مصيدة الكوابيس 

Views: 573

مصر- هدى حجاجي احمد

الريح يصفع الشوارع بمخالب رملية هائلة ، هرع المارة هنا وهناك صارت الشوارع أصابع تشير إلى الفرار .

سالم ..ريشة في مهب الريح يحتمي بالجدران ..يلملم أطراف ثوبه ومعطفه الأسود البلي يجر نفسه جرًا عسى أن تدفئه الحركة!!!

 ما كان عليه أن يخرج في ذلك إلىوم …الطبيب الزمه الراحة .. ليس له مكان مريح ليس موظفا ..إما العمل أو قطع القوت ..هل يأكل أولاده من عرق أمهم؟

اضطر إلى التغافل عن أشياء كثيرة .. أشهر كاملة لا يدخل في جيبه جنيه ولن يحترف اللصوصية  مرة أخرآى .. هه بعرق جبينك تأكل خبزك فأين العمل وأين الخبز ؟ ارتمت على بصره عبارة انتخابية تصيح ((انتخبوا نصير الحرية والعدالة..)) ما باله ينقل قدميه في صعوبة بالغة كأن الكوكب قد تغيرت جاذبيته!..

كان الجو مغبشًا بالضباب الكثيف .. وأوراق تطير هنا وهناك في عبث .. ثمة دائرة من ضوء مبهر تكبر وتتسع نظر الى مصدر الضوء …يا إلهي أهي سيارة قادمة بسرعة جنونية .. أم شيطان يحدق في بعينين ملتهبتين .. لو أسرعت خلف عمد النور لوجدت حماية من نوع ما .. آه .. آه .. السيارة تمرق كالسهم .. تلتهم كل  شيء وتدور حول نفسها كالزوبعة ترتطم بأشياء .. صاح صوت يتهشم وزجاج يتكسر .. صرخة امرأة تبددها ارتطامات شديدة العنف، تعاورت عيناه رؤية مرسيدس بيضاء. وبقعة حمراء .. وفراغ سحيق  يسحبه إلى اللاشيء !!.. أو يدفعه  إلى المجهول!       

يحس بالعظام يطحنها الحديد في لحظة كالبرق .. تلاشى واحترق  ومازال الهواء يغمر رأسه .. إنه يتنفس مازال قلبه يضرب كالطبل .. النار تشتعل في صدره وظهره.. أنفاسه تتحشرج .. أحشائه تتمزق ألما .. ثمة شيء ينبثق دافئا من فمه . 

نظرة عائمة عواء مضطرب ..(هل جاءت الساعة ؟) غمغمات .. تمتمات .. الأذن تستعيد حيويتها بعد الضربة المذهلة! مرت الدهور والعصور .. راح يتقلب، ها هي النار تشتعل من جديد في كل دمائه .. زحام دبيب أقدام .. سارينة إسعاف .. رؤوس كثيرة .. سيارات بيضاء وسوداء وزرقاء وحمراء . وأوراق وكلمات وأشخاص انشقت الأرض عنهم .. رجال أنبتهم الليل أشباحًا متعانقة .. متداخلة مساحات ضبابية عشرات الأنياب المسحورة تعض قلبه وأحشاءه .. يفتح العين فيرى السماء بعيدة بعيدة  تموء روحه تسبح في أعماق سحيقة .. الغيبوبة تشده إلى راحة مؤقتة  مصيدة الكوابيس نفسه .. بدنه يغلي  وتدور في المتاهات رؤياه بلا حدود ولا وعود في نبضات متشنجة .. بدأت إلىقظة ومعها سكاكين مغروسة  في كل مكان .. الجسم ثقيل ثقيل! ضمادات سجن فوق السجون .. الحركة مستحيلة الآن .. انبثقت السوائل الملتهبة  في العينين !!!

جاءت امرأة نظيفة في ملابس بيضاء ترقص على شفتيها ابتسامة كحيوان جميل . سألته في عتاب مرح: أتبكي .. أهناك رجل يبكي .. ماذا تركت لنا!!

ليتها تسمع عقله ..أو يبكي غير الرجال الآن!

كان يسمع صوتها العذب .. ويتابع بعينيه  نشاطها  وحين اقتربت منه أكثر تحقق من نظافتها  ونضارة جلدها الناعم .. كأنها فهمته  فهمست في مودة : أحمد الله انكتب لك عمر جديد .. هيا استعد نشاطك وحيويتك  ورجولتك .

 غيرت بعض الأشياء، أغلق عينيه رغم الكلمات الجميلة التي تعيد إليه السلام  وهل يعود السلام ببضع كلمات! 

أسرته .. يتذكر أطفاله الصغار العذاب المستعذب إنه في بعض الأحيان يغضب منهم لم يعرف الخلوة الشرعية منذ قدوم ثلاثة حيوانات لا تعرف إلا الصياح  والمزاح في وقت لا يطيب فيه المزاح!

الغرفة فوق السطح  مجرد علبة صغيرة لا تحمي من حر أو برد لكنها تحتوي الأحلام المؤجلة . 

مازالوا نصف دستة تعيش في علبة صغيرة، هو وزوجته وأبناؤه الثلاثة والفقر، يحس بشخص قادم سبقه عطر ورد مظاهر فخمة يلمح خاتما ذهبيا .. نظارة فاخرة  رباط عنق .. بدلة موهير ..صوت عميق يخرج إليه: حمدا لله على سلامتك يا أخ سالم .

 لا يعرفه لم يسبق أنه دخل إلى شبكة عقله المهترئ .. جلس الرجل بقربه .. يتودد إلىه عرف سر زيارته .. وأدبه الاصطناعي  وحنانه المهني، أحس بالمهانة والوضاعة والحقارة .. وأن السخافة تتكاثر أسرع من الذئاب!

أقبل عامل ومعه باقة ورد أكبر من الأولي .. وفي قلبها اسم الفنانة العظيمة صاحبة  المرسيدس البيضاء همس المحامي في أذنه : ( الفنانة متعبة .. ولكنها قلقة عليك وآسفة، تصور هي الآخرى تحت العلاج؟!

أنت رجل مؤمن المقدر  والمكتوب على الجبين تراه العين!

 أتعرف.. أن الفنانة سيدة كريمة محسنة .. سخية رب ضارة نافعة .. معرفة خير 

تمتم المريض لأول مرة : كيف ؟ قالها بضعف لا يسمح بالمفاوضات .

 ربما تفتح لك باب رزق تعمل عندها .. وهي أرسلت لك مبلغا ضخما  وتعد بالمزيد. المال عندها أكثر من الأرز .. وأنت كلك فهم وذوق . قال في مشاكسة ذكرته بأسلوب زوجته معه : وإذا لم أقبل؟

 بان الغرض على المحامي : دعك من الشراسة كن طيبا .. والا فلا مصلحة لك في أي شيء .. من قال لك أن تمشي فاقد الوعي ؟ ترمي بنفسك على سيارات الناس.

 رد المريض يجرع ولكن بصوت خفيض منكسر: أنا فعلت ذلك!

نعم وهناك شهود  وسمعوك تهدد بالانتحار في مشاجرة بينك وبين زوجتك!

آه .. وهل وصلتم لحرمنا المصون 

كن لبقا .. لا تحرم نفسك من الثمن الفرصة تأتي للرجل مرة واحدة 

حاضر .. مثل قط أليف جدا، وهل كنت يوما غير ذلك .

ابتسم  المحامي بتودد : خذ هذا عربون  المحبة 5000 جنيه ألم أقل لك أنه الرزق جاء يخبط عليك .

قال سالم بمرارة : فعلا جاء يخبط علي بعنف ..على عظامي ؟

ضحك الرجل وترك رزمة النقود قرب رأس سالم ومضى على أن يعود فيما بعد.

 سمع سالم أقدام زوجته تهرول كعادتها ..جميلة بضة تكاد ترتمي عليه تنظر بجزع إلى الأربطة والضماد ..

كيف حالك ..هه .. الحمد لله لا تؤاخذني ربنا يسامحني أنا السبب أنا السبب أخرجتك من البيت مكسور الخاطر ضايقتك بكلامي وتصرفاتي .. صدقني يا سالم سوف أكون سيدة محترمة  صدقني لم أقصد إهانتك .. أنت تعرف آفة اللسان!

الدموع في عينيها يكره أن يراها هذه المرأة المتوحشة كم يحبها . وكم تمنى أن يقتلها.. كاد ينسي عاره إلىومي! 

سمعها تتهدج

-أنا أتوب إلى الله .. لكنه السيف على الرقبة الفقر !

 قال سالم :خذي هذا ثمن عظامي!

بأصابع بيضاء ويد مدربة على النقود احتوت الرزمة الورقية، تصنعت التعجب فارتفعت علامات الاستفهام فوق وجه سالم .. هل عرضوا عليها المبلغ أو لا ،إنها لم تسأل  عن الرجل وهو يغادر سريره .. كأنه يعرفها .

سألته: تعويض؟ 

وهل وافقت على هذا المبلغ الصغير ؟!

ماذا أفعل هل أرفض .. القضاء حباله طويلة.  رفعت حاجبيها . أولاد الأفاعي .. لكل شيء ثمن ، وإن كنا بحاجة للمال .. فلماذا لا تفاوض قبل التنازل يمكن أن نحصل على المزيد ..عندها مال كثير .

وخزته شوكة في حلقه .. اعتصر الألم تنبهت إلى أنه مريض ..حاولت التلطف وتغير لهجتها المخلبية  وابتسمت ..ابتسامة عضلية أضاءت وجهها الجميل .

 ماذا قال الأطباء ؟

 أحتاج راحة طويلة .. الإصابة شديدة 

قالت وهي تلوي شفتها السفلى .. لو لم يكن البيت في حاجة لهذه النقود .. كان لي معهم شأن آخر .. دعهم لي  سأعرف كيف أعتصر قلوبهم .. كم عندي من سالم  . 

أرجوك الهدوء 

خرجت المرأة في رشاقة  وأقفل الباب وعاد الهدوء المعقم يلف المكان .

 نظر إلى نافذة الحجرة .. قطعة سماء زرقاء يداعبها غصن هزيل . 

 تناهى إلى سمعه صراخ ممرضة سمينة (( هذه البلاوي لا تنتهي )) أوووفو..

شيء يجنن صار البلد فيضانا من الإصابات والموتى .. وأشباه الموتى متى يرحمنا الله ..متى ؟

نحن في سلخانة!

 وكانت بطاقة الفنانة تطل من باقة الورد في تحدٍ وسخرية .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *