المباخرُ … والخناجر

Views: 16

الوزير السابق جوزف الهاشم

  يأخذُ عليّ بعضُ الأصدقاء أنني أحمِلُ القلمَ كمثْلِ مَنْ يحملُ خنجراً أو مبضعَ جراَّح ، فيقولون : لـمْ نقرأ لك مقالاً إلاّ كنتَ فيه ناقداً لاذعاً ، وناقماً ساخطاً ، كأنك لا تُحسِنُ إلاّ الهجاء .

  قلتُ : وكأنكم تعيشون على سطح القمر ، ومِنْ فوق تتقلّص مواكب المآسي ومشاهد البشاعات ، وإلاّ .. فدلّوني على حالةٍ طبيعية واحدة في هذه الدولة … على شأنٍ واحدٍ وشيءٍ واحدٍ وأمـرٍ واحد ، قابلٍ للحياة وصالحٍ للعيش البشري في هذه الدولة … دلّوني على واحدٍ من المسؤولين ليس من رُعـاةِ هذه المزرعة ، حتى أنهالَ على أهـلِ السلطة وأهـلِ الحكم بالمدح والثناء والشكر ، بكلِّ معاني النَـثْرِ والقصَّةِ والشعر .

  ثـمَّ إنّ الذين يحملون القلمَ ، إنْ راحوا يتنَّكرون لرسالته ، ويخنقون صوته الصارخ في صحراء الصمت ليجعلوا منه مبخرةً ، فحريٌّ بهم أن ينخرطوا في سلك الكهنوت ، وإذ ذاك يصبح التسبيح والتبخير للربّ واجباً .

  البلدُ : شاردٌ وطنياً ، فاسدٌ خلقياً ، عاهرٌ سياسياً ، منقسمٌ حكومياً ، منتَهَكٌ شعبيّاً ، مفكّكٌ هيكلياً ، متصادمٌ مذهبياً ، متخلّفٌ تنموياً ، منهارٌ إقتصادياً، مشوَّهٌ طبيعياً ، فاقدُ الثقة دولياً ، وتقولون : إمدحوا وبخِّـروا …

  الوطنُ : أوطانٌ متضاربة ، بين كلِّ وطـنٍ ووطـنٍ حدودٌ مرسومة بإشاراتِ الصليبِ والهلال ، وداخلَ كلِّ وطـنٍ حدودُ صليبٍ وصليب ، وحدودُ هلالٍ وهلال ، وتقولون : إمدحوا…

  الطبقة السياسية الحاكمة طبقةٌ فضائيةٌ ، تلفّها سحاباتٌ من الغيوم السود ، إنْقطعتْ عن إستغاثةِ الأرض وأنـينِ الأرواح النائحة ، خطفتِ الدولةَ بما يُعرفُ بالعنف اللطيف ، واغتصبتها باسم ديمقراطيةٍ مطَّـاطةٍ تتّسعُ لكل أنواع الفوضى والإنحراف والتكسّب والفحش والغـشّ ، حتى الحُكْمُ الذي هو حكمُ الشعبِ بواسطة الشعبِ ، أصبح حكمَ الحكمِ بواسطة الحُكم .

  كلُّ ما هو عـامُّ في هذه الدولة تحوّل الى ملك خاص : الشأن العام ، والمال العام ، والمدير العام ، والمدّعي العام ، والأمن … آلافٌ من رجال الأمن أصبحوا في بيوت الزعماء ، بلا إجازةِ عملٍ ولا إقامةٍ من الأمن العام .

  الشأنُ العامُ الوحيد الذي يجمعُ اللبنانيين هو الموتُ العام ، والوحدةُ بالموت.

  السوادُ الأعظمُ من الناس بمرارةٍ يسألون : متى الخلاصُ وكيف …؟ والدولة مصادرةٌ ، والحكمُ مصادَرٌ ، ونصفُ الشعبِ مصادَرٌ والنصف الآخر مقموع ، ولا مجال بعـدُ للقبول بأنصافِ المواقف وأنصافِ الحلول ، فيما جبران يقول : “لا تقبل بالنصف فأنت لست نصف إنسان” .

الذين يسألون عن الخلاص : لا خلاص في ظـلِّ هذا التناسل الوراثي مع كلِّ عاهاته البيولوجية والأخلاقية ، فإذا تعذّر عليهم العصيان الثوري فلْيَكُنِ العصيانُ المدني ، أو الثورةُ السلميةُ ، تلك التي يسميها أستاذ العلوم السياسية الأميركي : “جين شارب” بالمقاومة المدنية والإنقلابات الناعمة..

  وإلاّ … فانتظروا حتى تُبلى هذه الطبقة السياسية بالعُقْـمِ الجنسي فيتوقف التوريث ، ويكون الخلاص لكم وللبنان .

***

(*)  جريدة الجمهورية 12-7-2019

 

 

(yellowtail.tech)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *