الاعتدال والقناعـة

Views: 1458

الأب كميل مبارك

حين قال أَرسطو «خير الأُمور أَوسطها»، ربَّما كان يفكِّر بالاعتدال كقاعدة أَخلاقيَّة سلوكيَّة. فالاعتدال لا يحرم الإنسان من الخيرات التي أُعطيت له في هذا العالم بل يلزمه بالاكتفاء بما يحافظ على قيمة الإنسان وكرامته. أَمَّا رغبات النفس التي تطلب المزيد والمزيد ولا تكتفي، فَهِيَ بحاجة إلى قوَّة كابحة.

الاعتدال هو فنُّ الاستفادة من خيرات الدنيا وقوى الجسد دون تسبيب الضرر للغير. والاعتدال صفة تلازم الإنسان، فالحيوان لا يعرف الاعتدال لأنَّ غرائزه تُسيِّره. فهو لايملك الحريَّة ولا الإرادة، والاعتدال هو ابن هاتين النعمتين اللتين أعطيتا للإنسان. وما عدم الاعتدال أو عدم القناعة إلاَّ جموح الرغبة في الحصول على أمر ربَّما حُرم الإنسان منه فزاد في طلبه وبَالَغ. وهنا يأتي الاعتدال ليلزم المرء بخير الأُمور أي بأَوسطها.

في الاعتدال يُثبت الإنسان أنَّه سيِّد نفسه وضابط رغباته، وكابح جماح أحاسيسه. فالاعتدال في الأكل والشرب والتدخين والممارسة الجنسيَّة وتجميع المال وزيادة المقتنى، يمنع الإنسان من الوقوع في الطمع والجشع وحُبِّ التسلُّط والتملُّك والاحتكار وحرمان الناس من نصيبهم من خيرات الأرض. الاعتدال فضيلة لأنَّه يجعل المرء يعيش إنسانيته الحقَّة ، وإذا كان الإيمان والرجاء والمحبَّة فضائل إلهيَّة بمعنى أَنَّنا نتوجَّه بها لله، فالاعتدال فضيلة إنسانيَّة بامتياز، ومهمَّة العقل البشري أن يُنَمِّيها ويجعلها الرقيب الساهر على السلوك، كي لا يجنح نحو الإفراط الذي يفقد التوازن.

– ما الفرق بين الاعتدال والتخلِّي الذي يعتمده بعض الناس؟

– التخلِّي أَو التجرُّد وبساطة العيش أو شظفه، هي خيارات النخبة من الناس، ومنهم المتوحدون والزهَّاد والرهبان وبعض الخاصة. أَمَّا الاعتدال فمطلوب من الجميع وهو من الفضائل الكبرى. وإذا رأيناه من زواياه كلِّها، لاحظنا أَنَّه ابن  محبَّة النفس بعدم إرهاقها بالإفراط ومحبَّة الآخرين لأنَّ الاعتدال يجعل الإنسان يقتنع بالقليل أو بالضروري للعيش الكريم. كما يجعله يفهم أَنَّ كلَّ ما يقتنيه أو يخزِّنه من مال ويحرم سواه منه، ليس له بل لمن يرثه بعد مماته. فالإنسان يملك ما يستخدمه لحياة كريمة، وكلُّ ما فاض عن ذلك ليس ملكاً له، وهو حقٌّ مغتصب من سائر الناس الذين لا يملكون ما يؤمِّن عيشهم الكريم.

– ماذا نقصد بالعيش الكريم؟ كلُّ واحد من الناس يضع مقاييس مختلفة للعيش الكريم.

– لقد ساوى الله الناس بكرامتهم الشخصيَّة وبحريتهم التي هي أغلى العطايا بعد الحياة. أمَّا المساواة بالمقتنى فليست شرطاً أساسيًّا لإظهار هذه الكرامة واحترامها. نسمع اليوم كلاماً كثيراً عن المساواة. كالمساواة بالحقوق والواجبات، أَو المساواة بين الرجل والمرأة أَمام القانون. كلُّ هذه بنود حسنة من شرعة العيش الكريم.

– لم تقل لي كيف يكون العيش الكريم بحسب رأيك؟

– لقد علَّمنا الإنجيل أَنَّ الاهتمام شيء والهمَّ شيء آخر. حين قال المسيح «أنظروا إلى طيور السماء فهي لا تخزن ولا تزرع والله يقوتها. وانظروا الى زنابق الحقل، فسليمان في مجده لم يلبس كواحدة منها». أَراد أن يعلِّمنا أنَّ العيش الكريم ليس بالمدَّخرات أو بالتخزين أَو بكثرة المال.

العيش الكريم هو عدم عازة الناس. أَن يعمل الإنسان ويتعب ليؤمِّن هذا العيش، لا يعني التكالب وراء المال وتكديس الثروات، فالعمل واجب مقدَّس. فمن لا يعمل لا يأكل يقول بولس الرسول. ولكنَّ العمل يكون لتأمين مستلزمات الحياة اللائقة، التي تبعد الإنسان عن الذل والانكسار والمتاجرة بمقدَّسات وهبها الله له. العيش الكريم له مقومات مادية وأخرى معنوية.

 المقومات المادية هي المنزل والدخل اليومي الذي يؤمن له المأكل والملبس والاستشفاء وتربية الأولاد وكل ذلك بحسب فضيلة الاعتدال والابتعاد عن البَطَر والبذخ والإسراف في كلِّ ما ذكرت. أَمَّا المعنويَّة فهي الحريَّة والعدالة والمساواة.

– ألا ترى أَنَّ الاعتدال فضيلة مرهونة بسلوك المجتمع أي بالسلطة السياسيَّة الحاكمة وبقدرتها على تأمين العيش الكريم للمواطن؟

– بلى بلى. فالقناعة في مجتمع يؤمِّن العلم والاستشفاء ويسهر على راحة الناس واستقرارهم، تأخذ شكلاً مختلفاً عن الاعتدال أَو القناعة في مجتمع يُجبرُ المواطن على تأمين كامل الخدمات بذاته لذاته.

– هل الاعتدال مطلب إلهي، بمعنى أَنَّه من يعيش بقناعة واعتدال يرضي الله؟

– حين علَّمنا المسيح الصلاة قال:«أَعطنا خبزنا كفاة يومنا» وهذا الطلب هو مبدأ القناعة والاعتدال في مجال المقتنيات التي تصبُّ في خانة العيش الكريم. وإذا تأملنا نرى أَنَّ الناس لا يقتنعون بخبزهم اليومي. فهم يسعون الى الغنى، إِمَّا لخوفهم من الفقر أو لخوفهم من المستقبل المجهول أو لطمع في النفس، وهذا الأَخير عدو الاعتدال. فالخوف مبرَّر في المجتمع الاستهلاكي. وإذا عدنا بالذاكرة إلى الماضي القريب لرأينا أَنَّ القناعة كانت قاعدة الحياة عند معظم الناس، لأنَّهم كانوا يؤمنون بالخير، بالبركة، بأَنَّ الله الذي يطعم العصفورالذي لا يحصد ولا يزرع، حريٌّ به أن يطعم الإنسان الذي هو أفضل من عصافير كثيرة.

– هل الاعتدال فضيلة فرديَّة أم جماعيَّة بحيث تطال الدول والمجتمعات؟

– لقد جعل أَفلاطون في جمهوريته الفاضلة القناعة والاعتدال من صفات الرئيس الحاكم، ومثله الفارابي في مدينته الفاضلة ومثلهما جميع الذين حلموا بمدينة أَو دولة أَو جمهورية تكون مثلاً في الحكم وفي العيش. وإذا ما تحلى الحاكم بالاعتدال والقناعة، نقل ميزته هذه الى سياسة الحكم في جميع الأُمور، ومنها النظر في وضع مجتمعه وفي أَوضاع المجتمعات الأُخرى. ومن هذه الفضيلة ينبع التضامن بين الدول بحيث تمدُّ الدول الغنية يد المساعدة إلى الدول الفقيرة تحقيقاً للعدالة في المجتمع البشري بأسره.

علَّمنا قداسة البابا بولس السادس في رسالته تقدم الشعوب أَنَّه لا بد للعازر الفقير أَن يجلس إلى مائدة ذاك الغني، بالإشارة إلى مثل الغني ولعازر الوارد في الإنجيل المقدَّس. وأَضاف أن مبدأ التضامن بين الدول الغنية والدول الفقيرة على المستويات كافة، الاقتصاديَّة والتربويَّة والقانونيَّة والاجتماعيَّة، يُبعد الحرب ويكافح الإرهاب من جهة، ويظهر الوجه الإنساني عند العاطي ويحافظ على كرامة الإنسان عند المُعطَى لَهُ. وحين تكلَّم قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرون عن إعادة النظر في «توزيع خيرات الأرض» إنمَّا أَراد أَن يبيِّن حقَّ جميع الناس في جميع الدول، في أَن تنعم بخيرات الأرض التي خلقها الله للجميع وليس لشعب من الشعوب أَو دولة من الدول. هذا يَدُلُّ على أَنَّ فضيلة الاعتدال والقناعة يجب أَن تطال الدول ولا تُحْصَر بالأَفراد. كما يظهر أنَّ التضامن من أجل خير البشرية جمعاء، هو وليد المحبَّة  وعمل يرضي الناس كما يرضي الله الذي لا يريد إلاَّ فرح الناس وسعادتهم.

– تتحدث عن الاعتدال والقناعة وكأَنَّهما  للأُمور الماديَّة وحسب، فهل يمكن الاعتدال في الأُمور المعنويَّة؟

– حين حدّدتُ الاعتدال قلت إنَّه يساعد الإنسان على كبح جماح الرغبات التي تحطُّ من كرامة الإنسان، وتدفعه الى عدم احترام الآخرين. فهل الأُمور المعنوية تدخل في هذه الخانة؟

– لنأخذ مثلاً: العلم، فعل الخير، الصلاة.

– لا تدخل الرغبات الحسيّة في كل هذه الأُمور. فمن يتعلَّم لا يحرم سواه العلم ومن يفعل الخير ومن يصلِّي لا يزعج الناس ولا نفسه.

****

(*) من كتاب “حوار بلا ألوان”

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *