الاستقلال والانتفاضة – رؤية دبلوماسية

Views: 829

السفير سمير شمّا

          بعيد الاستقلال نظّم وزير الخارجية سليم تقلا أول امتحان لدخول السلك الدبلوماسي، فاتخذ قراراً مبدئياً حازماً: “من يحلّ اولاً في الامتحان، يحق له اختيار المنصب الذي يريد، أياً كانت انتماءات الفائز الدينية والذهبية”. لقد آمن بان الكفاءة – ووحدها الكفاءة – هي معيار بناء دولة الاستقلال. وكتب أحد المؤرخين: “كان سليم تقلا محور ضغط الطبقة السياسية والوجهاء المحليين والمهاجرين اللبنانيين ذوي الشأن الذين كانوا يقترحون او “يوصون” بأتباعهم، لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل”… تلاقت مختلف الآراء على وصف سليم تقلا بـ “دماغ الكتلة الدستورية” فقد كان ثاقب البصيرة، دمث الأخلاق، محاوراً لبقاً، منفتحاً على جميع التيارات اللبنانية السياسية والفكرية، كما على العالمين العربية والغربي.

          لقد آمن بأن على الدبلوماسي ان يتعالى عن كافة الانتماءات، ان يمثل الامة بأبهى ما هي، يعبر عن تطلعاتها وما الية تصبو… وكتب الياس أبو شبكة: “سليم تقلا عصامي ومثلٌ يحتذى في عفة الكف ونزاهة الوجدان”… كان ذاك الزمن اللبناني السعيد.

          سنغافوره: جزيرة نائية تفتقد أبسط مقومات الاستمرار كدولة، إذا شاءت ماليزيا ان تقطع عنها المياه فتعطش. عندما. عندما سُئِل Lee Kwan Yew، الأب المؤسس لهذه الدولة عن القوة الكامنة وراء انبعاث هذه المدينة – الدولة وتحقيق “معجزتها الاقتصادية” أجاب: الكفاءة ثم الكفاءة والنزاهة الـ Meritocracy اكثر من الـ Democracy، وفق تعبيره، فقد آمن بان المبالغة في الديمقراطية تؤدي الى فوضى. هذا في الديمقراطيات العريقة. ماذا بشأن الديمقراطية في لبنان؟ ما أبلغ مقال البروفسور مشير عون: “براءة الشعب المذنب” عندما عبّر عن يقينه بأن: “ذنب اللبنانيين انهم يمارسون الديمقراطية في طورها التقني الأخير، في صناديق الاقتراع، فهي بالتالي ديمقراطية مزيفة”… وقد دعوتُها يوماً “الديمقراطية المركنتلية”.

          هذا عن الدبلوماسية وزمن الاستقلال فماذا عن الانتفاضة؟

“الديمقراطية المزيفة” أليست هي من انزل الناس الى الساحات فرأوا انهم هم بالذات الذين يعبرون عن معاناة الشعب وتطلعاته، وانهم هم ممثلوه الحقيقيون، متجاوزين بذلك نواب الأمة؟؟

          لقد انفجرت مشاعر الناس تعبيراً عن وجعها نتيجة أوضاعها المعيشية والاقتصادية المتردية. غاضبون هم، وأي غضب، على الطبقة السياسية، يطالبون بمحاربة الفساد والفاسدين، والاقتصاص من ناهبي أموال المكلفين وخيرات الامة. ومن غرائب الحياة السياسية في لبنان ان من هم في المعارضة – كما في الموالاة – اذا جاز التعبير، الغاضبون والمغضوب عليهم، يتلاقون حول محاربة الفساد ورفض المحاصصة والزبائنية وينادون باعتماد الكفاءة وتمجيد “عفة الكف”.

          تخطّى المنتفضون حاجز الخوف وصاروا هم مبعث الخوف للآخرين، كما تخطوا الحواجز المناطقية والمذهبية والطائفية. “الطائفية الخطيئة الاصلية التي ولدنا فيها” كما كتب خليل رامز سركيس. وطالبوا “الدولة التي تكره ان تكون دولة” كما ردد فؤاد بطرس، ان تكون دولة عادلة وقادرة.

          تعالت صرخات شعبنا هنا، فترددت اصداؤها في مشارف الأرض ومغاربها، اهتزت لها خصوصاً مشاعر وضمائر أبناء لبنان في العالم. اثارت قضية المغتربين: أي لبنان يريدون كي يدافعوا عن قضاياه ويتباهوا به؟ اكتفي ببعض الخواطر واستخلاص العبر.

          مسيرتي الدبلوماسية التي تجاوزت السنوات الأربعين، اخذتني قرابة العشرين عاماً الى الاميركيتين، القارة التي قصدها أوائل من اغتربوا.

          ظاهرة الاغتراب اللبناني وصفها شارل مالك بانها “فخر وعيب ومأساة. فخر بما يحققه المغتربون وعيب لن لبنان لم يوفر لهم أسباب العيش ومأساة لان الهجرة هي ذات ابعاد إنسانية وروحية”

          من “حملة الكشة”، ورغم معاناتهم واوجاعهم، وصولاً الى النخبة الفكرية المتنورة، لقد أعطوا وطنهم – الام وأجزلوا العطاء وفي مختلف الميادين. وشهدت دول الاميركيتين تحركاتهم الفاعلة المطالبة باستقلال لبنان، تنقذهم من “لعنة التتريك” فيتباهون بوطن الأرز الذي في ظلاله فتح صاحب “النبي” جبران خليل جبران عينيه على الوجود.

          الانتفاضة الشعبية. حركة الوعي والصحوة التي هزّت وجدان بني قومنا. مطالبتهم بأبسط حقوق الانسان: لقمة العيش الهنيئة – الكهرباء والماء والهواء النقي- العدالة الاجتماعية – محاربة الطبقة السياسية الفاسدة. مطالب محقة توحّد حولها اللبنانيون، متجاوزين كافة الحواجز، مؤمنين بلبنان الواحد. هذه الصرخات وما به يطالبون وحدت حلها ابناءنا في العالم، فرأيناهم وسمعنا صرخاتهم مدوية في جنيف وباريس والسويد وكندا والبرازيل وغيرها.

          لماذا أطلقوا صرخة واحدة موحدّة!؟ لأن الشعب المتألم والثائر خاطبهم بصوت واحد، لا بلغة بابلية، دعاهم للدفاع عن قضايا الوطن، لا السياسات الحزبية الضيقة. الدبلوماسية اللبنانية التاريخية العريقة، وفي مقاربتها لقضية الاغتراب، دعت المغتربين للتعاطي في الشأن الوطني – أي الدفاع عن قضايا الوطن – الأم، والابتعاد عن الشأن السياسي الحزبي. لقد آمن الآباء المؤسسون للجامعة اللبنانية في العالم في بداية ستينات القرن الماضي بالقول المأثور: “ما دخلت السياسة شيئاً إلا وأفسدته”.

         بقدر ما يبني اللبنانيون وطناً معافى مستقراً امنياً واقتصادياً، بقدر ما يتحرك أبناؤه في العالم للدفاع عن قضاياه وتجربته الإنسانية الفذّة، فيعتزون به ويتباهون.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *