في أساسيَّة النَّقد الثَّقافي

Views: 508

 د.وجيه فانوس*

إنَّ “النَّقد”، بشكل عام، عمليَّة خُصَّ بها الإنسان، ولربَّما كانَ لهذا التَّخصيص أنْ يُشَكِّل أبرز حوافز تصوُّر الإنسان لحاله وتكيُّفه مع التَّغيُّرات؛ ومن هنا تأتي أهميَّة “النَّقد الثَّقافيِّ”؛ خاصَّة، إذا ما أُخِذَ بعين الاعتبار أنَّ الثَّقافة هي زبدةُ النَّتاجِ الحضاريِّ الإنسانيِّ، من جهة، وبذرةُ مُسْتَقْبَلِ تطوُّرِ هذه الحضارة. مِن هنا، كان لا بدَّ للفِعل الثَّقافيِّ، من أنْ يَخضعَ لعمليَّةِ نَقْدٍ؛ فإذا ما غُيِّبَ الفِعلً الثَّقافيُّ عن هذا “الخضوعِ”، فإنَّه لَنْ يستطيعَ التَّقدُّمَ أو التَّطوُّرَ أو الإضافة. 

عرف العالم العربي، في التَّاريخِ المُعاصِرِ، عدداً كبيراً من محاولات النَّقد الثَّقافيِّ في مرحلة ما بعد الكولونياليَّة؛ وكان لبعض هذه المحاولات أن انطلق من خلفيَّاتٍ معرفيَّةٍ وثقافيَّةِ هي ابنة مرحلة الكولونياليَّة، كما كان للبعض الآخر من تلك المحاولات أن انطلق من خلفيَّات معرفيَّة وثقافيَّة هي وليدة الفِعل، أو ردِّ الفِعل، في مرحلة العلمنة بالذات؛ ولعلَّ العامل المؤثِّر في هذه المنطلقات، على اختلافها وتنوُّعها يتشكَّل بصورة أساسٍ من المرحلة الزمنيَّة التي بَنى فيها هذا النَّاقد الثَّقافيُّ أو ذاك مقوِّمات ثقافته النَّقديَّة.

قد تبدو الدراسات المتعلقة بالنقد الثَّقافي قليلة في عالمنا العربي؛ عِلماً أنَّ هذا النقد موجودٌ في الحياة الثَّقافية العربيَّة من آماد بعيدة. إنَّ  كتابات مفكِّري الفلسفة الإسلاميَّة والعربيَّة إنَّما تصبُّ، في نهاية المطاف، عبر بعض جوانبها، في خانة النَّقد الثَّقافيِّ؛ كما هو الحال في “تهافت الفلاسفة “وتهافت التَّهافت”، إضافة إلى النَّقد الثَّقافي الرَّائع الذي قدَّمه محمد بن طُفَيْل، عبر سردٍ قصصيٍّ تمثَّل في حكاية “حي بن يقظان”.

إن ما ينقص الثقافة العربية في هذا المجال هو التَّعمُّق في مناهج النَّقد الثَّقافيِّ؛ خصوصا بعدما أن فقدت الثَّقافة العربيَّة مساحة كبرى من حِسِّها النَّقديِّ في القرون الأربعة أو الخمسة الماضية، إذ انتقلت هذه الثقافة من القدرة على المناقشة إلى القابليَّة المُرْعِبَةِ للقبول والاستسلام. وقد يمكن، ههنا، التَّفريق بين ما هو بنى “وفيَّة” للقديم والجديد، وبين ما هو “مقدَّسٌ” لا يتحمَّل التَّشكيك أو المناقشة على الاطلاق. إنَّ كثيرين قد يخلطون، في هذا المجالِ، بين “القديم” و”المُقدَّس”، فينظرون إلى القديم على أنه مقدس لا يمكن مناقشته أو نقده أو المساس به؛ ويدخلونه، مِن ثَمَّ، في لُجَجِ بحر المُسَلَّمات. طبعا هذا خطأ، لأن البنى الفكرية القديمة، كما هي الجديدة، مجرَّد أبنية ناتجة عن فكرٍ ونظرٍ في الممارسة؛ والفِكرُ الثَّقافيُّ، لأنَّه فكر إنسانيٌّ قابلٌ للمناقشة والمراجعة، بل إنه يفرض، بحيويَّةِ وجوده وسعيه إلى استمرار هذه الحيويَّةِ، إخضاعه للنَّقد. هنا لا بدَّ من إنقاذِ “القديم” من سطوة “المُقدَّس” والتفريق بينهما. فالمقدس واضح، بِحُكْمِ انبثاقه “العُضويِّ” من “الإلهيِّ”، بشكل خاص؛ و”الإلهيُّ” محفوظ بوضوح في الكتب المقدَّسة. ولذا، وعلى سبيل المِثالِ، فليسَ كلُّ ما في الطَّقس الدِّينيِّ أو الفكريِّ “القديم” أو السَّلفيِّ ينتمي إلى “المقدَّسِ”، ولا بدَّ من أن يخضعَ للنَّقد سعياً واقعيَّاً لتطوُّره وتجدُّده وليتناغم مع تغيُّرات الزَّمان والمكان ومفاهيم المعرفة المتجدِّدة؛ كلُّ ما ينقص، في هذا المجال، يكمن في الجراءة والثِّقة بالذَّاتِ عند التَّفريق بين “القديم” و”المقدَّس”.

في الأنموذج الإسلاميِّ مِثالٌ على هذا؛ إذ يُمكنُ الملاحظةَ في الاسلام، أنَّ في “المُقَدَّسِ” ما هو ثابتٌ أو متحوِّلٌ أو مُتَكَيِّفٌ؛ فـ”وحدانيَّةُ الله”، مُقدَّسٌ ثابتٌ لا يتغيَّرُ أو يَتَحَوَّلُ أو يَتَكَيَّف. أمَّا “الصَّلاةُ”، فهي “مُقًدَّسٌ”، لكنَّها مقدَّسٌ قابلٌ للتَّكيُّفِ والتَّحوُّلِ وِفاقاً لظروفِ مَنْ يتعاملُ معها؛ إذ قد يُمكنُ القيام بها قعوداً، لمن لا يمكنه الوقوف، ويمكن تأديتها ولو برمشِ العَيْنِ، لغيرِ القادر على الحركة تماماً؛ كما قد يُمكن التَّحضُّر لها بالتَّيمُّمِ لِمَنْ لا يَجِدُ ماءً أو يُلاقي أذىً مِن استخدامِهِ للماءِ؛ وهذه الأمورُ، بِحَدِّ ذاتِها، لا تُخرِجُ الصَّلاةَ مِن إطارِ “المقدَّسِ”، بل تُبقيها ضمنه، ولكن في دائرةِ القابليَّةِ للاجتهادِ فيه؛ وهذا ما يُشيرُ إلى انفتاحيَّةٍ للتَّعاملِ الموضوعيِّ العميقِ مع “المقدَّس”. لذا، يُمكن التَّأكيد أنَّ “المقدَّسَ” ليس جلمود صخرٍ يُعيق مسارَ الحَقِّ، بقدرِ ما “المُقدَّس” إطارٌ مرجعيٌّ تأسيسيٌّ وأساسٌ يعملُ باتِّجاهِ التَّناغُمِ الايجابيِّ للحياةِ الإنسانيَّةِ مع تطوُّراتِها والمتغيِّرات الانسانيَّةِ المتوافقة مع جوهرِ هذا “المقدَّسِ” والمراعية له. هذا يعني، في مجال “النَّقدِ الثَّقافيِّ”، أنَّ للإنسان حُرِيَّةُ التَّعامل مع موضوعات ثقافيَّة، بل ومع أيِّ ثقافة كانت، ولكن لا بدَّ له من “اخضاعِ” هذا التَّعامل لقاعدة النَّقد. والنَّقدُ هنا يعني تبصُّراً ضمن فلسفةٍ محدَّدةٍ واعيةِ ورؤية معيَّنةٍ ثاقبةٍ ومنهج عملٍ موضوعيٍّ ضمن غاية واضحةٍ على أساسها تتَّحِدُ كلُّ تلك الأمور. وإذا ما كانت الغاية الحفظ الحقيقيُّ لـ”المقدَّسِ”، وهو حفظ يعني تفعيل “المقدَّس” باتِّجاه عصرنة الحياة وتناغمه معها ضمن أسسه الثَّابتة، فالقضيَّة باتت الآن قضية عِلْمٍ حقيقيٍّ ومنهجٍ موضوعيٍّ ورؤيةٍ رصينةٍ؛ ولا يعود، تالياً، ثمَّة إشكال. أما اللُّجوء إلى القمع والتَّرهيب، فهذا لا يتوافق مع أصول النَّقد الثَّقافيِّ، وهنا لا بد من القول إن المُسْتَغِلَّ سوف ينكشف وينفضح أمره.

كيفما دار الأمر، فإنَّ المتغيِّرات في الزَّمن الرَّاهن أصبحت أقوى من كلِّ مظهرٍ للثَّبات؛ حتَّى لكأنَّ العالَمَ المعاصر ما عاد يعرف حقيقة وجهه، أو لعلَّه أَيْقَنَ أنْ لا حقيقةَ ثابتةَ لِما كانَ يعتبرُه وجهاً لهُ ومقياساً لوجوده. ولا بدَّ للجميعِ، وخاصَّة أهل الثَّقاة العربيَّةِ وناسِها، والحالُ كذلك، من مواجهةِ تَحَدِّي هذا الواقعِ والنَّظرِ الموضوعِيِّ فيهِ والسَّعيِّ الدَّؤوبِ إلى توفيرِ مناهج صحيحةٍ للتَّعامل معه، إمَّا لمصلحةٍ لهم في استمرارهم في هذا العيشِ المعاصِرِ وانتعاش آفاقِ إيجابيَّةٍ لهذا العيشِ لهم، أو رغبةً منهم في القضاءِ عليهِ وتبديد قواه.

****

(*) أمين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *