّ عملية الترميم في الجانب الشرقي من معلمة بهو السّباع بقصر الحمراء ليست هي العملية الوحيدة التي يقوم بها الخبراء الإسبان حالياً بأعمال صيانة وترميم الجصّ،بل إنهم منكبّون كذلك على ترميم قاعة الملوك، وتتمّ الأعمال لأوّل مرّة فى هذا القبيل طبقاً للمعايير والطرق العلمية الدّولية الدقيقة المستعملة فى معظم المآثر والمعالم العالمية فى الوقت الراهن.
أولى المعالم جذباً للزوّار

alhambra-by-geoffrey-morrison-13

 منذ بضع سنوات كانت قد عادت سباع قصر الحمراء لتزأر من جديد فى البهو الكبير الذي يتوسّط هذه المعلمة المعمارية والحضارية الإسلامية الفريدة التي ما فتئت تبهر عيون الملايين من الزوّار، وتذهل عقولَهم وألبابَهم من كلّ الأعراق والأجناس الذين يتقاطرون عليها كل يوم بدون إنقطاع من كلّ صوب وحدب. حتى أصبحت هذه المعلمة تحتلّ المرتبة الأولى بين مختلف المعالم والمآثر التاريخية والعمرانية ” الإسبانية” من حيث جذبها للزوّار، – وحسب إدارة قصر الحمراء وجنّة العريف- فإنّ كلا من” قصر الحمراء” وملحقته “جنّة العريف ” قد حققتا رقماً قياسياً تاريخياً فى السنوات الأخيرة حيث زارهما ملايين السياح .وفاقت بذلك بكثير جميع المعالم التاريخية الإسبانية الأخرى. عادت هذه الأسود، وآبت إليها المياه البلّورية العذبة تتدفّق من أفواهها بخريرها المتناغم منسابة رقراقة على إيقاع أصوات موسيقية غنائية سحرية أسطورية زريابية لا تسمعها سوى آذان جدران الحمراء!.
رحلة إلى الماضي البهيج
أعمال الترميم كانت قد بدأت منذ عدّة سنوات، عمليات دقيقة خضعت لها هذه الأسود لتعيد لها رونقها القديم، وإشعاعها وبهاءها الذين ليس لهما نظير.لقد أصبح المرمر الأبيض الناصع يغطّي أرضية هذا البهو البهيج، والمياه تنساب فى لطف بين” السّواقي” التي تملأ المكان كما كانت عليه فى عهدها السابق فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر (مازالت كلمة “السّاقية” تستعمل فى اللغة الإسبانية إلى اليوم بنفس معناها العربي القديم ” acequia”) .
خضعت هذه الأسود الإثنى عشر الأصليّة لعمليات ترميم دقيقة بعد أن نزع عنها الخبراء كل ما علق بها من المواد الغريبة بفعل التآكل والتحات والرطوبة ومرور الزمن، وإكتشف المرمّمون خلال عملهم أنّ كل أسد من هذه الأسود يختلف عن الآخر، وهذه الفوارق يمكن الآن مشاهدتها بشكل أكثر وضوحا من ذي قبل فى فروها، وفكاكها، وخطامها،وأذنابها، بل وحتى فى تعابير وجوهها، وقد بلغت تكاليف الترميم ما ينيف على 2.24 مليون أورو .بمشاركة أزيد من مائة خبير ومتخصّص فى عين المكان الذي توجد فيه الأسود .

بالإضافة إلى عمليات ترميم السباع تمّ إصلاح وتحديث النظام الهيدروليكي أو المائي وتصفيته بعد أن كان قد إعتراه البلى وعلقت به بعض المواد كالكلس وعوالق أخرى، كما تمّ إستخراج المياه الآسنة، وتنقية المجاري الجوفية، وتركيب نظام هندسي متطوّر خاص لمراقبة حرارة المياه لتفادي إلحاق أيّ أضرار محتملة سواء بالقنوات والمجاري المائية، أو بمجسّمات السّباع مع مرور الزمن وإنصرامه . ويشير الخبراء الإسبان الذين أشرفوا على هذه العمليات أنهم قد أعادوا إستعمال الممرّات المائية الدفينة (غير المرئية)وإستغلال نفس المياه القادمة من النبع القديم الذي صمّمه وإستعمله الخبراء المسلمون فى القرن الرابع عشر بأمر من السلطان الأندلسي محمد الخامس من قمّة المنحدر المعروف باسم : “السّبيكة ” .

AJP_4390.jpg

الأعمال الترميمية البالغة الدقّة التي أنجزت فى هذا الشأن والتي تنقل الزائر الجديد للحمراء في رحلة سحرية إلى الماضي البعيد تمّت إستنادا إلى مراجع ووثائق تاريخية قديمة تعود للعصرالذي شيّد فيه قصرالحمراء، وبناء على شهادات وأوصاف العديد من المؤرخين العرب والأجانب. وحسب المؤرخ الألماني “هيرومينوس مونسير” (1434- 1508) فإنّ أرضية البهو فى زمانه :” كانت كلها مكسوّة بالمرمر الحرّ الأبيض، وكانت القنوات المائية التي تمخر المكان والتي تنطلق من النبع ترمز إلى الأنهارالأربعة التي تقود إلى الفردوس” . ويشير المهندس الإسباني “بيدرو سالمرون” الذي أشرف على عملية وضع المرمر الجديد : ” أنّ كل الشهادات والرّوايات فى ذلك الوقت تؤكّد أنّ الأرضية الجديدة هي الآن تماماً كما كانت عليه عندما رآها لأوّل مرّة الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإزابيل بعد دخولهما لغرناطة، وأنه قد تمّ وضع 250 قطعة من المرمر على مساحة 400 متر مربّع ذات مقاييس وأوزان متباينة تتراوح بين 50 و400 كيلوغرام”. وإبتداء من الآن- بعد هذه الترميمات الدقيقة – فإنّ بهو الأسود وجميع أركان قصر الحمراء وملحقاته ستخضع لمراقبة صارمة،وحراسة مشدّدة، وصيانة دورية منتظمة.
ساحة السّباع أو بهو الأسود هي من إنجازات السلطان الأندلسي محمد الخامس الغنيّ بالله، وهي تضمّ الباحة التي تتوسّط قصر الحمراء بأسودها الإثنى عشر، والبناءات المحيطة بها مثل قاعة الأختين، وقاعة بني سرّاج، بالإضافة إلى قاعة الملوك، (أو قاعة العدل) وقاعة المقربصات، بالإضافة إلى النافورة التي تتّخذ شكل قصعة مستديرة بديعة الشكل كحوض من المرمر يحملها إثنى عشر ضرغاماً تمجّ المياه من أفواهها وتتطاير لتسقط فى رفقٍ ولطف وإنسياب على جنبات النافورة المحيطة بها (أنظر مقالنا ” إبن السرّاج والحسناء شريفة” فى جريدة ( الأنوار) .
الحمراء ألبوم شعري
للمستشرق الإسباني الكبيرالراحل إميليو غارسيا غوميس كتاب تحت عنوان :” قصائد عربية على جدران وينابيع الحمراء”  هذا الكتاب هو عصارة عمل يمتدّ لسنوات طويلة، بدأ فيه المؤلف منذ أن كان حديث العهد بالوصول إلى غرناطة عام 1930 ليشغل أستاذ كرسي فى جامعتها، حيث طفق فى العمل على جمع مواد هذا الكتاب ثم إنقطع عن ذلك، وفى عام 1943، ضمن الخطاب الذي ألقاه غارسيا غوميس عند قبوله عضوا فى المجمع التاريخي الإسباني تحدّث عن إبن زمرك شاعر الحمراء ففاجأ الحاضرين بالمعلومات التي قدّمها سواء عن هذا الشاعر أو عن الحمراء التي تعتبر فى نظره ظاهرة فريدة من نوعها فى العالم . إنّ قصر بني نصر الكبير يعتبر بمثابة ” مصنع” إعجاب، وهو خلاصة حساسية مفرطة، وذكاء وقّاد أكثر ممّا هو مصدر ثراء ورفاهية وترف . يحتوي هذا القصر على ” ديكور” يكاد يشبه أرقى ديكورات المسارح العالمية، بل يفوقها جمالا وجلالا لأنّه ديكور حيّ دائم خالد وموح بالحبّ الذي ينبعث من كل جوانبه.
تضمّ الحمراء بين جوانبها خاصيّة مميّزة ومحيّرة بكونها تعتبر ” ألبوما” شعريا لثلاثة وثلاثين قصيدة تنتمي لشعراء معروفين أو مجهولين، كتبت أو بالأحرى نقشت أشعارهم على المرمر المصيص الخالص، أو الخشب الصلب، فى جدرانها ونافوراتها وهي تكوّن بذلك فى دقّة وانسجام رائعين صنفاً من الأصناف الأدبية التي يمكن أن نطلق عليه بالشعر المنقوش كتابة .

granada_14660_3

إنّ نهي القرآن على تقديم أشكال مشخّصة للأحياء، قد أدّى إلى أوج إزدهار الفنّ الكتابي أو فنّ الخطاطة حيث بلغ مستويات فنيّة راقية لا مثيل لها فى أيّ ثقافة أخرى . قال قائلهم في هذا الصدد: “تعلّم قوامَ الخطّ يا ذا التأدّبِ/ولازم له التعليمَ فى كلّ مكتبِ/فإن كنتَ ذا مالٍ فخطّك زينة/وإن كنتَ محتاجا فأجملُ مكسبِ”.
لا تنفرد الحمراء بهذا المستوى الجمالي وحسب، بقدر ما تنفرد القصائد المسطّرة على جدرانها كذلك بنفس المستوى، إن ّتكاثف هذه الظاهرة وتدرّجها يمكن أن تلمس بشكل ملحوظ فى القرن الرابع عشر. هناك ثلاثة أسماء تمثل القصيدة المنقوشة وهي: إبن الجيّاب، ابن الخطيب، وابن زمرك وهو أهمّهم وقد شغل الثلاثة جميعهم منصب الوزير الأعظم، وكانوا كتّابا كبارا للبلاط الملكي، إننا إذن أمام فنّ غنائي بلاطي بمعناه الواسع، إذ كانوا يشرفون بأنفسهم على تزويق وتنميق المباني، كما كانوا يشرفون على وضع القصائد والزيادة أوالنقص فيها أو منها حتى تتلاءم والحيّز المكاني المخصّص لها فى مكانها من القصر، كان عملهم ضرباً من ضروب الفنّ والثقافة والشّدو والغناء واللّهو والتّسرية والتسلّي، وبهذه الرّوح كان الملك يوافق على مقترحاتهم .
إنّ تعاطي الشعراء الثلاثة للسّياسة يفسّر الأخبار الكثيرة المتداولة عنهم والتي لها صلة بهم، فإثنان منهما اغتيلا نتيجة الصراعات التي كانت تنتشر وتحتدم فى القصر وهما ابن الخطيب وابن زمرك، أمّا ابن الجيّاب فقد أمكن له أن يموت فى سريره ضارباً بذلك ” رقما أوليمبيا قياسيا” فى غرناطة بني نصر .. أعماله غير معروفة جيّدا وهي مبثوثة فى كتب وتآليف مختلفة وضعت فى حقب متفاوتة من التاريخ .
وتحتل كل قصيدة من القصائد الثلاثة والثلاثين لهؤلاء الشعراء مساحة تتراوح بين أربعة وعشرين بيتاً من حيث التركيب فى عدّ تنازلي حتى تصل إلى بيت واحد. وأوسط هذه القصائد تتراوح بين أربعة وثمانية أبيات .
يتحدّث الشاعر بشكل مباشر إلى شخص الملك الباني،أو الملك المتفرّج، أو يستفهم الآثار والمعالم. أو يشخّص المكان الذي توجد فيه الخطوط المكتوبة شعراً .ويجعل التركيب برمّته مجموعاً فى فم المكان ذاته.
القصائد التي تنمّق الجدران والنافورات والحيطان توجد فى المشور و(ساحة الأسود)،والأبراج وفى جنّة العريف .هذا التنظيم الطوبوغرافي هو الموجود فى الكتاب. وبطبيعة الحال فإنّ التركيبات ليست تصوّرية فى شكل واقعي ذلك أنّ الحمراء لو إختفت فرضاً فإنه سيكون من غير الممكن الإقتداء بهذه القصائد لإعادة تشييدها من جديد.
لوركا وتكريمه لشعراء الحمراء
من القصائد التي تسترعي إنتباه الزّائر/ القارئ /المشاهد على هذه الجدران تلك التي توجد فى قاعة “الأختين” فى(بهو الأسود). إنّ ابن زمرك هو الغسق اللمّاع الآيل للغروب للقصيدة العربية الأندلسية التي كانت ما تزال تحتفظ بجمالها ورونقها فى عهده، إلّا أنّ مجموع هذه القصائد تشكّل جمالية مركّبة لا يمكن فصلها عن الإطار الذي توجد فيه.
يشير الباحث الإسباني ” مغيل غارسيا بوسادا” أنّ هذا العمل الأدبي يعدّ ذا قرابة بالشعر الاسباني الحديث، إذ يشير المؤلف أن ّ الشاعر الغرناطي الكبير فدريكو غارسيا لوركا كان قد قال له فى خريف 1932 أنّ فى نيّته وضع كتاب عن ابن زمرك الذي نشرت بعض قصائده فى أحد أكبر الدواوين جمالاً فى العالم، والذي صدر فى مستهلّ الحرب الاهلية الإسبانية حيث أجاب المستشرق غارسيا غوميس فى حينه أنه بدوره كان قد أعدّ ديواناً تكريميّاً لهؤلاء الشعراء الغرناطيين القدامى، ويشير الكاتب أننا نعرف أنّ هذا الديوان لم يكن مكتملاً كمجموع عضوي، وأنّ أجمل محتوياته وأكثرها إثارة هي قصائد الشعراء العرب الأندلسيين الذين كان المستشرق غارسيا غوميس قد نشر بعضها فى ” مجلة الغرب”عام 1928 وأعجب بها لوركا أيّما إعجاب.

1605

ويشير الكاتب أنّ السّبب الذي جعله يعمل على إصدار ذلك الديوان الكبير كان هو الحوار الذي دار بين المستشرق غارسيا غوميس والشاعر غارسيا لوركا. إذعندما كان غارسيا لوركا يقدّم قصائد ديوانه عام 1935 فى مدينة برشلونة سجّلت الصحافة الصادرة فى ذلك الوقت بهذه المدينة ما يفهم منه إعترافه بتفوّق سكّان الأندلس فى الإبداع الشعري وإعجابه بهم، حيث قال قبيل قراءة ديوانه أمام الملأ : ” إنّ الأشعار التي يضمّها هذا الديوان هي مهداة إلى الشعراء العرب الذين كتبوا قصائدَهم على جدران قصرالحمراء بغرناطة ” .
تبلغ مساحة قُطر سقف بهو الأسُود حوالي ثلاثة أمتار ونصف المتر،ويعلوه 669 من القطع الخشبية المنحوتة بشكل هندسيٍّ بديع على هيئة أنجم، وتتمركز الزّخرفة فى الشكل المثمن في الأعلى، الذي نُحتت قطعُه كذلك بدقّة متناهية متعدّدة الألوان.ويعتبر بهو الأسود من أشهر أجنحة قصر الحمراء، وهو بهو مستطيل الشكل، تحيط به من الجهات الأربع أروقة يحملها مائة وأربعون عموداً من الرّخام الأبيض الناصع، وعليها أربع قباب مضلّعة .ويؤكد المؤرّخون أنّ نافورة الأسود على حوضها المرمريّ المستدير إثنى عشر أسداً من الرّخام الخالص كانت المياه تخرج من أفواهها بحسب ساعات النهار والليل، وقيل إنّ مخارج هذه المياه تعطّلت حين حاول الإسبان التعرّف على سرّ وكيفية إنتظام تدفّق المياه بالشكل الزمني المتواتر الدقيق الذي كانت عليه. وكانت فوّارات ونافورات وحدائق وبساتين قصر الحمراء وجنّة العريف نموذجاً متطوّراً ومحيّراً لما أدركته هندسة الريّ والسقي والبستنة، وبلغته الفنون المعمارية الأندلسية فى هذا القبيل من أوجٍ ورقيٍّ فى ذلك الإبّان .

alhambra-palace-photo

*كاتب، وباحث، مترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأميركية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.


** ينشر في الأنوار مختصرا في وقت لاحق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. لا شكّ أنّ قصر الحمراء هو مَعْلَمٌ تاريخيّ وسياحيٌّ فريدٌ ويستحق التوقّف عنده، لما يتميّز به من دقّة في النحت، وجمال في البناء، بما يحويه من أشكال لا مثيل لها، وقد جاءت الصور التي أضافها الأستاذ جورج طرابلسي معبّرة، تترجم للعين ما كتبه سردًا عنها الخطّابيُّ بحِرَفِيَّةِ فنّان، مضيفًا شيئًا من السحر الى المكان، محفّزًا خيالنا للولوج في عوالمَ طواها الزمن، فإذا به يوقظها من سباتها ويدعونا للقيام بجولة داخل أروقتها، كاشفًا عن أسرار جديدة، توحي بوجود روايات لم تُحكَ بعد، ومن يدري فقد تكون هذه الخيالات والرسومات “في الجانب الخلفي من الأسقف الخشبيّة” دليلا جديدًا على حكاية لا تزال قابعة في ذاكرة التاريخ، وتنتظر من يخرجها الى الحياة! وكالعادة لا يبخل علينا الدكتور محمد خطابي بنقل شذرات من أجمل ما قيل شعرًا، كهذين البيتين حول الفن الكتابي حيث يقول: “تعلّم قوامَ الخطّ يا ذا التأدّبِ/ولازم له التعليمَ فى كلّ مكتبِ/فإن كنتَ ذا مالٍ فخطّك زينة/وإن كنتَ محتاجا فأجملُ مكسبِ”.

    1. الأديبة الرقيقة ،والكاتبة الأنيقة الأستاذة مارلين وديع سعادة..ماذا عساني أن أقول وماذا تراني أقول بعد هذه الكلمات البلّورية، الصافية، النقية،التي تثلج القلبَ، وتنعش الرّوحَ، وتحيي الوجدان .. شكراً لكِ أيّتها الكاتبة المجيدة،المقتفية لآثار الأندلس ، كما يقتفي الشّاعر المُعنّى”بابلو نيرودا ” لآثار أرْجُلِ النوارس على الرّمال،فى الشطآن النائية ، نصّكِ الجميل المُقتضب سجّادٌ طائر، وسردك زورق بلّوري ساحر، ينقلنا فى رحلةٍ ممتعة إلى عمق التاريخ،عبر قارب إسمُه اللغة فى أرقى مظاهرها، وأبهى حللها ، ليطيرَ بنا على ثبج الزّمن السّرمد، وغياهب المسافات، مهما شحط بنا المزار، أو بعدت عنّا الدّيار، جَلَمُككِ الأعلى يراعٌ أو بَوْصلة بيد ربّان، يجيد فنَّ الإبحار فى مباهج اللغة وشواردها، أشرعته كلماتكِ الموفية، وحيزومه أسلوبكِ السّلس ،باحثة فى ثنايا عن خبايا الحمراء وخفايا قصورها الغنّاء فى سديم الليالي الحالكات، والدياجي المدلهمّات بمصباح ديوجين لرصد آهات وزفرات خلفائها ،وشعرائها،وغاداتها ،وحسنواتها، وتسجيل حسراتهم (نّ)،ورصد تنهيداتهم (نّ)، لقد إرتقيتِ بأنفَاسنا،وأنفُسِنا ،وشنّفتِ أسماعَنا، بحلو الكلام، بحديثك عن درّة المدن،وبهجة الحواضرغرناطة الحمراء ، وقصرها القاني العامر، آخرمعاقل العرب الأقحاح ،والأمازيغ الأحرار فى هذا الفردوس المأسوف عليه ،إنّهم (نّ) :” أوتار تمزّقت عند تسويتها في قيثارات جُنح الليل” !… وجفّت مآقي دموع العاشقين، الوالهين ، المتيّمين على غرناطة الأولى،وبكوا ، وبكينَ أمام أعيننا وأعين العالم أخواتها اللاّحقات… !
      لعلّ شاعر الحمراء الذائع الصّيت إبن زُمْرُك الهائم فى الحمراء، و فى ماضي الحمراء، وشعر الحمراء،وأدب الحمراء، وموسيقي الحمراء، وتاريخ الحمراء ،وعُمران الحمراء، ورفاهية وترف الحمراء، وقصور، وجنان،وحدائق ، وبساتين، وحصون الحمراء، فخطّ لكِ بخطّ يده الجميل على حاشيةِ مرمرٍ مَسْنون، وذهبٍ مَوْضون ببهو الأسود ذاته – موضوع حديثنا وحديثك – هذه الأبيات الرّائعة التي يقول فيها :
      يذوبُ لُجَيْنٌ سالَ بين جواهر / غدا مثله فى الحُسن أبيضَ صافيَا
      تشابه جارٍ للعيونِ بجامدٍ / فلمْ ندرِ أيّاً منهما كانَ جاريَا
      ألمْ تَرَ أنّ الماءَ يجري بصفحها / ولكنّها سدّت عليه المجاريَا
      كمثلِ مُحِبّ فاضَ بالدّمعِ جفنُه / وغِيضَ ذاك الدّمعُ إذْ خَافَ وَاشيَا
      دامت لكِ سيّدتي المَصون هذه الهالة من الصّفاء، والنقاء، والبهاء ،والوفاء .
      غسق يوم الأحد 25 سبتمبر ( أيلول) 2016
      على ضفاف نهر ” التّاج” فى حاضرة أبي القاسم المَجريطي مدريد العامرة .