نهَـبوا الخزينةَ واستباحوا مالَها والشعبُ ينْـزِفُ والرُعاةُ لصوصُ
جوزف الهاشم
… وتتسلَّط العيونُ الفارغة على الموازنة الفارغة المتنقّلة من مجلس الوزراء الى مجلس النواب : من هالكٍ الى مالك ، الى “قبّـاض” المال ، الى “قبّـاض” الأرواح ، والناس تحتضـرُ وقوفاً كما الشجر … “تـموتُ وهي على أقدامِها الشجرُ” …
ما يقارب العشرين جلسةً في مجلس الوزراء إستهلكتها الموازنة من الدرس والنَـزْف ، شبيهةً بقصيدة “غلـواء” للشاعر الياس أبي شبكة التي شربتْ الـدم من العشرين قلباً ولم تشبع .
وجلساتٌ معمَّقاتٌ للجنة المال البرلمانية إمعاناً في التدقيق والتحقيق كمن يفتّش عَبثـاً عن مكتشف الملح والنار .
ومعلقاتٌ من بعدُ مطوّلات في المجلس النيابي : بين فرقـةٍ من المدّاحين ، وفرقـةٍ من الهجّائين ، وفرقـةٍ من الندّابين … كلّهم انتقدوا الحكومة وكلّهم ممثلون فيها ، الحكومة عندنا حكومات ، بعضُها يتهّـم بعضَها ، والسجالات البرلمانية بهلوانيات ، ومبارزات حول المسؤولية والشفافية والعفّة ، والبخور يُحرقُ تبريكاً لطهارة الذات كَمَـنْ يصلّي أمام الوثَـن .
والآتي الأعظم المنتظر هو ذلك الإنقضاض على فريسة التعيينات الإدارية بكل ما تستنـفرِهُ الجوارح من أظافر وأنياب ، فحيث تكون الجثَّـة تتزاحم الطيور الكاسرة .
وعندما يتّـمُ الإنقطاع عن قطْـع الحساب لأن قطع الحساب من قطـع الرقاب ، وعندما يتـمّ تهريب الموازنات ، وتهريب التعيينات ، وتهريب الواردات على عينكَ يا تاجرَ الحكومات ، يكون كلُّ الحكوميين متورطين وكلُّ المسؤولين متَّهمين .
وعندما لم تبـقَ مؤسسة من مؤسسات الدولة إلاّ ملطّخة بالفساد يكون كل المسؤولين عنها فاسدين .
وعندما يتجنَّد اللصوص حراساً على بيوت الذهب وتسقط الدولة ضحية إفلاس المال وإفلاس الرجال ، فإما أن يكون اللصوص أقوى من المسؤولين وإما أن يكون المسؤولون هـمُ اللصوص .
وعندما يجمعون على القول : إن الدولة منهوبة ، ويكتّمون كشف النهّـابين، ويبرِّئـون المختلسين يكون الغافل شريك الفاعل ويكون الكل شركاء في الجـرم ، فإنِ ادّعيتَ عليهم جميعاً فلا يجرؤ أحـدٌ أن يقيم عليك دعوى تحصيل الشرف .
في معزلٍ عن هذه الوقائع القاطعة لا معنىً لكلِّ أناشيد التسبيح التي تُـتْلى حول الموازنة في هيكل الشهوات ، مع ما يتحلّى به المنشدون من براعة في شيطنة التقوى .
شاهدٌ واحدٌ يكشف عن أخطر جرم وطني ، هو رئيس “مركز الدولية للمعلومات” ، حين يعلن “أن 601 ألف لبناني غادروا لبنان ولم يعودوا منذ 1992 ، وأن 34500 مواطن غادروه ولم يعودوا سنة 2018” .
ولبنان ، هذا الذي قيل إنـه بَنْـكٌ للأدمغة ، هجَّروا منـهُ هذه الثروة الأغلى وأوْقعوه بالإفلاس العقلي ولـم تبـقَ فرصةُ إنقاذٍ لـه وخلاص إلا أن يغادروه هـمْ برائحةٍ طيبة من أجـلِ البقية الباقية من الأدمغة في لبنان .
***
(*) جريدة الجمهورية 19/7/2019.