إنجليزية أحبت المصريين

Views: 1507

مصر- حمدي البطران

  أقامت في مصر لمدة سبع سنوات (1863- 1869)، إنها السيدة لوسي دوفجوردون.إنجليزية ولدت في 1821. كان والدها محاضرا في الفنون، وكانت أمها بارعة الجمال ومثقفة ثقافة عالية ورفيعة وتجيد عدة لغات. كانت تجمع حولها عددًا من المثقفين والأدباء الإنجليز في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

تزوجت لوسي من سير ألكسندر دف جوردون، ومنه أخذت اسمها، واضطرت الى الانتقال الى فرنسا وهناك أتقنت اللغتين الألمانية والفرنسية قرأت أمها الإنجيل، وألف ليلة وليلة، وبعض كتب التاريخ القديم التي كتبها هيرودوت، كما قرأت بعض ما كتبه المستشرقون عن الدين الإسلامي، وقرأت ما كتبه توماس كارليل عن النبي محمد (صلي الله عليه وسلم). وترجمت عدة مؤلفات من اللغة الألمانية. وكانت متسامحة في النواحي الدينية، وخلال عملها في الترجمة أصيبت بداء السل وكانت في الواحدة والثلاثين من عمرها. لم يكن في ذلك الوقت قد اكتشف علاج لهذا المرض الخطير. ونصحها الأطباء بأن تذهب إلى إحدى البلاد التي تتمتع بجو معتدل وجاف مثل جنوب أفريقيا. ولكنها لم تجد بغيتها هناك وعادت مرة أخرى الى إنجلترا ونصحها الأطباء بأن تأتي الى مصر.

وكتابها رسائل من مصر، نشره في عام 1962 حفيدها جوردون ووتر فيلد والذي كان يعمل صحافيا في القاهرة يعمل رئيسا لتحرير جريدة الإجبشيانجازيت. الكتاب عبارة عن عدة رسائل بعثت بها السيدة لوسي لزوجها أثناء إقامتها في مصر في الفترة ما بين 1862 الى 1869. وترجمه الى العربية أحمد خاكي.

وصلت لوسي أو جور دون  الى الإسكندرية في أكتوبر 1862.في أواخر عهد الخديوي سعيد باشا حاكم مصر وقتها، ووصلت الى الأقصر شتاء نفس العام، واستقرت في بيت اسمه بيت فرنسا بناه هنري سولت [[1]] القنصل الإنجليزي وأحد مهربي الآثار فوق كومة من الأتربة تغطي معبد الكرنك ويطل علي مسجد سيدي ابي الحجاج [[2]] . كما يطل المنزل على نهر النيل من الناحية الأخرى. وبعد أن استقرت في المنزل.بدأت لوسي في الاختلاط بأهالى الأقصر.

في ذلك الوقت لم تكن الأقصر قد تحولت الى مدينة مزدحمة كما هي عليه الآن (2008) فقد كانت عبارة عن قرية تعدادها لا يتعدى الألفين.

كان منزل لوسي ملتقى لكثير من العلماء الأجانب الذين يزورون الأقصر، ومنهم شامبليون الذي فك طلاسم اللغة الهيروغليفية. ومارييت عالم الآثار والذي أسس متحف الآثار. كما كان يزورها مهربو الأثار، ومبشرون لتحويل المسلمين عن ديانتهم الإسلامية،وأيضا تحويل الأقباط عن عقيدتهم الأرثوذكسية.

عندما استقرت لوسي في بيت فرنسا في الأقصر أحبت الأهالى وتعاطفت معهم. وكتبت الى زوجها تصف البيت بأنه متسع جدا، وجدرانه سميكة – طبيعة المعمار المصري الذي لا يستند الى دعامات أسمنتية – وانها تعتصم في بيتها من الرياح العاتية، وأنها تجد الدفء في داخله، وبه نوافذ يغطيها الزجاج، وتقول إنه مسكن جميل تهفو اليه النفس، وفيه بومتان كل واحدة في حجم قبضة اليد وتعيشان تحت النافذة. وعندما ساءت حالة البيت في أواخر أيامها كتبت لوسي إلى ابنتها أن البيت بلا أبواب وبلا أثاث، وقد بدأت العصافير تبني فيه أعشاشها، وفي بعض الأحيان تطير فيه الخفافيش.

وقد كتبت الرحالة الإنجليزية إميليا إدواردز عن هذا البيت عندما زارت مصر عام 1872 بعد رحيل لوسي دوفجوردون منه بثلاث سنوات. وقالت إنه بناء بدائي من سعف النخيل والطوب المجفف في الشمس، وقد أقيم جزء منه مقابل معبد الأقصر والجزء الآخر فوق سطح الهيكل في الطرف الجنوبي من المعبد، إلا أن  البيت له مكانته في التاريخ لأنه في سنة 1829 أقام فيه شامبليون وروسيليني معا للقيام بعملهما خلال جزء من فترة إقامتهما الطويلة في الأقصر. وقد اعتادا الجلوس فيه أثناء الليل لقسمة عمل اليوم، وأقام فيه ضباط البحرية الذين أرسلتهم فرنسا سنة 1831 لنقل المسلة القائمة الآن في ميدان الكونكورد.

 وتحكي إميليا انها شاهدت المنزل وكانت حالته سيئة، وشاهدت إميليا إداواردزأريكة لوسي وسجادتها وكرسيها الذي يمكن طيه، وكانت جدران المنزل مزينه ببعض الصور القليلة والرخيصة وزوج من الشمعدانات المصنوعة من القصدير، وعندما استفسرت الإنجليزية من القنصل العربي عن حالة المنزل وقت أن كانت فيه السيدة الفرنسية فأخبرها القنصل بأنها كان لديها منضدة وبعض الكتب.

رحب أهالى الأقصر بالوافدة المريضة لوسي وسموها الشيخة. ولما رأت هذا التعاطف من جانب جيرانها كتبت تقول: ” إنني أتعاطف مع العرب، وهم متعاطفون معي، وأميل إلى أن أرى أفضالهم، أما سيئاتهم فإنني قد عميت عنها، مع أنها تبدو واضحة كل الوضوح لأقل المسافرين حظا من الخبرة “.

تحكي لوسي عما يعنيه الفلاحون على أيدي رجال السلطة. فكتبت أنها كانت جالسة ذات صباح، وشاهدت اليونانيين وهم ينفذون بكل حماس أوامر الدَيْن عندهم التي تحضهم على تخريب المصريين!وتقول: منذ ثمانية شهور مضت هبط القرية شخص يوناني وأشترى القمح جميعه وهو أخضر لم ينضج بعد، اشتراه بسعر الإردب ستين قرشا بثمن بخس، واليوناني يتبع جابي الضرائب القبطي كما تتبع الصقور الغربان. والآن فقد أصبح سعر الإردب 170 قرشا، وقد دفع الفلاح ثلاثة ونصف في المائة شهريا مما استلمه من ثمن البيع أي من قروشه الستين كضرائب. ولك الآن أن تحسب التي عادت على الىوناني. تقول لوسي إنها تعرف رجلين أفلسا بهذه الطريقة وباعا كل ما كانا يملكان. وقد اضطرهما طاعون الماشية إلى أن يقترضا بفائدة فاحشة.

   ولكن واحاسرتاه…! فإن النيل يتسكع في فيضانه، ولم يرتفع كما كان مأمولا، ولا يزال الناس يشفقون من ذلك. يا لمصر المسكينة وياللمصريين المساكين. لست بالطبع في حاجة إلى ان أقول إن الذين يسمحون لهؤلاء الأروام أن يعروهم من كل شيء لولا تجود بخاطرهم فكرة الادخار من أجل المستقبل. وبيت مصطفى أغا مثال لذلك. فهو مثال للاضطراب من هذه الناحية: إسراف في الجود والكرم، وإفراط في الشح والبخل. ولكن ما عسى أن نفعل مع هؤلاء القوم الذين لم يعرفوا المدنية قط. ويعيشون في عزلة عن العالم. وماذا عسى أن يفعلوا أمام أولئك الأوروبيين الذين لا وازع عندهم من خلق، ولا من دين؟ [[3]] .

اندمجت لوسي في حياة أهل الأقصر وبدأت تتفاعل مع بعض الشخصيات المؤثرة في القرية وعلى رأسهم الشيخ يوسف أبو الحجاج الذي لم يتعدَّ الثلاثين من العمر أحد مجاوري الأزهر الشريف. بعد أن أكمل دراسته في الأزهر عاد إلى القرية وعمل كاتبا في القنصلية الإنجليزية في الأقصر. يبدوا أنها أعجبت به وبثقافته الدينية وفهمه العميق لروح الإسلام. طلبت أن يعلمها اللغة العربية، تجادلا كثيرا وبهرها بطريقته في الجدال والحوار، وربما بهرها شبابه، مما دعاها لأنه تصفه بأنه ” أحلى مخلوق رأيته من حيث الهيئة والرقة والبساطة “. واستطردت تصف كل شيء في الشيخ يوسف حتى مشيته بأنها ” في رشاقة الغزال “.

كما تحكي لوسي عن سماحة المصريين التي تجلت في أروع صورها عندما مات رجل إنجليزي صغير السن في أول رمضان ودفن في مقبرة الأجانب، وتقول لوسي:

   ” تعاون المسلمون والأقباط في حمل الغريب المسكين، وكان منظرا يدعو الى أشد ما تكون بالروعة، وسار في الجنازة عدد من الفلاحين في قمصانهم السمر، وجمع كثيف من الأطفال العبابده عراه كما ولدتهم أمهاتهم، ولكنهم كانوا يظهرون الأدب الجم، وقد حركت ملامحهم التي تنبئ عن الأسى ما بنفسي من الشجن أكثر ما حركت، وقام عمر وملاحو المركب وهم مسلمون بحمل الفقيد ودفنه في مقبرته، وسألتني امرأة من العبابده: أما زالت أمه على قيد الحياة؟ فهو صغير . قالت ذلك والدموع تنهمر من عينيها ، وقد أخذت بيدي وضمتها الى صدرها ، فيا لها من أم تعطف على أم أخرى تعيش بعيدا عنها ويختلف جنس هذه السيدة هذه عن جنس تلك كل الاختلاف “[[4]] .

وتحكي لوسي عن المبشرين والبعثات التبشيرية التي تحول المسلمين والأقباط عن عقيدتهم، فهم يدعون المسلمين اعتناق المسيحية، وفي نفس الوقت يدعون الأقباط الى التحول من مذهبهم الأرثوذكسي الى المذهب البروتستانتي، وقد عارض البطريرك القبطي هؤلاء المبشرين، واستعان بالحكومة المصرية لمنع هذا التحول، وترى لوسي في موقف البطريرك ما لا يعجبها ونكتب إلى زوجها:

   ” لقد جاء البطريرك في موكب من الأبهة كما لو كان ربيب الباشا ، وكان على أقباط الأقصر أن يدفعوا خمسين جنيها جزاء تشريفه لهم ، هذا إلى جانب ما قدموه من دجاج وزبد وغير ذلك من الأطعمة، ولو أن لي نزعة إلى التبشير لاستطعت أن أحول الكثيرين ممن سلبت جيوبهم وسلخت ظهورهم ، ولكن المبشرين الأمريكيين سيفعلون ذلك “[[5]]

كما تكتب لزوجها لتصحح الفكرة التي راجت في أوروبا عن اضطهاد المسيحيين، وتخبره أن البطريرك يضطهد المتحولين عن مذهبه، وان المبشرين الأمريكيين أحدثوا شغبا في أسيوط، وانه لا أحد في أوروبا يدرك أن للأقباط اليد الطولى في القرى، وان الحكومة تعاونهم، وهم يعلمون حق العلم أن الأوروبيين سوف ينحازون الى جانبهم  

تحكي لوسي عن قرية من قرى الصعيد عاقبها إسماعيل باشا فهي قرية قاو. وهي قرية قديمة ذكرها المقريزي بأنها ” قاو الخراب “. وقد تفرعت تلك القرية إلى ثلاث قرى، قاو الكبيرة أو قاوالشرق، وهي في شرق النيل في جنوب رييانة أبي احمد في الجنوب الشرقي لمدينة طما الواقعة غرب النيل. والثانية هي قاو النواورة شرق النيل أيضا جنوب قاو الكبيرة شمال رييانة الهريدي. والثالثة هي قاو الغرب وتقع غرب النيل تجاه قاو الكبيرة بين مطا وطما، وهم ينتمون إلى جد واحد وينطقون الشين سينا والجيم دالا، فينطقون كلمة “الجمل. الدمل” وكلمة “الشعير. السعير” و “الحاج جاد. الحاد داد “. واشتهرت تلك القرى بالسلب والنهب سواء على البواخر والذهبيات التي تعبر النهر أو القرى التي حولها [[6]] .

وقد أغاروا على قرية غربي النيل ونهبوها وملأ أحدهم غرارة من الدجاج والكتاكيت ونزل بها الى النيل ليعبره وهو لا يدري أن الماء سيغرق الدجاج والكتاكيت. وحمل أحدهم أيضا زكيبة مملوءة بالسكر وجرها في ماء النيل ليعبر بها. وبعد أن عبر بها لم يجد فيها شيئا [[7]] .

كان هذا في عام 1864 عندما استقر الشيخ احمد الطيب قادما من جنوب الصعيد بقرية قاو، كان احمد الطيب يزعم انه من أشراف الجعافرة، يدعي العلم والولاية والمكاشفات. أحاط به أهالي قاو وصدقوه حتى عندما أخبرهم أن يحج لبيت الله الحرام دون ان يغادر مكانه، وأن بإمكانه يظهر في مكانين متباعدين في نفس الوقت، وأن جسده لا يخترقه الرصاص، وأن له صداقات من عالم الجن. وادعى أنه المهدي المنتظر.

واستطاع الشيخ أحمد الطيب أن يقنع أهالي عدة قرى بجوار قرية قاو وهي السلمية والرييانه والشيخ جابر أو النطرة أن ينضموا اليه.

كانت لوسي أو جوردون وقتها في الأقصر عندما علمت بأنباء انتقام إسماعيل باشا ورجال إدارته من القرى الثلاث. وقيل لها إن أهالي القرى بقيادة الشيخ أحمد الطيب اعتدوا على باخرة بروسية كانت تمر في النيل وأحرقوها وقتلوا ركابها.

وهناك رواية أخرى عن جارية مسلمة تحفظ القرآن الكريم مملوكة لتاجر قبطي وتقوم على خدمته، ولكن التاجر أرد أن يتخذها رفيقة له في الفراش على ما يقتضيه نظام الرق. رفضت الجارية وتوجهت إلى الشيخ أحمد الطيب الذي استدعى مالك الجارية وخيره بين عتقها أو بيعها، ولكن الرجل رفض، أعطى الشيخ أحمد الطيب للجارية مالا تشتري به نفسها من مالكها. ولكن التاجر رفض وتمسك بحقوقه على جاريته التي استولي عليها الشيخ ورفض عودتها الى سيدها، لم يكتفِ الشيخ باحتجازالجارية، بل قام بضرب التاجر وسلط عليه أتباعه فنهبوا منزله وتجارته.

 ذهب التاجر الى مأمور المركز الذي حاول أن يجبر الشيخ على ترك الجارية، ولكن الشيخ رفض وتمادى في التنكيل بالأقباط من أقارب التاجر ورفض الخضوع لسلطة الحكومة، وكان أتباعه يؤيدوه ويشجعونه على التمرد على سلطة الدولة.

مواله وسلط عليه اعوان  لم ينتظر أفندينا إسماعيل باشا وصول قواته من القاهرة، وأصدر أوامره الى حاكم أسيوط وحاكم جرجا، فجمعواالعساكر تحت قيادة فاضل باشا حاكم أسيوط وتوجهت الحملة الى قاو وريانة وبيده في عدة بواخر. وقامت القوات بحرق القرى الثلاث وإزالتها من الوجود. وطاردت أهلها وقتلت منهم الكثير واستولت على الغلال والمواشي والأغنام.

فر الشيخ أحمد الطيب وترك النساء والأطفال والعجزة يواجهون القتل والضرب والحرق. وقبضت القوات على شقيق الشيخ ووالد زوجته الحاج سلطان وعدد كبير من أتباعه، وبدأت في إعدامهم على الخازوق في أرض المعركة، كما فعل الفرنسيون في سليمان الحلبي قاتل كليبر، غير أن الفرنسيين حاكموا الحلبي قبل إعدامه.  كما قامت الحكومة باعتقال مائة شخص ممن تعاطفوا مع أهالي قاو ووضعتهم في سفينة نقلتهم الى فازوغلي بالسودان لنفيهم الى هناك.

علمت لوسي بأنباء الانتقام البشع من الأهالى، وألح عليها أحد التراجمة أن تنجو بنفسها لأنه من المحتمل قيام ثورة شعبية يكون الأجانب وقودها. ولكن لوسي رفضت العرض وقالت: ” الحجاجية أي أل حجاج سيختمون علي أنني أختهم ،  وسيدافعون عني ، وسيطالبون بدمي كما يفعلون عندما يصاب فرد منهم ” [[8]] .

وقد تحدثت عن تلك الواقعة السيدة إميليا.ب.إداوردز في رحلتها الى أبو سمبل والشلالات عام 1872وشاهدت قرية قاو التي تمثل معقل الفتنة التي ترأسها درويش معتوه منذ حوالى عشر سنوات، وجدنا أن هذة القرية الضخمة المكتظة بالسكان لم يتبق منها الا منطقة فسيحة من حقول القمح الخصبة، وبعض الأكواخ الخربة، ومجموعة من النخلات المفصولة الرؤوس.

كتبت لوسي رسالة لابنتها جانيت مراسلة جريدة التيمز البريطانية في القاهرة تخبرها بأنباء المذبحة التي قام بها رجال إسماعيل، والفظائع التي قام بها الجنود ضد الأهالى في القري البائسة، واعتدائهم على النساء والفتيات.

غير أن ابنتها والتي كانت زوجة لواحد من كبار رجال الأعمال الإنجليز هو هنري ريس ولديه علاقات تجارية بالحكومة المصرية لم تهتم بالموضوع، وكانت هناك إشاعة في الدوائر البريطانية تفيد أن احد مشايخ العرب من المسلمين سافر الى الهند ليحرض الهنود علي الثورة ضد بريطانيا.

وترد لوسي دف جوردون على تلك الإشاعة لتنفي عن المصريين تهمة تحريض الهنود على الثورة بأنه لا يعقل أن يقوم صعيدي فقير بالسفر الى الهند التي لا يعرف مكانها ولا لغتها. ومن ناحية أخرى أنه لو  حاول أن يتآمر على بريطانيا فإنه سيذهب الى لندن أو باريس.

غير أن خطابًا من لوسي الى زوجها يكشف أن المقالات قد نشرت فقد كتبت اليه تقول: ” لقد استولى الذعر على البك التركي، وما من شك أن الحكام يخشون عيون الأوروبيين. لأن الباخرة التي كانت تحمل الأسرى وقفت على بعد ثلاثة أميال من الأقصر بعيدة عن الذهبيات الراسية على الساحل “.

حكاية الأسرى التي تحدثت عنها لوسي أو جوردون بعيدة عن مسألة عقاب أهالى قرية قاو والقرى التي تجاورها. ولكنهم أسرى مصريون. وتقول لوسي إن مدير سوهاج وهو تركي كان مصفدا بالسلاسل ويداه مكبلتان بقيود من الخشب. كما تقول في موضع آخر إن سيد سادات جرجا. شيخ الهوارة قد أرسل الى فازوغلي وصودرت أملاكه.

كما تروي لنا لوسي قصة واقعية حدثت في بيتها أبطالها الخدم الذين يعملون لديها.

استعانت لوسي بخادمة مسيحية اسمها سالي في الثلاثين من عمرها،احضرتها معها الى مصر. وكان لديها خادم مصري آخر،هو عمر أبو حلاوة، يعمل طاهيا وممرضا وحارسا لها، وكانت تكتب عنه الى زوجها، حتى في اللحظات الأخيرة لم تنس عمر هذا. وكانت تريد أن تأخذه معها الى فرنسا، ولكن زوجها رفض، يبدو أنه شعر بالغيرة من عمر من كثرة ما كتبت له زوجته عنه.

ومع طول بقاء سالي مع عمر في بيت فرنسا الواسع، انفرد عمر بالخادمة سالي، وحدث بينهما ما يحدث بين رجل وامرأة.

لم تخبر سالى سيدتها، كما لم تشعر السيدة بالتغيرات التي طرأت علي سالى، وجاء المخاض لسالى فجأة وهي في الباخرة في طريقها الى الأقصر مع سيدتها، ووضعت سالى طفلها.

أعترف عمر بالذنب، وأخبر سيدته أن سالى هي التي راودته عن نفسه، وأسرع الى الشيخ يوسف ليزوجه من سالى،كما يفعل التائبون عما يرتكبون الإثم، أنب الشيخ يوسف عمر تأنيبا شديدا، وقال له: لقد سودت وجوه المسلمين بما اقترفته في حق نساء كان يجب عليك أن تدافع عنهن [[9]] .

وبالفعل عقد قرانه عليها أمام الشيخ يوسف، وقالت لوسي إن الشيخ يوسف أخذ الطفل بين يديه، وتسجل لوسي في خطابها إلى زوجها أنها رأت فيه منظرا من مناظر الإنجيل حيث كان المسيح عليه السلام يأخذ الأطفال بين يديه.

المهم أن عمر حلاوة عمل كل ما استطاع حتى يبيض وجهها ، واعترف بولده ..

الى هنا والأمر عادي جدا.

المشكلة أن عمر كان متزوجا من زوجة أخرى هي مبروكة، وتركها في الإسكندرية، سالي من جانبها لم تهتم بما حدث في أول الأمر، وكانت لا تزال على عقيدتها المسيحية التي لا تجيز لها ان تتزوج من رجل متزوج، وطلبت الطلاق، ولكن عقيدتها المسيحية أيضا تحرم الطلاق.

كانت لوسي قد أعربت عن نيتها في اصطحاب عمر معها الى بريطانيا. وأوصت زوجها بذلك. لذا فقد أشارت إحدى السيدات الإنجليزيات على لوسي بأن تطلب من عمر أن يطلق زوجته الأولى مبروكة، لأجل أن يكون أسرة إنجليزية، ولكن لوسي رفضت هذا الحل على أساس ان مبروكة لا ذنب لها فيما حدث.

على كل حال فقد أرسل الطفل الذي وضعته سالي الى مبروكة لترعاه، وطلقت سالي من زوجها، والتحقت بخدمة جانيت ابنة لوسي في بريطانيا.

كانت لوسي حانقة على خادمتها سالي من عدة جوانب، فمن ناحية أنها أخفت عنها حملها، وفاجأتها بالولادة. أما الجانب المهم فيبدو أن لوسي دوفجوردون قد أحبت عمر. وشعرت بالغيرة لأجل هذا حنقت على سالى، وكتبت الى زوجها تشرح له مع حدث وتقول إن عمر حاول جهده أن يقاومها، وأنه بعد الأسابيع الأولى حاول أن يفصح لها عن الأمر، ولكن سالي رفضت فكرة الزواج، كما رفضت أن تبلغ سيدتها. وقد تملك اليأس القاتل عمر، وطلب من لوسي أن تضربه، وكان دائم البكاء أمامها.

ولكن زوجها يشعر بالغيرة أيضا ولم يعجبه هذا التعاطف بين زوجته وعمر ومنعها من اصطحابه إلى بريطانيا في المرة القادمة.

يبدو أن علاقة لوسي بعمر تعدت حدود الخدمة، وفي أثناء رحلتها للصيف من الأقصر الى القاهرة في مايو 1865وهي مارة بمدينة المنيا حيث فاجأها التهاب في الغشاء البلوري وكتبت الى زوجها:

   وإذا لم أكن قد أحببت عمر فإنه ينبغي أن أحبه الآن ، فقد قام بتمريضي خيرا من أي تمريض لقيته من قبل ، وكان مطواعا وماهرا بقدر ما كان رفيقا بي ، وأعتقد انه أنقذ حياتي حينما عاجلني بكؤوس الهواء على الطريقة العربية مستخدما في ذلك كوبا كبيرا ومشرطا قديما من أمواسك “.[[10]

كما تحكي لزوجها عن عناية أصدقائها المصريين أثناء محنتها، فقد قرأوا القرآن الكريم من أجلها، وأوقدوا الشموع عن أم هاشم، ودعا المصلون في المسجد ليجزيني الله على ما قدمت من فضل عليهم، وعندما كشف عليها طبيبها الإنجليزي أخبرها أن الرئة اليسري السليمة قد أصيبت بالالتهاب، وان علاج عمر قد أنقذ رئتها من التلف.

وتشعر لوسي بقرب نهايتها، وتكتب الى زوجها أنها تنتظر نهايتها صابرة وسط قوم يشفقون عليها ويحبونها فتشعر بينهم بالراحة. وتخبره ان الناس يعطفون عليها، فقد حفر لها القاضي قبرا ليدفنها فيه بين أهله، إذا لم يقدر لي البقاء فأرجوك ألا تنسى عمر فقد أبدى نحوي عناية وعطفا لا يبديهما إلا الأبناء للأمهات. وهو يقدم لك شكره من صميم الفؤاد ويرجوك أن تظل السفينة مسجلة في القنصلية باسمك، لكي يستعملها ويستفيد منها، وقد عينه المير ترجمانا خاصا له، ولكنه مسكين”.

وتخبره بان عمر نحر شاة نذرها، أما مصطفى ومحمد فقد ذبح كل منهما شاتين فدية لحياتها، وعقد كل الدراويش حلقتين للذكر في خيمة وراء سفينتها، وطبلوا بالطبول وانشدوا الأناشيد ليلتين متعاقبتين داعين المولى أن يشفيني، وصام كل من على المركب شهر رمضان صياما نقيا خالصا. أما الناس في إسنا فقد استأذنوا أن يلمسوني حتى تحصل لهم البركة، وكل واحد من هؤلاء كان يرسل اليّ خبزا لطيفا وخير ما عندهم من الزبد والخضر ولحم الضأن، وهم الآن أكثر ما يكونون عطفا علي، وأنا لا أستطيع أن انفعهم بشيء.

غير أن لوسي عندما تتحدث عن الآثار المصرية فإنها شأن كل الأوروبيين ترى أن تلك الآثار مستباحة لمن يمد يده فقط ويأخذها. ولا تمنع نفسها هي أيضا من سرقتها.

وتذكر السيدة أنها التقت بأحد العمال المسنين الذي عمل مع بلزوني (مكتشف مقبرة سيتي الأول) بوادي الملوك، فقد كتبت لزوجها أنها تهديه تمثال سبع أثري، واعترفت في الرسالة بسرقته قائلة:” لقد سرقته من احد المعابد لأجلك ، فقد وجدتهم يستخدمونه موطئا لأقدامهم كي يعتلوا ظهور حميرهم ، وقد سرق فلاح لأجلي خاتما فضيا جميلا التقطه من بين أنقاض الحفائر ، وقال لي : لا تخطري به مرييت (مدير الآثار) أنت أولى به من مرييت لأنه إذا أخذه سيبيعه للفرنسيين ، ويستولي على ثمنه ، ولو لم أسرقه أنا لسرقه هو ، لذا أخذت الخاتم لنفسي بكل هدوء .

الغريب أن لوسي مثلت بروفة للموت، وكما يقوم الممثلون بتجربة أدوارهم، فغابت عن الوعي ليلة كاملة، وأفاقت في الصباح.

كما كتبت نعيها بنفسها الى زوجها وتركت فراغا بين الأسطر ليكتب فيها تاريخ الوفاة. وفي منتصف الليل طلبت بطانيات تتدثر بها، وفي الثانية صباحا طلبت القهوة باللبن، ودخل البحارة الى مقصورتها، وقبلتهم واحتضنتهم، وماتت في مقصورتها في سفينتها في الفجر. وكانت سفينتها راسية في مياه نيل حلوان.

 ****

[1]زار هنري سولت مصر عام 1806 ورسم تخطيطات مبدئية لمدينة القاهرة، وبذل جهوداً كبيرة ليكون قنصلاً بمصر كي يتمكن من جمع أكبر كمية من الآثار لحساب أحد الأغنياء الإنجليز، ليحقق ثروة كبيرة، واستخدم في حيله تلك المغامر الإيطالى جيوفاني بلزوني الذي وصل إلى مصر عام 1815، بهدف بيع آلة رافعة لنقل المياه، لكن مشروعه أخفق فأنقذه الرحالة السويسري لويس بوركهارت وأوصى به سولت، وفي غضون ثلاث سنوات فتح منفذاً إلى أبي سمبل الذي اكتشف بوركهارت وجوده قبل ذلك بعدة سنين، وأزاح الرمال عند مدخل الهرم الأوسط وكشف مقبرة سيتي الأول في وادي الملوك بطيبة، وكانت أسالىبه في الحفر متهورة، وفي مرات عديدة حين احتاج النار للتدفئة أو طهي الطعام كان يشعل النار في المومياوات..(من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة . موقع علي شبكة المعلومات الدولية.الانترنت)   

[2]أبو الحـجاج الأقـصري) هـو عالـم صـوفي بـغدادي المولد كـان حياكاً أيخياطاًترك مهنته واشتغل بعلوم الدين وقام بعقد مجالس العلم في بغداد ثم انتقل إلىالحجاز ليباشر نشاطه في نشر الدين ثم انتقل إلى مصر واستقر به المقام في الأقصروقام بنشرالدعوة فيها إلى أن توفي فيها في عام 640 هجرية ودفن في هذا المكان.

 [3]لوسي دف جوردون . رسائل من مصر. ترجمة أحمد خاكي. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1976ص69

[4]– المصدر السابق. ص57

[5]– المصدر السابق. ص 174 ص.

[6]د. عصمت سيف الدولة. مذكرات قرية –. كتاب الهلال. الجزء الأول.

[7]– المصدر السابق

[8]لوسي دف جوردون . رسائل من مصر. ترجمة أحمد خاكي. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1976

[9]– المصدر السابق ص75

[10]– المصدر السابق ص74

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *