“مائل الى عطش” للشاعر بدوي الحاج: في وريده مطر يسقي به اقحوانة الغربة

Views: 1082

أسعد الخوري

من الضيعة اللبنانية البسيطة، الهادئة، الجميلة، المتسامحة، الحاضِنَة للأهل والأصدقاء ورفاق المدرسة والمَلْعَب والدرب. من الضيعة العابقة بروائح الصعتر البرّي والورد والياسمين، والفوّاحة بأريج الليمون في الجنائن التي تزنّر البيوت الوادعة بقرميدها الأحمر، وعصافير السنونو التي تغزو طاقات المنازل وتبني أعشاشًا للحبّ والطمأنينة وراحة البال…

من هذه البيئة الجميلة، التي تفوح شِعرًا وعاطفة ونُبلاً وحبًّا، جاء بدوي الحاج. لقد عمّدته بساطة القرية، فونبع مائها وأشجار الدّلب والصفصاف المحيطة بالسواقي الصغيرة، شاعرًا للحبّ والمرأة والوطنية.

لكن كل جمال الضيعة اللبنانية ومحيطها لم يشفع للشاعر بدوي الحاج، ولم يُغْرِهِ، للبقاء في أرضه وبين ناسه وأهله. فضَّلَ أن يكتشف عالمًا جديدًا. أراد أن يَخْتَبِرَ المجهول، ما وراء البحار والمحيطات البعيدة. هاجر الى بلادٍ غريبة… الى استراليا (بلاد الكانغرو) حيث الأشجار الباسقة، والغابات الفسيحة، والطّيور الملّونة. حيث “غابات المطر” وكل الغابات التي تغري الزائر الذي لا يشبع من جمالات الطبيعة وروعة المناظر الخلاّبة.

صحيح أن بدوي الحاج خَسِر قدسيّة مناظر وادي قنوبين وقاديشا، في وطنه الأم لبنان. لكنه بقي وهو في دنيا الاغتراب، يَحُنُّ الى كل يقعةٍ من وطن الأرز، وهو ما ظهر واضحًا في قصائده، حول الضيعة والأم والأهل والوطن والمرأة بشكل عام. 

***

بعد “… ولو بعد حين” (2014) و”قامات في فراغ أبيض” (2016)، و”لاهثًا يبتلع الهواء” (2017)، أصدر بدوي الحاج ديوانه الجديد (مائل الى عطش) عن “دار المؤلف” في بيروت، عام 2019 (112 صفحة من القطع الوسط)، حيث ما زال الشاعر الحاج “يؤكد أن الغربة لا تعني بالضرورة الانشقاق عن الوطن، بل هي خير دليل على التجربة الحياتية الصادقة، التي تجلّت لنا من خلال قصائده هذه، حيث جاءت تعبيرًا عن كل ما يختزنه في داخله من أفكار وهموم، ولم تُنسِهِ أرض وطنه الذي انطلق منه الى عالم الاغتراب”، كما جاء في كلمة الناشر.

سيدني البداية

في مدينة سيدني – استراليا حيث مارس الشاعر الحاج الإعلام لفترةٍ خلال دراسته الهندسية، وتخرّج مهندسًا مدنيًّا من جامعات المدينة، بدأ كتابة الشعر. لعلّه الحنينُ المؤرّق الى الوطن الأم، كان الدفاع الأساس لتحريك مشاعره، فكانت تجربته الشعرية الأولى، ثم كرّت السّبحة.

رياحُ ومطرُ وشمسُ لبنان، وبحره الأزرق، كانت كلّها في صميم تجربته الشعرية التي لم تقتصر على المرأة والغزل والطبيعة وجمالياتها، بل تعدّتها الى أمور وشجون الوطن والناس.

أما المرأة فبقيت أساسًا لافتًا في شعره، كما يتجلّى في قصيدته بعنوان (رحيق في خوابي العِناق)، التي يقول فيها:

يَدُكِ آخِرُ النّسيم

تَتَمايَلُ خفيفةً بِلا إدراك،

وهي تَرسمُ كلَّ التّفاصيل اليومية…

….

تَدخُلين عُبابَ القلبِ

بلا حَصانة

على رملِ وزَبَد!..

ما عُدتُ أقوى على صَدِّ أمواجكِ

فالرذاذُ أعمى عُيون المِلحِ

….

أو عندما يقول في قصيدته:

أجملُ نِساءِ الدّنيا، هي التي 

في وَريدها مَطَر..

تَسقي به أقحوان النافذة،

في الصّباح كما في المساء

تسكن وجهي

واشتهائي اليها يَزيد!

غيمة عارية

يستخدم الشاعر بدوي الحاج تعابير رومانسية في قصائده مثل “غيمة عارية” و”سحابة المطر” و”غنج وإغواء”. هي تعابير تدلّ على منهجية الشاعر وأسلوبه في كتابة القصيدة الحديثة حيث المفاهيم الشعرية تنبعُ من الواقع الحياتي (غيوم ومطر وغنج وأُرجوان وهمس قلوب)! إنه شعر الحياة، الذي يطلّ على الدنيا بكل جمالياتها وبهارجها وأيقونات الحبّ التي لا تنضب ولا تشيخ:

“سأمشي اليكِ كل صباح

حتى أصحو بين ضلوعِك

كأيّ غيمةٍ عارية..

تُراقصُ سحابةَ المطر!

سأبحث عنكِ حتى يحلو القطاف 

ويغدو المساءُ أكثرَ رقّة

والغدُ مَطليًا بالأرجوان والضجيج…

سأمشي إليكِ بغنجٍ وإغواء

حتى أُولَدُ في هَمسِ قلبكِ من جديد!”.

***

لكن الشاعر لا يمكن أن ينسى قريته، نشأته، محيطه، عالمه الأول. هو يريد أمرأة تشبه قريته… باختصار تشبه نفسه، وتشبه كل ما عاشه واشتهاه في طفولته وشبابه الأول:

“أُريدُ امراةً غيرَ كلّ النساء

تشبه قَريتي 

تستفيء بشجرة الدِّلب

ويسرحُ على قدميها الماء!

أمرأة عَشِقَتْها القصائد والتلاوين

حلَّ فيها الغَزَل والحنين

بيوتٌ تَنامُ على صَمتَها…

أمرأة تشبهُ قريتي

قمحًا وداليةً ويدًا حافية!”

حكاية… ومسبحة

الشاعر من منزله في الطابق الثامن بمدينة سيدني الاسترالية يطلب رواية من والده، يسأل عن حكايةِ  الموت والحياة، عن مسبحة جدّته:

“في الطابق الثامن،

نوصد الأبوابَ لنحتفظَ بالدّفءِ

نَصغي الى الكثير من الحَطايَا، نَزيدُها حَطَبًا 

أرجوك يا أبي، أريد حكاية

عن كل شيء،

عن الموت، عن الحياة…

عن العنكبوت،

عن شجرة الليمون ودالية العِنَب 

عن مسبحة جدتي

عن الحبَّ ونحنُ نراقبُ انحِسارَه

عن أمّي،

عن الأرض، عن السّماء،

عمّا بقي من وَحلٍ ورماد..!

عيون النساء كانت على الدوام تشكّل قوةً ودافعًا ورغبةً لدى الشعراء. وبدوي الحاج تغمره العيون الجميلة بدفء الحياة. يقول: 

“كل النساء كَبُرَتْ… إلاّ أنتِ!

عيناكِ تتلويانِ

نشوةً

كشهيق في آخر الحبّ…!

كل النساء غَفَتْ على صَدرِ المساءِ

… إلاّ عينيكِ”.

وفي قصيدته (مائل الى عطش) يتوجه الشاعر الى الذين “يخافون العاصفة” بكل انواعها وأشكالها وظروفها وهبوبها، لكنهم يتراوحون مكانهم ولا يخطون خطوة واحدة:

“يا من تَسكُنُون الصَّوت

بلا ضوء

بلا نوافذ

في اختناق مائل الى العَطَش…

هاربون بلا خطوات

بلا روح، بلا جسد..!

أعَلَمُ أنكُم تَخافونَ العاصِفة!”.

سنديانة الضيعة

ليست سنديانات الضيعة وأشجارها الباسقة، ورائحة زهر الليمون الفوّاح، سوى جزءٍ من ذكريات الشاعر بدوي الحاج. ليست الغيوم الداكنة، ورذاذ المطر العاشق لتراب الأرض، والعصافير التي تبني أعشاشها الصغيرة، بثقة بالغة، في نوافذ البيوت القروية البسيطة… والطيور المغرّدة في الصباحات والعشايا، ليست سوة “خميرة” رائعة للشعر والحبّ والرومانسية:

“أحبُّ مراقبة الغيوم من بَعيد..

في اصطفافٍ غريب

في طابورٍ صامِت..

ذاهبون الى النبع لملء السّلال..

أحبّ مراقبةَ الشَّجر العَنيد..

تمزّقه الريح

تعبث بأغصانه…

تحاولُ اقتلاعَه من أرضِهِ، من جُذورِه..!

هناك شجرٌ مُتمسّك بأرضِهِ

هناك بَشَرٌ…!”.

وهكذا، لن تكون الرياح مهما اشتدّت وعتت، قادرة على اقتلاع الشاعر الحاج من أرضه، من بيئته، من بيته، مهما اغترب وهاجر وابتعد عن وطنه. هو يبقى متمسّكًا بالأرض لأنه يجب أن تتذكّر دومًا من أين أتيت ومن أي وطنٍ قَدِمت، وأي أرضٍ هي أرضك… لكي تعرف معنى الحياة ومعنى الحلم بوطنٍ حقيقي.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *