صورة الأنثى في أدب فتحي سلامة

Views: 855

مصر-هدى حجاجي

من قراءاتي في رواية البطل للكاتب فتحي سلامة نجد أن المرأة تلعب دورا ثانويا في كل الأحداث سواء كانت أختا أو أما أو حبيبة أو زميلة، بينما انعدمت صورة المرأة الابنة في كل رواياته، فنحن لم نجد شخصا يتحدث عن أبوته وأمومته، وانحصرت صورة المرأة في إطار ضيق وصورة محدودة للغاية، وهي صورة المرأة  والانثى التي يحبها الرجل حبا عاطفيا.

وقد أشار إلى أن شخصية عائشة التي تعيش حياة رتيبة بين أم تميل إلى أجواء الحفلات وأب يقرأ صفحة الوفيات، تحاول أن تبحث عن الحب في قلب خالتها أو ابن خالتها. لكن الدائرة غير مكتملة، فابن الخالة طالب الهندسة لا يبوح لها بمشاعره مثلما تتمنى، مما يزيد من إحساسها بالفراغ ويدفعها إلى الموافقة على الزواج بالمهندس عادل. 

واذا اعتبرنا أن هذه الرواية مصنوعة لإلقاء الضوء على مشروع السد العالي ومراحل بنائه من خلال قصة فتاة تتحمس لهذا المشروع، فإن المقدمة التي وضعها الكاتب تعتبر طويلة للغاية، فعائشة لم تذهب مع زوجها إلى أسوان إلا بعد مرور نصف أحداث الرواية تقريبا، ولم تتفاعل مع الأحداث هناك إلا بعد فترة قضتها في المدينة التي تقع في أعالي مصر.

وكما ذكرنا، أن عائشة قد مرت من مرحلة السلبية إلى الايمان بقضية عامة وقد أسهب الكاتب في وصف وضعية الفتاة  في كلتا الحالين، ولكن وصفها للأشياء جاء تقريبا: “خالتي سكينة تعيش مع ابنها علي بعد أن مات زوجها  وتركها وحيدة بمعاش ضئيل من وزارة الداخلية وشقة رطبة  صغيرة في قاع منزل قديم في أحد شوارع شبرا المزدحمة بالسكان”. 

وعائشة كثيرا ما تصف أشياء قد تبدو خارجة من عالمها لكنها ربما تفعل ذلك للتخلص من هذا الملل مثلما تصف ازدحام الأتوبيس الذي تركبه عندما تذهب لزيارة الخالة سكينة في شبرا، فهو وصف لم يفد الأحداث في شيء، ولم يزد أو يقلل من معرفتنا بصفات الفتاة التي نحن بصددها الآن. 

وعائشة تخصص فصولا من روايتها للحديث عن أقسام حياتها. فهي في الفصل الأول تتحدث عن خالتها والأتوبيس، ثم تتحدث عن وضعية المدرسة وعلاقتها بالمشرفة الاجتماعية وبعض المدرسات وصديقتها (ليلى) التي لا تحبها.. أما الفصل الرابع فهي تخصصه للحديث عن حكايات مبروك ثم تدخل إلى الفصل الذي تتم فيه خطبتها على عادل (رواية ثمار الشوك): 

“والآن، وبعد أن انتهى كل شيء وأصبحت مخطوبة رسميا لعادل، ماذا أفعل؟ لقد خاطبني أمس في التليفون، ويبدو من خلال أحاديثه معي سواء في التليفون أو أثناء الحفل الذي أقيم لإعلان الخطوبة أنه يعرفني إلى حد بعيد، فربما يعرف عني الشيء الكثير، ولهذا أجدني حائرة نوعا ما في كيفية الرد عليه”.

أما بقية الأحداث فهي التي ركز عليها في الفصل الثالث، الفتاة التي تبني قضية وطنية، وعلى كل أمام فتاة عادية لا تحب البهرجة ولا تميل إلى أجواء الحفلات الصاخبة، أو السهرات ليس لها صداقات من بني جنسها ولم تتخط العشرين من عمرها، ومثل هذه الصفات تؤهل أي إنسان سواء كان رجلا أو إمرأة أن يتبنى بسرعة إحدى القضايا العامة.

فاطمة

 

فاطمة وراشيل

وفي “المزامير” هناك امرأتان متناقضتان: “راشيل” اليهودية التي تعمل في صف الجنود تحمل السلاح وتتعامل بإرهاب ويضربها الاولاد بالحجارة عندما يرونها.. تقبل الشباب الإنجليزي في مكان بعيد، إنها تسير في الشوارع تهتز، يحيطها الشباب بعيونهم ويجري الأطفال خلفها يقذفونها بالطوب والحجارة. لكن الجنود يحرسونها، وهي ترتدي ملابس رجال العصابات. إنها أشبه بشيطان رجيم إذا حلت بمكان حل به الدمار والشر.. أشارت إليه (راشيل) وبعدها رأيت رأس أخي على الأرض ودماء تجري نهرا، وقطعا من لحم، وأصابع مقطوعة، وعواء الذئب في داخلي.

واذا كانت راشيل هي نموذج المرأة التي تلهب خيال الطفل بلال بالكراهية في مرحلة مبكرة من حياته.. فإن “فاطمة” الفلسطينية تلهب مشاعره بصورة أخرى: “رحت اتأمل بشرتها السمراء، وجه مستدير وعيون عميقة حزينة، شعرها في ضفائر تهتز في مجرى الظهر، رشيقة القوام، تتحرك في دلال، لاحت استدارة ظهرها، ثارت في نفسي رغبة أن اتحسسها، أن أضع يدي على شعرها الطويل، انبثق في ذهني خاطر كيف خرجت هذه الفتاة من وحل المهجر، أسرعت يدي إلى شعرها، ألملمه. اختفت الفتاة وتراجعت، حاولت مرة أخرى عرقلتها دفعتني في رفق”…

يتولد حب رقيق شاعري، يتفق مع خيال البطل الحالم الفانتازي، لكن لقاءاته بفاطمة قليلة، يطلب منها الهروب من فلسطين إلى مصر فترفض بإصرار.. ويرحل هو البطل، يبعث إليها رسائل، يناجيها.. ولا يمكن التأكد أن هذه المناجاة هي رسائل وجهها إليها وتصلها، أم أنها خيالات كغيرها، لأننا لم نر ردا واحدا من فاطمة على أي من هذه الرسائل.. خصوصا أن هذه الخطابات خالية من أي كلمات حب سوى “فاطمة الحبيبة” أو “حبيبتي فاطمة”.. في الرسالة الأولى يحدثها عن الانجليز وخروجهم من فلسطين  والشعب الذي مات منه الآلاف من ابنائه.. “بلادي  بلادي، لك حبي وفؤادي، لك روحي، لك العمر”، وكأن فاطمة هي وسيلة للتنفيس عن مشاعر تختلف عن الحب الذي يكنه الرجل عادة للمرأة. 

أما في الرسالة الثانية فيحدثها عن جرح  أصاب كتفه وشوقه للعودة وعن الخبز والبؤساء وأن الفدائيين يحطمون الأصنام في صورة عسكر الملك.

وتتزوج هذه الفاطمة خلال غياب بلال من رجل آخر.. ويحاول بلال أن يضعها في صورة خيالية فيتصورها مثل القط، القط الذي يبحث دائما عن الليمونة الدافئة يجلس فوق وسادة من الحرير، الوسادة الحمراء الموضوعة بعناية في ركن من فراش السيد لكي يتناولها وقت الرغبة، حينما يعبث به شوق المضاجعة..

وبلال يتألم لأن فاطمة تزوجت من رجل آخر.. لكن يحاول أن يجد تبريرا لما فعلته بقوله “أنها لاجئة مثلي، مثل الالاف، الملايين التعساء”.

راشيل

 

امرأتان متناقضتان

وفي رواية “الجرار 35″،  نجد إمرأتين متناقضتين: الفتاة الأولى هي سالمة  الفتاة البدوية التي أحبها خلال عمله في الصحراء: “وحينما سمعت صوت  سالمة ورأيت بريق عينيها تفتح أمام عقلي أشياء كثيرة. أشياء كثيرة وتخيلتها بين ذراعي”.

يلتقي بالفتاة أكثر من مرة، يظل معها أسبوعا في مدينة الأقصر ويقول: “هذه الفتاة  المرحة الجميلة التي لم أحادث ولم أختلط بأجمل منها”، لقد حدثته عن حياتها.. قصص بعضها حقيقي  وبعضها مغطى بطبقة من الخيال والتهويل لتخفي شيئا  لا تحب أن يعرفه غيرها.. إنها مثله فتاة حالمة تتمني فارسا يطير بها إلى أرض خضراء حديثة الولادة حيث الأمن والحب والسلام، ربما يكون هذا الفارس مخرجا كبيرا يكتشف فيها موهبة كامنة. 

وعند الحديث عن “زيزت”،  فإنه ينسى تماما كل تجاربه السابقة حتى زوجته…

 وزيزت نموذج يختلف  تماما عن سالمة وفاطمة، ولعلها أيضا تختلف عن نماذج انسانية _ عرفها سابقا: “ألمح طيفها يبرق من السماء ملاك حزين  في يده تذكرة دعوة لا يجد من يأخذها.. فجلس على سور الجنة وغلبه النوم فسقطت التذكرة”.

وفي لحظة صدق، بعد أن مرت زيزت من حياته كنسمة، لا تعرف  هل مرت فعلا أم تصورها في خياله.. في لحظة صدق .. وقبل أن يرحل إلى قريته تاركا المدينة يبدأ في الشعور بعقدة الذنب تجاه زوجته: “كم أنا غبي لأنني لم أحب هذه الفتاة حبا خالصا  دون أحلام أو أمنيات، ما عيبها؟ لا شيء. لقد كان العيب في رأسي وفي ما يدور في هذا الرأس البليد الغبي”. ها هي زوجته لا عيب فيها: “وبدلا من أن أنظر إليها  كما هي رحت أنظر إلى ما ينبغي أن تكون إذا وجدت أخرى  لها عيون خضراء، لعنت حظي لأن زوجتي عيونها سوداء.. وإذا رأيت سيدة بيضاء لعنت سمرة زوجتي.. واذا كانت السيدة تميل إلى السمنة، فزوجتي نحيفة، وكأنها قفص من الجريد الأسيوطي  ونحافة زوجتي أيضا لا تعيب، فهناك أخريات رشيقات يسرن في الشارع بملابسهن  الضيقة.. ولا يمكن قياس بدانة زوجتي برشاقتهن، وإذا قابلت جامعية تضع الإطارات حول عينيها ونتوه بما تحمله من مراجع وكتب، فيا لقبح الجهل في زوجتي واللعنة عليها لأنها اكتفت بشهادتها المتوسطة وهكذا لا ينتهي بي الحال إلا على أن حظي سيئ وزواجي فاشل  وأنه كان ينبغي البحث عن زوجة أكثر رقة  وجمالا وتعليما… ونظرت إلى زوجتي مرة أخرى أستعيد أفكاري عنها كم من الليالي نمت مغلوبا على أمري، حزينا ألعن حظي في الدنيا لأن زوجتي لا تجيد الحديث، كم من الساعات قضيتها في كآبة لأن زوجتي تجلس صامتة منهمكة في أعمال الإبرة أو الخياطة أو شيء من هذا القبيل”.

وتمر لحظة بين الزوجين هي أشد لحظات الصفاء التي عاشها البطل، وكما قلنا فإنه قد تصرف بالقول السائد “إذا لم تجد ما تحب فنحن نحب ما نجد..”، ولذا فإن بطلنا يؤمن أخيرا بمثل هذا القول وهو يردد “ولكن أحبك.. وأريدك أن تعلمي بذلك..”…

“أشياء حقيقية”

وصورة المرأة العاشقة والمحبة تعود باهتة مرة أخرى في رواية “أشياء حقيقية” فنحن هنا أمام “منى” التي تحب فتحي عبادة.. هناك حب متبادل  بين الاثنين كما تقول الاخت. لكن الدائرة غير مكتملة بالمرة.. وهي شخصية لا تعرف عنها في الرواية سوى أنها من قرية الملاحة البحرية  وتحب فتحي وأنها تحزن على وفاته مثلما يحزن الجميع. فلا لقاء عاطفيًا بينهما، ولا أحد منهما يبوح للآخر بمشاعره وعواطفه.

كما أن هناك شخصية نسائية أخرى تمر عابرة مثل بقية شخصيات الرواية هي “ميرفت” ابنة الأثرياء التي تدعو فتحي إلى حفل عيد ميلادها، ووجود ميرفت باعث للمقارنة بينها وبين “منى”، فالأولى ترتدي ملابس تبديها عارية أكثر مما يجب، بينما “منى” سمراء في لون طمي النيل فارعة الطول كأنها تود تثب إلى السماء تبتسم في ثراء، وعندما تشدو تكف العصافير عن التغريد، تقف على أغصان الأشجار تمت في نهم.. وتبدو حبات البرتقال أشبه بقطع من الشمس.

أما صورة المرأة في العالم في العام الأول للميلاد فإنها تختلف كثيرا.. فنحن أمام عدة نماذج إنسانية لعل “كاتي” أبرزها. وكما تلعب المرأة دورا رئيسيا في “الجرار رقم 35″، فإنها تلعب دورا مماثلا  في هذه الرواية. ومن الواضح أن العلاقة هنا تمثل دائرة مكتملة متصلة مع كاتي. ونحن لا نعرف صفات خارجية حول هذه المرأة التي نراها أحيانا فتاة صغيرة أو إمرأة ناضجة.

 ومراهقة.. لكن ما هي ملامحها ومعالمها لا تعرف.. فالكاتب قد وصف لنا زيزيت وفاطمة وسالمة.. أما كاتي فإن الكاتب يدخلها لنا وهي تسأل: 

متى نتزوج؟

هذا السؤال تطرحه “كاتي” في الفندق، أو في الشارع أو في أي مكان  يقتطفان فيه بعضا من ثمار الحب، وكما أشرنا أن البطل المتعدد الأسماء ينتقل بأبطاله إلى مراحل  زمنية متعاقبة  وغير متعاقبة. فتارة نراه يتحدث مع كاتي  الطفلة التي تقف في النافذة  بعد أن خرجت من المدرسة  وقد تأرجحت ضفائرها  في الهواء  تتحدث مع امرأة يشتهيها  الفتى  المتعدد،  والتي يستجلب صورتها  وهو يرقد في فراشه بكثير من اللذة.

وتارة اخرى يتحدث مع كاتي كأنثي ناهدة  تتمدد في استرخاء فيرغب في مداعبتها، وأن يقول لها كلاما مسليا: “وضعت يدي فوق كتفها. جسدها حار دافئ  استدارت فجأة.. أخذتها بين أحضاني، صدرها يعلو ويهبط. لملمت شعرها بيدي ناعم الملمس أسود اللون. لثمت فمها بقبلة سريعة، تمالكت نفسي وشعرت بالزهو.. شفتاها باردتان مبللتان بدموعها رحت أهدهدها بحنان”.

والبطل المتعدد الأسماء يذوب في الحب الرائع .. لا يحب من الخارج فقط مثلما أحب رجل آخر سالمة أو فاطمة.. ولكنه يشعر بالرغبة في الانطلاق إثر نوبات الحب الهائلة  وأن يدور في عالم واسع رحب.. أن يطوف بتلك الشجيرات  المرتفعة التي يأتي منها الماء  معفرا رائعا.. كان هذا عالمي.. رحبا مجهولا من كل البشر. كنت أفكر في كل شئ وتفكيرا فضيا صافيا، وكان عقلي يصور لي أشياء جميلة.

 وهو لا يتحدث عن “كاتي” حديثا منطقا أو متصلا. إنه يذكرها ضمن أشياء عديدة  وحوادث متعددة  قد يتحدث عنها في جملة قصيرة، أو فقرة طويلة.. لكنه لا يجعلها بؤرة حديثه فهو يتحدث عن العالم يحبطه كله.. ويمكن أن تأخذ كاتي في تفكير وسلوك الرجل المتعدد الأسماء نفس الاهتمام  الذي يأخذه الكلب “تيغر”. 

ولأول مرة يصف الكاتب العلاقة بين الرجل والمرأة وصفا أكثر جرأة من رواياته السابقة وهو يكرر المواقف أكثر من مرة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *