النقد الأدبي في لبنان بين التقليد والتجديد خلال القرن التاسع عشر

Views: 852

د. عمر الطباع

على غرار النقد في مصر، خلال القرن التاسع عشر، كان إتجاه الحركة النقدية في لبنان، إبّان الحقبة نفسها، تستمدّ أصولها وقواعدها من مذاهب النقد التقليدية وآثارها، جاعلة الشعر الجاهلي والإسلامي المثل الذي يحتذى والمقياس المعتمد في كل موازنة بين شعراء الماضي والحاضر.

شاكر شقير

 

وبالنظر في آثار النقّاد اللبنانيين بدءأ بكتاب “الشرح الجلي على بيتيّ الموصلّي”  للأديب القاضي أحمد البربير (1745 – 1811م)[1] يتضح أن النقد في لبنان حتى أواسط القرن التاسع عشر ظلّ محافظاً ممعناً في إحتذاء النماذج الموروثة. ففي حملة البربير على معاصرين من الشعراء لا يرى في بضاعتهم إلا ما يدل على الإبتذال، كأن يقول: “وإن وجدت بين طرزهم درّة يتيمة فاعلم أنها مسروقة من عقود الأشعار القديمة، فهم السارقون بخيوط لحاهم جواهر الفصوص، ولذلك قوبلوا بالصفع، كما قوبل سارق المال بالقطع”[2]. وليس أدلّ على ضياع هوية الشعر في نظر البربير من اعتباره: “أن الشاعر ينظم في كل فن، ولا ينظم في كل فن إلا من دخل حانات العلوم، فشرب ولو كأساً من كل دن”[3].

عيسى اسكندر المعلوف

 

في مثل هذا القول اهتمام ولا ريب بضرورة إتساع ثقافة الشاعر نظراً لإتساع مدلول الشعر، ولما كان البربير يجعل هذه الثقافة مرتبطة بـ”علة الأصول” و”علم الفروع”، بما في ذلك العلوم الدينية – من تفسير وتجويد وحديث بالإضافة الى الفرائض والأنساب وعلم التوحيد – يصبح جلياً أن مفاهيم الشعر والفن والعلم كانت مفاهيم متداخلة وغير محدّدة.

رشيد الدحداح

 

إتجاهان في النقد المحافظ

بعد أواسط القرن التاسع عشر، يتجه النقد المحافظ إتجاهين، أحدهما تقليدي صرف في تقليده كأنه صورة لما كان عليه في أوائل القرن ومن أعلامه:

شاكر شقير وعيسى اسكندر المعلوف، ورشيد الدحداح وبطرس كرامه وبينهم أيضاً إبراهيم اليازجي وشكيب ارسلان، فهؤلاء تقليديون في منزعهم على تفاوت تأثرهم بأحداث العصر وعلومه. وأما الآخر، فهو إتجاه محافظ إلا أن نصيبه من معطيات الجديد أوفر حظاً، وبين هذا الرعيل من النقّاد: داود عمون ونجيب الحداد، وسعيد الشرتوني وحليم دموس[4].

إبراهيم اليازجي

 

فإذا أردنا أن نتحرى بعض طبائع هذا النقد المتزمت منه والمعتدل، أمكننا من ناحيةد عند الطائفة الأولى تشبثاً بالصناعة اللفظية والمعنوية كما في كتاب “غصن لبنان”[5] لشاكر شقير، وكتاب “لمحة في الشعر والعصر” للمعلوف الذي “لم يستطع بلوغ الغرض”[6]. في مسايرة حاجات العصر الجديدة. أمّا إبراهيم اليازجي، فقد أدرك علاقة اللغة بالعصر، وحاجة الناس في كلّ زمن إلى التصرف باللغة تبعاً لهذا المبدأ، غير أنه يعتمد هذه القاعدة من الناحية العملية، فوصف بالتزمت لأنه عمد “إلى التصفية اللغوية . . حتى في تعابير بعض كبار الكتّاب العصريين والجرائد مع ما ذكره في اللغة والعصر من وجود لغة لكل عصر”[7].

الأمير شكيب ارسلان

 

ربّما كان موضوع الشعر والإهتمام بتعريفه وتحديد طبيعته من أهم موضوعات النقد التي تناولها الفريق الثاني من النقاد المحافظين عنيناً بهم أولئك الذين كانوا على إلمام بالثقافات الجديدة فجنحوا إلى الإعتدال، ولم يسرفوا في التقليد. ومع أن إبراهيم اليازجي مسرف في تشبثه بالأصول، متشدد في مذهبه المحافظ، إلا أنه كان طويل الباع في علوم الأوائل، وقد تميّز فيما قاله عن الشعر في مجلة الضياء[8]بالعمق والدقة والإحاطة وكان له في الحديث عن “حدّ” الشعر – في النقد العربي والأجنبي -، والتمييز بين طبيعة الشعر والنثر، آراء قيّمة ونظرات ثاقبة، فقد دخل في شيء من الموازنة وهو يعرض لأقوال النقاد عند الفريقين واستطاع – وهو يبحث توليد المعاني وقدرة المخيلة على الإختراع وتسلّط الشعر على الوجدان بما فيه من الإيقاع والمجاز – أن يلامس أعتاب التجديد، وأن يكون فاتحة خوض في مسائل الشعر ولا سيما الفرق بين العرب والإفرنج في هذا الفن عند حليم دموس[9]ونجيب الحداد[10] وسعيد الشرتوني[11] بشكل أخصّ، فقد فتح هؤلاء بفضل إبراهيم اليازجي مزيداً من النوافذ على الآداب الغربية وأعدّوا بجلاء أكثر للمقارنات بين الشعرين العربي والأجنبي، وفضلهم من هذه الناحية أنهم هيأوا الأجواء الملائمة لظهور المذاهب الجديدة في النقد، المتأثرة تأثراً واعياً وعميقاً بمذاهب الآداب الغربية، بل وبالنظريات الفلسفية الحديثة عند داروين وسبنسر[12]فما هي أبرز القضايا النقدية التي عني المجددون من نقّاد لبنان بدراستها؟

داود عمّون

 

أبرز مظاهر التجديد في أعمال النقّاد اللبنانيين

منذ أواخر القرن الماضي بدأت ملامح النقد الجديد تظهر لتلعب دورها في الحياة الأدبية الحديثة. وليس أدلّ على صحة إتجاهها وأهميّة ما اغتذت به من ثقافة أصيلة ودخيلة، من كونها في مسارها الناشط، نجحت في إرساء النقد على قواعد عريضة عالميّة عامة، لا محلية ولا إقليمية. وأسست بالتالي مذاهب ذات نظريات متميّزة، أو بالأحرى مدارس نقدية لها فلسفتها الخاصة في تصوّر العلاقة بين الأدب والإنسان والحياة.

نجيب الحداد

 

ومن أهمّ الموضوعات التي خاض فيها النقاد المجددون، الشعر وعلاقته بذاتيّة الشاعر، والأدب وتفاعله بقضايا المجتمع، ورسالة الأدب في الحياة. وقد كان للنقّاد اللبنانيين، في لبنان وخارجه، ولا سيّما في مصر والعالم الجديد دوران هامّان: فهم من ناحية زوّدوا ميدان النقد بأحكام جديدة مستمدّة من قراءاتهم في الآداب الأوروبية، ومارسوا من ناحية ثانية رسالة تصحيحية في النقد، الغرض منها توجيه الأدب شعره ونثره وجهة عصرية متطوّرة. فكانت لهم دعوات الى الترجمة والاقتباس والتفاعل، والأداء الصادق، والمعاناة الحيّة، ليكون الأدب تعبيراً عن تجارب وجدانية لا مجرّد براعة إنشائية أو بلاغة تصويرية . . كما كانت لهم حملات عنيفة هاجموا بها الإنسياق وراء الأزياء البالية في الشعر وفنون الأدب، والتقيّد بأساليب البلاغة التي قرّرها الأقدمون، وتعظيم الآثار الشعرية والنثرية – لا على قدر حظها من التوليد والابتكار والاستقلال الذاتي والخروج عن المألوف من المعاني والقوالب اللفظية والصياغة . . . – بل على نسبة ما فيها من الاقتداء والإحتذاء.

حليم دموس

 

***

[1] كانت ولادة الشيخ أحمد البربير في دمياط، من الثغور المصرية، لأن والده كان يتعاطى فيها أعمال التجارة. وقد عنى أبوه بدراسته حتى نال قسطاً وافياً من علوم عصره العقلية والنقلية. وظهرت موهبته الشعرية  فنظم القصائد وهو في حدود الثالثة عشرة من عمره. ثم حضر إلى بيروت سنة 1778، وتولّى القضاء سنة 1790 بطلب من الأمير يوسف الشهابي. ثم استعفى من منصبه وانتقل الى دمشق، وفيها توفي سنة 1811م.

[2] الشيخ أحمد البربير: الشرح الجلّي على بيتيّ الموصلّي – ص 83.

[3] م.ن: ص 84.

[4] شوقي ضيف: مقدّمة كتاب “النقد الأدبي الحديث في لبنان” للدكتور هاشم ياغي، دار المعارف بمصر القاهرة 1968 – ص5.

[5] م.ن: ص152.

[6] م.ن: ص159.

[7] م.ن: ص166.

[8] راجع مجلة الضياء السنة الثانية 1899 – الأجزاء (1) و(3) و(6) – والسنة الثالثة 1900 – الجزءان (10) و(14).

[9] في سنة 1910 أصدر حليم دموس حول الشعر كتاباً سمّاه “زبدة الآراء في الشعر والشعراء”.

[10] كتب نجيب الحداد عدة مقالات حول “الشعر العربي والشعر الإفرنجي” في أعداد مجلة البيان. السنة الأولى 1897 – 1898.

[11] “البيان العربي والبيان الإفرنجي” هو موضوع مقالات سعيد الشرتوني التي كتبها في مجلة المقتطف السنة 27 (1902).

[12] راجع الفصل الأول من الباب الثاني ص483 وما بعدها من هذه الدراسة.

راجع أيضاً – عمر الدسوقي – “في الأدب الحديث” الجزء الثاني ص 211-212. فقد أبرز المؤلف دور النقاد اللبنانيين من أمثال نجيب الحداد في الدعوة الى الثورة الأدبية، وقال إنه “وضع أمام المجدّدين حقائق عن الشعر الغربي يسيرون على هديها..”

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *