سجلوا عندكم

برجولا

Views: 581

المستشار/ بهاء الدين محمد خيرت المري

(عضو اتحاد كتاب مصر)

مِثلُ مُتحفٍ قديمٍ؛ صارَ بيتهم الرِّيفيّ العتيق وسَط عماراتٍ شاهقةٍ أحاطت به من كل جانب، كأن البيت أصبح وأمسَى فوجدوه على شاطئ النيل في الزمالك.

شَدَّه الحنينُ إليه بعد انتهاء مدة إعارته لمرَّتين؛ لم يتمكَّن خلالها من زيارته، طافَ بالحديقة أولاً مثلما كان يفعل في صِباه وفي شبابه؛ قبل أن يَلج باب البيت.

تفقَّد شجرة “الكَثْمرُونة” العتيقة التي جلبَها والده ذات يوم من أقاصي الصعيد؛ إذ لا توجد إلا هناك، شجرةٌ نادرة من أشجار قصور الأغنياء في غابر الزمان، كان يزهو بذِكر سيرتها وتلعثُم رُفقائِه عند نُطق اسمها، ويجد مُتعةً في شرح بيانٍ مُقتضًب عن تاريخها؛ وشكل وطعْم ثمَرتها النادرة.

دون أن يدري التزَم في تفقُّده خط السَّير  الذي كان يسلُكه في صباه، لم يزل في الركن الشرقي من السور شجرة الليمون العتيقة عالية الأغصان، شجرة الرُّمان الهرمة التي تفرد أشواكها المتشابكة على أكتاف عدد مما يجاورها من أشجار، ثم أهم ما يُميِّز الحديقة؛ شجرة  المشمش، تلك العلامة الظاهرة لكل من يَمرُّ بالبيت، وأشجار البونسِيانا التي تحفُّ السُّور من جِهاته الأربع.            

كانت نفسه تئِن من اغترابه، لم يستطع رؤية الأشجار إلا عارية من ألوانها، بقي طَوال سنوات عمره في تَعب يحلم باللون الأخضر وزَهر الرمان المُضيء، أمَّا الآن فالأشجار وإن كانت لم تَزل باقية؛ لكنْ بدَتْ ألوانها جميعًا شاحبةً ما بين الخُضرة الباهتة والميْل الشديد إلى الاصفرار.

لمحَ صفيحة بالية بجوار السُّور، التقطَها لا شُعوريًا قاصدًا الطُّلمبة “الماصَّة الكابسة” ليروي عطش شجرته المُحبَّبة “الكَثْمرونة” وجدَ الطلمبة يعلوها الصدأ، وانحَشر في جوفها كمية كبيرة من أوراق الشجر اليابسة، شعرَ بحزن يتسلَّل إلى أوصاله فغادَر الحديقة. 

      يَصعد إلى السطوح قبل أن يَدخل إلى الطابق الأرضي، تعرَّت البرجولة وخلعَتْ أرديتها الزَّاهية وتهالَكَتْ بعض أخشابها.

جالَ بناظرَيْه من حوله، أطباق الأقمار الاصطناعية تُحاصر البيت من كل اتجاه، الدُّور القديمة صارت عمارات، أجهزة التكييف تخترق جدران البنايات، تمرُّ على سطحه أسلاك وصلات الإنترنت، تنتصِبُ أبراج شبكات المحمول في الأرض الزراعية التي بدَتْ قريبة من البيت نظرًا لما حَصَل لها من غَزْوٍ مِعماريّ عشوائي.

جاء ببعض قِطع الخشب والمسامير وراحَ يُرمِّم البُرجولة، وما أن انتهَى من الترميم؛ حتى شرَع في طِلائها بألوانٍ زاهية، كانت الألوان ترُدُّ إليه روحه وكأنه يَستعيدها مع كل حركةٍ للفُرشاة.

شعرَ بعد ترميمها بسعادةٍ غامرة؛ وإحساس بالراحة تسرَّب إليه من اشْتمام عَبق الماضى الجميل، وانسابَت في أوصاله رائحة الذكريات.

كانت الشمس تَميُل إلى الغُروب، حاول أن يمسك بخيوطها التي تسلَّلت في هدوء؛ لتُلقي بأشعتها الحمراء كسلاسِل ذهبية؛ تنعكس على الألوان الغريبة لِطلاء البنايات الجديدة، حتى بدَت الصورة كلَوْحة مُخرْبَشة انسكبَتْ عليها أحْبار الرَّسام، وإذا بابن أخيه يحضر إثر عِلمه بتواجده، يسأله وهو ينظِّف آثار الترميم:

– ماذا تصنع يا عَمِّي ؟.

أجابه في سعادة مُتخيلاً أنْ يُبادله إيَّاها :

– كما تَرى، أعدتُ “البُرجولة” إلى سابق عهدها، كأنها لم تزل مَصنوعة حديثًا، هل أعجَبتكَ؟ 

ثم خطَر له أن يعاتبه على إهماله مع أبناء جيله للدار فأردف:

– ثم قل لي، ألمْ تستطعْ أنتَ أو أي من أبناءِ عُمومتك؛ أو عماتك رَيّ الحديقة ولو كل فترة؟ ألم ترَ حال الأشجار؟ إنها كائنات حيَّة، لها علينا حق رعايتها و..!

تبسَّم الشاب ضاحكًا من قوله، وقاطَعه بصوتٍ مُتهكِّم :

– بُرجولة ماذا يا عَمِّي؟ وأي أشجار؟ ليس الزمن زمن برجولاتٍ الآن، لا وقتَ ليستظلَّ أحدٌ تحت بُرجولة عَصرًا أو يَسهرَ تحتها في ضوء القمر ليلاً، حتى القمر يا عمِّ لم يَعُد يَبزُغ، لن تراه حتى لو سهَرتَ أبدًا. 

نحن في عصر السرعة، ولن ترَى الخُضرة التي كان أبي يُحدثنا عن جمالها؛ وأنتم تنظرونها من فوق هذا السطح حين جلوسكم تحت البرجولة.

آلمتهُ نبرةُ صوت ابن أخيه وطريقة حديثه وتناوله للأمر؛ وما صار يُلمِّح إليه؛ من أنَّ البيتَ أصبح كالوقف لا يستطيع أحد التصرف فيه، ولا حتى إعادة بنائه كمَنْ بَنُوا عمارات؛ وكانوا فقراءَ لا يملكون رُبع مساحته؛ بعد سفرهم إلى النمسا وفرنسا وألمانيا واليونان، وكان أهلوهم يعملون في أرض جَدِّه. 

وقبل أن ينزل درَج السُّلم، كان ابنا شقيقتيه قد وصلا وبعد أن ألقيا السلام في فُتور؛ يُخبرهما ابن أخيه بما صنَع خالهما بالبرجولة، تنفرج شَفتا كليهما عن ابتسامةٍ باهتةٍ، وقال أحدهما: 

– يا خالنا العزيز، دَع زمانكَ ذاكَ وزمن البرجولة  الذي ولَّى من دون عودة، الناس أقاموا عماراتٍ ولم يبقَ إلا بيْت جَدِّنا ولا نظنُّك تَقْدر على شراء أنصبتنا منه، أثمان العقارات طارت في السماء، ولكنَّ حفيد حميدو وهدان عرَضَ فيه ثَمنًا باهظًا إذ بلغ سِعر المتر ثلاثة آلاف جنيه، أي ما يُجاوز ثلاثة ملايين جنيه يا خالي، وجميعنا في حاجة إلى أنصبتنا فيه، تخرَّجنا في كلياتنا ولا نجد عملاً، سافَر بعضنا إلى الأردن وعاد بخُفَّيْ حُنين، ودفَع بعضنا تحويشة عُمْر والديه ونَصبَ علينا تُجار السَّفر غير الشَّرعيّ للخارج، بل غرَق بعض أمثالنا في مياه البحر وهُم يحاولون الهِجرة.   

يسألهم مُتعجِّبًا :

– حفيد حميدو وهدان؟ الخادم الذي كان يَرعَى الحديقة ويقضي طلبات البيْت؟ ويحصُل على الزكاة عينًا من أهل القرية؛ يملِكُ مثل هذا المبلغ؟ ولماذا يشتريه؟ ألم يَبْنِ بيْتًا حتى الآن؟

يضحكون بصوتٍ عالٍ :

– دَعْ هذا التفكير، زكاة ماذا، وأي حديقة؟ هذا كان على أيامك، إنه يملكُ أكثر من ذلك، ومزارع مُتعددة في الأرض الصحراوية، وحدِّث بلا حرَجْ عن حَجْم ثروته، بل بَنى قصرًا في أطراف القرية يستقبل فيه العاهرات وجُلسَاء سهَرات المخدرات الذين يَرصُّون له أحْجار الحشيش على الشِّيشة.

أجابَهم بسذاجته المعهودة:

– وهل تُوافقون على هدْم البيْت ؟

– نعم نوافق، جميعنا يحتاج إلى نصيبه، فلْتشتريه أنتَ إن شِئتَ وأعطنا ثمن أنصبتنا.

– وهل عقدتُم جميع أحلامكم على أنصبتكم في بيْت جَدِّكم ولا شيء غير هذا؟ كيف ترَوْنَ مُستقبلكم؟ هل هو مُجَّرد انتظار للميراث؟

لم يستطع السيطرة على انفعاله، ثارَ فيهم ثورةً عارمةً مُسفِّهًا تفكيرهم، تجهَّمَتْ وُجوههم وانسلَّوا واحدًا تلو الآخر؛ ولكنَّ آخرهم قال وقد بدا الغضب على وجهه:

– تَفكَّر يا عَمِّي في الأمر، ولنكْفِ بعضَنا مَغبَّة التقاضي احترامًا للرَّحم.

كانت العبارة الأخيرة صادِمة، لهجةٌ لم يكُن لِيتَخيَّل مُخاطبته بها، تذكَّرَ تلك الأيام الخَوالي التي كان احترام الكبير سِمة من سِماتها، والتأدُّب في القَوْل من شِيَم أهلِها، وراحَ ينزل دَرج السُّلَّم بقدمين لا تكادان تحملانه. 

دخل الطابق الأرضي، رائحة التراب تَزْكم أنفه، يُنظِّف مقعدًا ويُلقي عليه جسده، يشرد بذهنه، تتداعَى أمام عينيه صوَر الذكريات، تذكَّر حكايات والده عن جدِّه المُزارع البسيط  الذي كدَّ من خلال قطعة أرض صغيرة المساحة حتى أنماها وزاد من رُقعتها، ثم تاجَر رويدًا رويدًا في بورصة القُطن؛ حتى صار من كبار التُجَّار في هذا المَجال، وانخراطه في العمل الخيري مُساهمًا ببعض ما فاءَ الله عليه به من مال وبنائه هذا البيْت  الذي شهِد اجتماعات من كانوا ينشغلون بالعمل العام، وأعضاء الاتحاد الاشتراكي.  

هذا البيْت كان الوحيد  الذي أقيم على هيئة قصر، لم يكن يُضاهيه بيْتٌ آخر في القرية كلها، شارك والده في زرْع جميع أشجاره وسقاها بيده، وصمَّم البرجولة بنفسه وأشرف على تنفيذها بدقةٍ بالغة.

كانت البرجولة علامة ظاهرة لكل من يهبط القرية ابتداء من جِسْر البحر على مسافة كيلو متر، يهتدي بها الناس إلى بيْت الحاج شرَف؛ كانت علامة لما حولها، يقولون أمام برجولة الحاج شرف، أو شرقها، أو غربها.

كم جمَعتْهُم حول الراديو لسَماع حفلات أم كلثوم وسط أجواء من دفءٍ عائليّ يُحيط بهم وهم تحتها ليلاً، أو تحت أضوائها الخافته أو ضوء القمر في ليالٍ غيرها، وُجِدَ هذا الدِّفء قبل أن يُوَجدَ هؤلاء، وها هُم الآن يَبغُون زَوالَ كل شيء، زَوَال  البيْت بذكرياته ليبْتاعَهُ منهم ابن حميدو وهدان.

لم ينسَ ذلك اليوم وهُم يتجمَّعون تحتها؛ وأبصر والده يبكي أمامَهُ لأول مرَّة في حياته؛ حين أذاع الراديو خطاب تَنحِّي الرئيس عبد الناصر، وكيف هُرِعَ مثله إلى شوارع القرية يُشاركان في تلك المظاهرات العارمة التي اندلعَتْ تُطالبه بعدم التنحِّي.

طافَتْ بذاكرتهِ كلّ هذه الذكريات؛ وجسَده مُلقَى كَكوْمة من اللَّحم على المقعد  الذي ألقَى به عليه خشية سُقوطه أرضًا قبل أن ينصرفوا.

نامَ ليلتهُ منكسرًا على ذات المقعد بعد أن غادروه جميعًا، يضربُ رأسهُ حُلم ُمزعج، يرَى والده يُجالسه ذات الجلسة تحت البرجولة يوم تنحِّي عبد الناصر، يراه يبكي ذات البُكاء وأفواه من يتحلَّقون من حوله ساعتها وهى فاغِرة لا يريدون تصديق أنه يبكي، ولكنه حين هَمَّ جرْيًا ليخرُج إلى الشارع إثر سماع تصايُح الناس؛ لم يقصِد السُّلَّم ولكنه قصَدَ ناحية من السُّور فهَوَى على الأرض في لمْح البَصَرْ، ولمَّا هُرِعُوا إليه يتخبَّطُون في بعضهم حتى ضاقَ بهم السُّلَّم؛ وجدوه قد مات.

صحَا من نومه على صوته وهو يصرخ، تلفَّتَ من حوله فلم يجد أحدًا، غلبَهُ البُكاء فبكَى، جلس إلى نفسه واضعًا رأسه بين كفيه، راح في تفكير عميق؛ نحَا به إلى أن يقوم من جلسته ليقْطع الغُرفة ذهابًا وعودة حتى كلَّت قدماه، ثم عاد ليُلقي جسده على المقعد مرة أخرى.

لم يجد بُدًّا من الامتثال لمطالبهم، أصحاب فِكر كهذا؛ لا جدوَى من الحديث معهم فيما لا يُدركون له قِيمة، في الصباح التقَى ابن حميدو وهدان، وفي المساء قبضوا الملايين الثلاثة وسلَّموه البيْت.

قبَضَ ما يخصُّه من المال وترَكَ لهم ما تَبقَّى، تسلَّموه وفَرْحة عارمة تعلو وجُوههم، تَوجَّه إلى الجمعية الخيرية وحيدًا وتبرَّع بنصيبه، عاد يجرُّ ساقيه وهو ساهمٌ شارد.

قابَلهُ أحد أبناء عُمومته فأبَى إلا أن يُضيِّفه، يحكى له ما حدَث؛ وما كان من أمر تبرُّعهِ بالمبلغ، انفرَجَتْ شفَتا ابن عمه عن ابتسامة ساخِرة، لامَ عليه تسرُّعه في التّبرع، فالقائمون على الجمعية الخيرية تلوكُهم الألسُن، ليْسوا أمناء على أموالها حَكَى له عما اختلسُوه منها؛ وعمَّا دارَ من شِقاقٍ بينهم وبين أهل القرية.

يعودُ إلى الجمعية ليَسْتردَّ المبلغ، يرفُض القائمون عليها بحُجَّة أنَّهم لا يملكون إعادته وقد أثبتوهُ في دفاترها.

كان الليل قد أرْخَى سُدولهُ على الكوْن كأنَّ ستائر حالكة السَّواد تُغطِّي الأفُق، لم يتركه ابن عمه للسفر وهو على هذه الحالة من الشُّرود؛ وقد لمح الحزن يَظهر في عيْنيهِ والهُمومُ تُعشِّشُ في نفسِه، قضَى ليلتهُ عنده، وفي الصباح هَمَّ مُبكرًا ليُغادِر القرية، ولكن المُضيف أبَى إلا أن يُضيِّفهُ على الغَدَاء.

في نهاية اليوم يُغادر، اختار طريقًا يمرُّ بالبيْت ليُلقي عليه نظرة الوَدَاع، كان الوقت عند الغروب، يقترب من البيْت، لم يتخيَّل أنه سيُهدم بهذه السرعة، جمعٌ غفير من الناس، بلدوزر عملاق يهدم في البُنيان، يَجرفُ في الحديقة، يَقتلع الأشجار ويَرصُّها في أحد أجْناب الطريق، الأشجارُ تنزف وهى صريعة بين أنياب البلدوزر.

يَستمر البلدوزر في الهَدْم، يَضربُ الجُّزء الشَّرقي من البيْت، تَتهاوَى أشجار الكَثمرُونة والبونسِيانا والليمون والرُّمان، يضربُ العمود  الذي يلتفُّ حوله السُّلَّم الحلزوني الجانبي، تتهاوَى الجُدران وتَندَثِرُ معها الذِّكريات، تَتكوَّم البرجولة أمام عيْنيه، تُقعْقِعُ أخشابها بين الأحْجار، يُغطِّي عيْنيهْ سريعًا بنظارته السَّوداء ليُخفي عبَراتٍ خانَتْهُ فانحدرَتْ على وجنَتيْه،  مُبتعدًا قبل أن تلمَحهُ العيون.

يستقلُّ سيارته، يُقُودها وعيناه زائغتان، يَبْلُغ جِسر البحر، الفلاحون يَجْرُون ويتصايحُون .. سيارة عند خُروجها من القرية لم تأخذ طريقها يَمينًا؛ بل استمرَّت في خَطٍ مُستقيم لتِسقُط في مياه الرَّياح.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *