للوجع ظلال
هدى حجاجي – مصر
لما التقطته عيناي مصادفة واقفا أمام المحطة، ترأت رأسه الصلعاء كمرآة محدبة تحت وهج الشمس، لا أعرف لماذا تداعى إلى ذاكرتي الآن وجهه المتشنج وصوته المنهار منذ سنوات وهو يندفع بين رجلين عريضي المناكب إلى سيارة الجيب ..!!
متى أخرجوه من المصحة بدا وسط الناس، أستلمح فيه بعضا من ملامحي المغتربة، اقترب بخطى مترددة ناحيتي، احسست بنفور تجاهه، أوليته ظهري .
***
توقفت العربة تلهث، صعدت رغم ازدحام الركاب في المؤخرة، زحفت للداخل وأنا أشبك أصابعي فوق صدري أبحث عن شبه فراغ أدس فيه احدى قدمي المحشورة بين الأرجل الكثيرة،، أجد صعوبة داخلي في محاولة تكييف نفسي مع هذا الزحام المألوف رغم ذهابي وأيابي من مقر عملي الحالي بصورة شبه منتظمة على نفس الخط لفترة طويلة .. ووقع بصري سقط القلب مني، كانت تتنقل بعينيها تتفرس في الوجوه العابسة،، للحظات استحضرت الى ذهني تقاطيع وجهها البيضاوي المستدير، ما زالت ابتسامتها تحت “أيشارب” من الحرير لكنها فشلت في أخفاء مسحة من حزن استقرت في عينيها.
حاولت أن أدفع جسدي بقوة لأقترب أكثر، تصدى لي بتجويف صدره، أشحت بوجهي بتقزز من ابتسامته البلهاء . كانت حديقتها يانعة ملأى بأزهار الباسنت واللوتس والبنفسج ، وللمرة الأولى لمحتها،، قطفت زهرة، احتضنتها وسارت ، كنت أود أن أبوح عما يعتريني من شوق، جلست على مقعد خشبي متأرجح بآخر الحديقة، تحينت الفرصة رغم اعتراض البستاني دلفت عبر باب حديدي قاصدا إليها من خلال ممر قصير ومحاط بشجيرات الصبار والخروع ذات الأوراق العريضة الداكنة ناولتها الأيشارب ،، ورديا بلون خديها كان خطفته ريح معاكسة وألقت به خارج السور، سقط بجواري نادت بابتسامتها الرائعة ، أخذته شاكرة .. لكزني بكوعه فانتفض جسدي
تذاكر . أخرجت يدي من جيب سروالي ووضعتها في يده ، خط بقلمه على ظهر التذكرة ، أخذتها وأومأت له برأسي ،…..كنا جيرانا تعارفنا ..انتشيت بعبق الزهرة في راحة يدها عند الإشارة .. على غير ميعاد تلاقينا ، وكانت صفراء .. انتظرنا لنعبر سويا. انتظرت العربة أمام الدائرة الحمراء قفز بعضهم من النافذة وآخرون تقدموا للداخل .. تواعدنا .. تعددت اللقاءات عند الضوء الأصفر مكان انتظارنا ألف كلانا الآخر ..تعاهدنا ..أبديت مخاوفي طمأنتني أنها ستظل وفية لهذا العهد المقدس قالت .. لن يفرق شيء بيننا . والكثير يقال وقتها من الكلمات سارت العربة تشق طريقها وسط الزحام ببطء ،أتممت دراستي ، وحيدا كنت، فسافرت للعمل بالخارج ، راسلتها سررت بكلماتها الوردية إلى حين رسالة عاجلة اصطبغت الكلمات بلون أسود ، أبرقت إليها على الفور أن تحاول دون إتمام هذه الزيجة أكدت لها أنني قريبا سأعود .
***
خطت في رسالتها الأخيرة – لا فائدة لسبب ما خرج الأمر من يدي !
***
توقفت العربة اضطرارا بمحاذاة الضوء الأحمر تجمع بعضهم عند باب النزول حاولت ان أتقدم ، أفسح لي أحدهم موضعا لقدمي ، ملت بجسدي قليلا فشعرت بذلك وأطلت بوجهها ، أتسعت عيناها على مرأى الوجه القديم المنسي ، ظللت شفتيها إبتسامة شاحبة ، هممت أن أنطق بحرف تكسرت الحروف ، تلاشت الكلمات ، حين تلاشت إبتسامتها ، أدارت رأسها نحو النافذة للشارع ، انعكس ضوء الشمس على الزجاج ولمع سوار الذهب في معصمها . أقفلت راجعا على كاهلي حلما مجهضا لأرى حديقة جرداء ، أزهار الباست واللوتس والبنفسج تناثرت على الأرض اليابسة، داستها أقدام غريبة ووجوه قاسية الملامح . ماذا حدث وماذا تغير في الكون لا شيء تعرف ياولدي الأم الطيبة فقط ارتحلوا في المساء لحظتها تعمق إحساسي بالغربة في موطني .
درت كثيرا أسأل الجيران .. المعارف .. الأصدقاء … الأقارب … الغرباء . كلهم ردوا بمعنى واحد لا نعرف لها عنوان ربت المحصل برفق فوق ظهري الباقي . التفت مرة أخرى ، تلاقت نظراتنا ، جمدت إبتسامته البلهاء على شفتيه ، قبل أن تتوقف العربة للمرة الثالثة تأهبت للنهوض، أخليت لها مكانا لتعبر ، اجتازت نحو الباب ، مازلت ألمح بقاياها عن قرب حين اصطدمت عيناي عفويا بعينيه وجدته يتأملني طويلا كأنما للمرة الأولى يراني وقد انكسرت تعابير وجهه. مقعدها شاغرا للحظة ..كدت أجلس رأيت منديلها الرمادي ملقى فوقه التقطته ، نزلت تبعتها ، تناهى إلى مسمعي وقع أقدام منتظمة ، التفت خلفي .. كان هو ..لم أهتم أسرعت في خطواتي لألحق بها ، أنحرفت إلى طريق ضيق خال ، بإصرار تقدمت أطبق بيدي على منديلها حجتى الوحيدة ..هناك في آخر الشارع دلفت إلى بيت قديم من طابقين ، فكرت أن أستوقفها مناديا ولم افعل . هل هي ..؟! هل كانت تشبهها ..؟! ..لست متيقنا من شيء شيعتها بنظرة يائسة حتى اختفت تحت سلم رخامي ..ومضت
ان (للوجع ظلال) للاديبة هدى حجاجى نموذج رائع للقصة المصرية القصيرة التى تخبر باحوال المصريين فى اطار قصصى بليغ ينطق فيه كلا من بطل وبطلة القصة
بما كان بينهما فى اول الامر وما آل له حالهما وكيف ان مكان اللقاء كان حديقة غناء وكيف صارت جرداء بعد ان ذهبت احلامهما ادراج الرياح وكيف ان المنديل الرمادى فى اول الامر ان ذهب ليرده لها وكيف اطبق يده عليه واحتفظ بالذكرى ،وقد ابدعت الاديبة حجاجى فى كونها اخذت بيد القارئ الهوينا رغم اختلاف الزمان…
مااروع ما تقوم به الاديبة فى موسيقى سردها……