سعيد عقل… إنْ حكى

Views: 384

د. جورج شبلي

في ذكرى ولادة سعيد عقل (4 تموز 1911).

لقد وقّعَ سعيد عقل معَ الدهشةِ عَقدا، أَقَلُّ بُنودِه إلزاميّةُ معانقةِ سِنينِه المايةِ له لتنعديَ منه عِزّا . هذا المتعملقُ الذي رجحَ الفكرُ معه في الكَفّة ، شأنُه شأنُ المناراتِ التي تُضيئُ ولا احتراق ، وقَدْرُه قَدْرُ الرُوّادِ الذين عَدُّهُم عَدُّ الأصابعِ وفاعليّتُهم فاعليّةُ أُمَم.

لم يكنْ مشروعُ سعيد عقل تكريسَ ذاتِه للمَطافِ الأدبيِّ فقط، وهوالذي ضربَ عِرقُ إبداعِه في أصقاعِ الأمّةِ فأغنى ، فالفيضانُ الكِتابيُّ عندَه جاوزَ ضَفّتي الأدبِ الى الفكرِ والتاريخِ والحضارةِ واللّغة ، فقاربَها بالوعيِ الإغريقيِّ وبأسلوبِ أولادِ الملوك. وساعدَته أعوامُه المايةُ على تثبيتِ ارتباطِه بالزمن ، وعلى عدمِ وقوعِه أسيراً للقلقِ والألمِ والتشاؤم ، فبنى صداقةً أبديّةً معَ الكلمةِ التي أوكلَ  إليها العنايةَ بالوصفِ والحوارِ والتصويرِ والتشويق.

ثمّ حمّلَها، وبكلِّ ما تملكُ من ثروات،  مسؤوليّةَ النقدِ التصويبيِّ في زمنٍ حُبِسَ مفكّروه وأدباؤُه في قوالبَ جامدةٍ جعلَت عقولَهم وهيَ على جوعٍ وعَوَز . وهكذا تَشفّى السعيدُ من الزمنِ بِمَنحِه الكلمةَ أبعاداً راقيةً لم تَرْقَ إليها في تاريخِها.

كانَ سعيد ذا شخصيّةٍ تشرّبَتِ الكثيرَ من النزعةِ الوطنيّة، وهي نزعةٌ ثوريةٌ من دونِ دموع.فلم يُمَشهِدْ وطناً مُصاباً سيقَ الى الموت ، أو وطناً مُشرَّداً فوقَ ذلِّ الأرصفة ، بل نصّعَ صورةَ الوطنِ المتفوّقِ الذي لم يتعاطَ إلاّ كؤوسَ المجد . وهذا اقتضى من الرجلِ حسّاً ملتهبَ العصب ، فبدا وقد تأصّلَ فيه بُعْدُ العهدِ في الشعورِ الوطني . كانَ همُّه ألاّ تتخدّرَ أذهانُ الناسِ بِنواحِ الوطنِ المنكوب ، فدعا الى تعليقِ صورةِ لبنانَ “قدموس وهنيبعل” في صدرِ الذاكرة، لا لتمجيدِ الأُلى بل لتكريسِ مواسمِ الكرامةِ وتوريثِها .

والشِّعرُ مع سعيد مباراةٌ في الأناقة. فالقصيدةُ ليسَت ضجيجا، وإنْ كانَت ضربَ أسواطٍ يُلهبُ ظهورَ الطارئين على الشّعر، بل هي مفاجأةٌ واثقةٌ بنفسِها لا تُصادِقُ سوى الموهوبين،إولئك الذين يعرفون وحدَهم سرَّ إصابتِها بِرَجَّةِ العَظَمة.

القصيدةُ مع سعيد أغنيةُ طرب ، مع كلِّ صورةٍ ألفُ آه ، وفي كلِّ ترصيعٍ سلطنة . وهي لا تخجلُ أبدا،  فالجمالُ فيها يخوضُ معركةً مع الجمال ، وهي حدٌّ فاصلٌ بين البديعِ والعاديّة ، بينَ القدرةِ ذاتِ الأصلِ التكوينيِّ، وبينَ الطارئيّةِ وعدمِ الاستعداد . قصيدةُ سعيد عقل تقولُ لأكثرِ الشعراء: إذهبوا وابحثوا لكم عن حرفةٍ أخرى .

سعيد إنْ حكى ، فَحَكْيُهُ يَشهدُ له، بعدَ أحمد شوقي ، بالإمامة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *