عارية ك “شلّال”… عن ديوان “أشجار الّليل” لسناء البنّا

Views: 1026

حكمت حسن البنية

 “الآن” كلّيّ الوجود في ذاكرة الشّاعرة “سناء البنّا “. وهي حاضرة في زمن” الآن”وهي لحظات تتّسم وتتخصّص بالتّاليف والابداع. فالكتابة عند الشّاعرة سناء البنّا هي الكتابة الواثقة ، القويّة ، الواعية والمتشبّثة بكلّ انتماء متاح إلى الحبّ . ولثقة الشّاعرة بنفسها جاء القسم الأوّل من الدّيوان ليمجّد هذا الحبّ المعاش بكلّ جرأة ، بين فكر الشّاعرة سناء وقلبها وعقلها مع ” الحبيب” الّذي أثقلته مفردات : سجد ،صلاة ، فقه ، جبّته، ثمار الجنّة ، متنسّك ، قلبك مجمع فقهيّ والعارف ؛ من دون أن تزيح قيد ومضة عن وجوده في حيّز متشبّع بالحواس ( الجسد) أرأيتها / متبتّلة على ضريح/ افترستها الذّاكرة / بين نهديها/ واد شدّته فؤوس الغواية / ص : 17.

 “سناء” إمرأة بنكهة نور ، شاعرة بنكهة موت ، أنثى تتحدّى الفناء بالقصيدة ” أخاف الفناء” 15 والموت مبتغاها ومرتجاها ، يتوازى مع قصائدها ، بينما الفناء هو امّحاء ، تلفظه قصائد هذا الدّيوان خارج مدارها، ك “أنثى” وك “كون” . فهي أنثى لاهية ، خالقة ، تتنزّه خارج حدود الكون : حلمت أنّي / أذوّب الشّمس في بحيرة / امرّغ وجهها بالهوى … 13 .إمرأة مشبعة بالحبّ ، ينقصها “هو” / قبضة يدي فارغة/ والماء في فم الأفعى سموم هازئة/ 10 . ينقصني حرف/ لتكتمل مقصلتي/ 11 . وفي شعرها تتقلّب أوجهها كما تستعمل الحواس لتظهر كلّ ما تبوح به في داخلها / أعدّ لوليمة حبلى بالمعاني/ السّحابة تجهض إيقاع المطر / راقبت النّهر/ ملوحة الأوطان/ 9 .

معان تتدفّق على مساحة الدّيوان، وهي لا شك تكمل انسيابها في مكان ما وإلى أجل بعيد . نصوص الشّاعرة غواية جرح انفتح منذ “التّناول “الأوّل،هادر ، صاخب ، يرسم خطوط حبّ التقط مداره وبدأ/ كأنّ الجرح مدارنا الأخير/ لا أجيد الغوص في سذاجة المعنى/ ص7 . ومنه انطلقت “سناء” إلى اتّساع ما زال يكمل ذروته، أنثى تبيح لنفسها كلّ قوّة ، تناولتها لتثبت وجودها الحقّ في ” زبدة عشقٍ” تقدّمها لنا في الرّبع الأوّل من الدّيوان ، حتّى لتظنّ أنّ لا حزن عظيم ستفرشه لك قصائد على مساحة قسم كبير من الدّيوان ، لتعود في آخره إلى رحيق العشق الّذي لن تحيا بدونه ولن تموت إلّا به .

 مشاعرها عائمة على أوج الجسد ، لا اختراق له ، فهو تنحّى عن جسدٍ ، وصار خلقًا مدفوعًا برغبة الشّاعرة في الخلق ، مدموغًا بأحاسيسها ، خاصًّا بها ولها .

قالت أنّها حين تجتاحها الحمّى / تغفو ببلادة/تبلّل منديلها من الذّاكرة/لتلملم وشمك عن جسدها/ص18 . وفي كلّ هذا البوح ترى ثباتًا وصلابة قلّما تراها عند عاشقة/ أن تبني ركنًا وجدار/ قلب النّساء للهوى مدار/ هي النّظرة رسول/ ص22 ، امرأة تجيد تخمير المشاعر والأفكار وما يتخمّر يبقى أثره ، إثر تمدّدالوقت/ملح المكان/ ملء الخوابي/ ذاكرة ص 23 ،.

فقه للحبّ ، على مدى مساحات القصائد ، تدمغ فقه الحبّ عند الشّاعرة ، ستائر/ ” أشجار ليل ” تودي للحلم ، فتطفىء سناء السّراج ليضيء ما ليس بستار( الجسد) / أترك أنفاسك هنا /بين كلماتي وقرصة البرد / أوصد الّليل عاريًا فوق جسدي/ وانفخ السّراج/ ص26 ويكون ” الشّعر ”

ترفع “جسدها” لترى الأوثان من عل / في حضرة الجسد/تتقمّص روح الأنبياء ص29 . من الوعي تأخذنا إلى رحلة ، تعبر الجماعة ، تتأبّط العلم ، تحضّر الفكر ،تبجّل القلب وتكتب . رجل ” سناء” هو رجل الأبعاد ص 34 . ترفل إضاءاتها ب مقامات / بسملة وحمدلة / سجّاد العشق يصلّي / العارف/ ص 35 . ما أروع هذا التّمازج بين مفردات السّجود والصّلاة وبين مفردات العشق والجسد ، وفي هذا تتفرّد الشّاعرة والمتصوّفة ” سناء البنّا ”

هويّة أثبتتها وما زالت تملؤها رغم الشّريط الشّائك ، الملتفّ حول عنقها / وهنا يبرز التّساؤل الأهم ، كيف لكلّ هذا العزم والحزم والثّقة والقوّة أن لا تنزعه وتخلعه وهو الانتماء الوحيد المتبقّي لها بالنّظر إلى المجتمع الّذي تحرّرت الشّاعرة منه على مدى سنوات ، بدءًا من طفولتها وصولًا إلى حاضرها الّذي تمارسه بجرأة وحبّ وثقة وقناعة تصل إلى حدّ التّهكّم النّاضج على مفرزات الواقع / لا تلتقطني أسافين الانتماء وبهلوانيّته / 169 . وفي مكان آخر أخبرتها أمّها أن شرف البنت كعود ثقاب / صارت تتلذّذ بإشعال علب الكبريت/ تحرق أفكار أمّها الكاذبة / 42 .

وفي الدّيوان ، العدد يفوق المفرد ، فهي تقول رغائبي / أرجلي / وجوهي/ أرحام / ألف رجل أحبّهم / وكلّ هذ الوعي لأدوارها ، أعقبه حزن يوازي كلّ تجاربها الّتي توغّلت فيها . /لم أساومه على لقاء/هو ذهب للصّلاة / أنا سبقته للحياة/ أتممت شعائر الحبّ 63 . حزنت، ثارت ، التصقت الخيبة بها ، وعفت عن أقلامها ، فكتبت ، لغة الجسد تحريف / أنزلوها في كتب جانبيّة / شعور ذات تلتمس الرّغبة في تجويف الفكرة / 75 . وأنّى من تتصدّى له الّليونة فينقلب إلى حجر صلب / مدينتي/ بين الثابت والمتبدّل روح خضراء / أقرؤها عل يباس الماء الضّحل / 83 . أحبّك في حبكة الّلغة لأطهّر القلب من ترابيّته 85 . لم تفلح الفتاوى في موقف هدير الأنثى الفوّارة الّتي هي نفسها الثّائرة الصّامدة ، والنّاقدة للمجتمع / سائلة عن وطن/ وطن أصيل / نحبّه / وهو يجافينا / وطن بديل 119 .في مدن الشّرق / يعلّمون أطفالهم اصطياد الأفاعي وسلخها/ 144 .

شكٌّ بالمسلّمات، تبنٍّ للمعرفة ،قلب لكلّ المفاهيم / ما من جهلٍ كلّي / العلامة تبدأ دائمًا فوق الصّفر /أمّا المعرفة / فقد تكون صفرًا 146 .

تجربة ” سناء ” تجربة حيّة مكتملة جسدًا ، روحًا ، عقلًا ، فكرًا ، شعورًا / أنسن نفسك لتتألّه / 160 ، كلماتها مجبولة بدقيق الحبّ، وهي تبتسم لك على مدى القصائد ، / قلبها إله كبير يصلّي ويضاجع / لينجب الطّين والقصائد والسّلاطين / 215 ، بكلماتها تفكّ أساطير الشّرق ، رموزه ، بدائيّات الجسد ، إيمان العارف ، بكتابها يتغذّى الفكر ، واقبلي ” سناء ” أن أقول ( دواوين أشجار الّليل ) والّتي تتنفّس ليلًا لتمنحنا أكسجين المعرفة والحبّ نهرًا ، ديوان أشجار الّليل يجب أن تحويه كلّ مكتبة يسعى صاحبها لامتلاك الكنوز الثقافيّة والمعرفيّة والحسّيّة والشّعوريّة .

وهو ” ماشاءت سناء البنا”

تحياتي لك سناء ومحبتي .

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *