المطران عودة: مَن اختارَ الإلحاد أو الكفرَ طريقًا فهو حرٌّ باختيارِهِ إنَّما لا حريَّةَ له عندما يَمَسُّ جوهرَ إيمانِنا

Views: 871

ندد   متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة  بالظواهر التي تمس بمقدساتنا لا سيما التطاول على والدة الإله مريم وعلى السيد المسيح ورفض رفضًا قاطعًا الحجج التي تبرر هذه التصرفات من بينها حرية التعبير محذرًأ من أن الشباب اليوم ينحدرون نحو الآفات الشيطانية، جاء ذلك في العظةً  التي ألقاها بعد الإنجيل  الأحد 28 تموز 2019 جاء فيها:

«في الرسالةِ التي تُلِيَتْ على مَسامِعِنا اليوم، مِنَ الرسولِ بولسَ إلى أهلِ رومية (12: 6-14)، حَديثٌ عَنِ المواهبِ المختلفةِ باختلافِ النِّعمَةِ المُعطاةِ  لنا. يعني الرسولُ بكلامِه أنَّ كُلَّ موهبةٍ، أو كُلَّ وَزنةٍ نَمْلِـــــكُها، هي آتِيَةٌ من فوق، من لَـــدُنِ الله، وهي نِعمةٌ مُعطاةٌ لنا بواسطَةِ الرُّوحِ القدس. لقد عَيَّدْنا عيدَ العنصرةِ منذ زَمَنٍ ليسَ بِبَعيدٍ، ورَتَّــلْــنا قائلينَ إِنَّ الرُّوحَ القدسَ “مُوَزِّعٌ لِلمَواهِب”. طَبْعًا، يَمْنَحُنا الرَّبُّ المَواهِبَ حَسَبَ استِطاعَتنا، هُوَ العارِفُ بِكُلِّ واحِدٍ مِنَّا وبِقُدرَتِهِ على الاحتِمال: “لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعطى فَيَزْدَاد، ومَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ” (مت 25: 29) لأنَّ الذين ينالون النعمةَ الإلهيَّةَ يرِثون بركاتٍ لا تُــعَــدُّ، إضافةً إلى الحياةِ الأبديَّةِ ورضى الله، أمَّــا الذين يستهينونَ بغنى لطفِ الله وإمهالِه وطولِ أناتِه، ويتـعــلّــقون بمتاعِ هذه الدنيا الزهــيـد الزائل، فسيخسرون كلَّ ما يـمـلـكـون.

يَحُـثُّـنا الرَّسولُ على أَنْ تَكُونَ مَحَبَّـتُـنا بِلا رِياء. كيف ذلك؟ المحبَّةُ لا تَعني أَنْ أُدَلِّـلَ المَحبوبَ طِوالَ الوَقت، بل تَعني أَنْ أَبغي خَلاصَهُ، أَنْ أَقومَ بِتَأْنـيبِهِ وتَوْعِيَتِهِ إِذا وَجَدْتُهُ مُخطِئًا في الكلام أو التَّصَرُّفِ، حتَّى يَصْطَلِحَ ويَعودَ إلى استِـقامَةِ الرَّأي. لذلك، يردفُ الرسولُ بولس قائلًا: “كونوا ماقِتـيـــنَ لِلشَّرِّ ومُلْتَصِقينَ بالخَير”. المَسيحيُّ، يا إِخْوَة، مَدْعُوٌّ إلى مَقْتِ الشَّرّ، لا إلى كُرْهِ الإنسانِ الذي يَقُومُ بِهَذا الشَّرّ، لأَنَّهُ رُبَّما يَقُومُ بِهَذا العَمَلِ أو ذاكَ عَنْ جَهْلٍ، لِذَلِكَ تَقَعُ على المُؤمِنِ الذي يَعِـــيـــشُ حَياةً روحِيَّةً مَعَ المَسيحِ أَنْ يُساعِدَ إِخْوَتَهُ البَشَرَ على الوصولِ إلى ملكوتِ السَّماوات. مِنْ هُنا قَوْلُ الرَّسولِ بولس إلى أهلِ غلاطية: “يا إخوتي، إنْ وقـعَ أحـدُكم في خطأ، فـأقـيموه أنـتم الروحـيّـيـن بـروحِ الـوداعة” (6: 1).

تُخْتَمُ رِسالةُ اليَوْم بِدَعْوَةٍ، هِيَ زُبْدَةُ المَسيحِيَّة، ونابِعَةٌ مِنَ المَحَبَّةِ العَظيمَةِ التي عَلَّمَنا إِيَّاها رَبُّنا. يَقولُ الرسولُ بولس: “بارِكوا الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُم، بارِكوا ولا تَلْعَنوا”. ولأَنَّ المَسيحِيَّةَ تَدْعُو دَائِمًا وأَبَدًا إلى المَحَبَّةِ والتَّسَامُح، يُساءُ فَهْمُها ونَجِدُها مُعَرَّضَةً على الدَّوامِ لِهَجَماتِ الشِّرِّير. يَقُــولُ القِدِّيسُ نِكتاريوسُ العَجَائِبِيُّ أُسقُفُ المُدُنِ الخَمْس، وَاصِفًا حالَ المَسيحِيَّةِ في عالَمِ اليَوْم: “أَيَّتُها الأُرثوذُكْسِيَّةُ (ويَعْنِي استِقامَةَ الرَّأْيِ والإيمانَ المُستَقِيمَ بِالله)، تَعْصِفُ بِكِ آلافُ الرِّياح، وتُحارِبُكِ آلافُ الــقُــوَّاتِ المُظْلِمَةِ وتَـــثُـور، تُريدُ اقْتِلاعَــكِ مِنَ العالَم، وتُكافِحُ لانْــتِــزاعِــكِ مِنْ قُلوبِ النَّاس. أَرادُوا أَنْ يَجْعَلُوا مِنْكِ أَمَلًا مَفْقودًا، مُتْحَفًا وماضِيًا مَأْسَوِيًّا وتاريخًا مَــرَّ عليهِ الزَّمَنُ وَانْتَهى. إلّا أَنَّ اللهَ القَدير، الثَّالوثَ القُدُّوسَ المُحسِنَ الكُلِّيَّ الوَداعَةِ والحِكْمَة، هُوَ الَّذي يُسَيْطِرُ على هذهِ الفَوضى، ويَرمِيكِ في زاوِيَةٍ أَبْعَدَ ما يُمْكِنُ عَنِ التَّوَقُّع، ويُغَطِّيكِ كَوَرْدَةٍ تَحْتَ صَخْرَة. إِنَّهُ يُحافِظُ عَلَيْكِ في نُفُوسِ أَبْسَطِ النَّاس، الَّذينَ لَيْسَتْ لَهُمْ أَيَّةُ سُلْطَةٍ أَوْ مَعْرِفَةٍ دُنْيَوِيَّة. وَها أَنْتِ باقِيَةٌ حَتَّى اليَوْم. ها أَنْتِ لا تَزالِينَ حَيَّةً مَوْجودَةً تُغَذِّينَ الأَجْيَالَ النَّاشِئَةَ، وتَفْلَحِينَ كُلَّ بُقْعَةٍ جَيِّدَةٍ مِنَ الأَرْض، وتُوَزِّعِين قُوَّةً وَحَياةً وَسَماءً وَنُورًا، وتَفْتَحِينَ لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الأَبَدِيَّة”.

المؤسف أننا نَتَفاجَأُ كُلَّ فَتْرَةٍ، في بَلَدِنا الَّذي يدّعي أنه بلدُ الحريَّةِ والتسامحِ والتعايشِ بقولٍ أو بفعلٍ يضعه كَثيرُونَ في مجال حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ والتَّعبير، لَكِنَّهُ في الحَقيقةِ لا يُمَثِّلُ سِوَى التعدّي على الحريَّةِ أو الكرامةِ أو المعتقد. لقد أصبح سهلاً في عصرِ التواصلِ الإجتماعي الرائج في أيامنا أن يَشتمَ الإنسانُ أخاه أو يلفّقَ التهمَ والأضاليل، ويروّجَ الشائعات، أو أن يَسْخرَ بعضُهم من معتقداتِ البعض أو من أنبيائهم وقدّيسيهم، ويعتبرون فِعْلَهم من ضمنِ الحريةِ التي هي حقٌ لهم. لكنهم يتجاهلون عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ أنّ حدودَ حريَّتِهم تَـقِـفُ عند حدودِ حريَّةِ الآخرين وكرامتِهم وإيمانِهم.

في السَّنَواتِ الأَخِيرَة، لَمَعَ نَجْمُ المَهْرَجاناتِ الصَّيْفِيَّة، الَّتي يَدْفَعُ اللُّبْنانِيُّ كَثِيرًا، أَوْ قَليلًا، ثَمَنَ البِطاقَةِ لِحُضُورِها، وهُوَ لا يَنْفَكُّ يَتَذَمَّرُ في كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ عَدَمِ تَوافُرِ سِعْرِ رَبطَةِ الخُبْزِ في جَيْبِه. لا يَفْهَمَنَّ أَحَدٌ مِنْ هذا الكَلامِ أَنَّنا ضِدَّ الفَنِّ أَوِ الثَّــقافَةِ أَوِ السِّياحَة. نَحْنُ ضِدَّ الفَنِّ الهابِط، الَّذي يَتَخَفَّى خَلْفَ قِناعِ حُرِّيَّةِ التَّعْبيرِ لِكَي يَبُثَّ في عُقُولِ شَبابِــنا سُمًّا، مِثْلَما فَعَلَتِ الأَفْعَى مَعَ آدَمَ وحَوَّاءَ قَدِيمًا عِنْدَما شَجَّعَتْهُما على عِصْيَانِ الرَّبّ.

الشَّيْطانُ، يا أَحِبَّة، مُنذُ سَقَطَ بِسَبَبِ كِبْرِيائِهِ، لا يَغْمَضُ لَهُ جَفْنٌ، مُفْتَكِرًا بِطُرُقٍ يَجْتَذِبُ بِها إِلَيْهِ كُلَّ أَبْنَاءِ اللهِ المَخْلُوقِينَ على صُورَتِهِ ومِثَالِه. مَعَ ظُهُورِ الفُنُونِ الجَمِيلَة، كَالمُوسِيقَى والرَّسْــمِ والأَدَبِ والمَـــسْـــرَحِ وغَيْرِها، إِنْجَذَبَ النَّاسُ إلى هَذا النَّــوْعِ مِنَ الجَمَال، لَكِنَّ الشَّيْطانَ أَدْخَلَ لَمْسَتَهُ بِوَاسِطَةِ كِبْرِيَاءِ بَعْضِ الفَنَّانِينَ الَّذِينَ اسْتَخْدَمَهُمْ كَمِصْيَدَة. لَقَدْ حَدَثَ هَذا الأَمْرُ فِي زَمَنِ آبَاءِ الكَنيسةِ القِدِّيســينَ على مِثالِ باسِيلِيُوسَ الكَبــيــرِ ويُوحَنَّا الذَّهَبِيِّ الفَـــم وأَفْرامَ السُّرْيانِيِّ الَّذِينَ حَذَّرُوا المُؤْمِنِينَ مِنِ ارْتِيَادِ المَسارِحِ لأَنَّ الهَراطِقَةَ تَسَلَّطوا عَلَيْها وأَخَذُوا يَـــبُـــثُّـــون أَفْكارَهُم مِنْ خِلالِها.

إنّ الجمالَ هبةٌ من الله، والتعبيرُ الجميلُ نعمةٌ من نِـعَـمه، والإنسانُ المثـقـف يقدّرُ الفنَّ والجمال لكنَّ النفسَ الصافيةَ الجميلة تتقيأ عند سماعها أو رؤيتها الشرَّ والتطاولَ والقباحةَ التي تتجلّى في بعض ما يسمى فنًا في أيامنا. فنحن نرى بَعْضَ الشَّبابِ يَنْجَرِفونَ، مِنْ دُونِ تَفْكير، وَراءَ أُمورٍ لا يُمْكِنُنا وَضْعَها إِلَّا في خَانَةِ الشَّرِّ المُتَرَبِّصِ بِالإِنسان. ونَرى الدِّفاعَ المُسْتَمِيتَ هُنا وهُناكَ عَنْ حُرِّيَّةِ الفِكْرِ والتَّعْبيرِ والتَّصَرُّف، وَلَوْ تَخَطَّتِ الحُدُودَ لِتَمَسَّ كَرامَةَ الآخَرِ أَوْ حُرِّيَّةَ تَفْكيرِهِ ومُعْتَقَدِه. آخِرُ هَذِه “الصَّرْعات” الإِسْتِهْتَارُ بِالمُقَدَّساتِ والاسْتِهزاءُ بِها كَمِثْلِ الصُّورَةِ الَّتي سَرَتْ بَيْنَ النَّاسِ وَقَدِ اسْتُبْدِلَتْ فيها وَالِدَةُ الإِلَهِ الحامِلَةُ الطِّفْلَ يَسُوعَ كَما في الأَيقونَةِ البِيزَنْطِيَّة، بِصُورَةِ مُغَنِّيَةٍ، أَوْ كَمِثْلِ أَنْوَاعٍ مِنَ الأَغانِي المُشَجِّعَةِ على أَشْكَالٍ مِنَ الانْحِراف، يُؤَدِّيها شَبَابٌ اخْتارُوا مَيْلًا مُعَيَّنًا في حَيَاتِهِم.

بَدْءًا، إِذا كُنَّا نُنادِي بِحُرِّيَّةِ الرَّأْيِ والتَّعْبير، لِماذا نَمْنَعُها عَنِ الآخَرينَ ونَنْعَتُهُم بِالتَّدَيُّنِ والتَّزَمُّت؟ لِمَاذا يَحُقُّ لِشَخْصٍ لا يَمُتُّ إلى المَسيحِ بِصِلَةٍ، أَنْ يهينَ المُقَدَّسات، ولا يَحُقُّ لِمُكَرِّمِي هَذِهِ المُقَدَّساتِ أَنْ يَفْتَحوا فَمَهُم، وإِلَّا يُصْبِحُونَ مِنْ قَامِعِي الحُرِّيَّات؟ هَلْ هَذِهِ هِيَ الحُرِّيَّةُ الحَقيقيَّة؟ هل يجرؤ أحدٌ، من أي دينٍ كان، على ذكرِ اسمِ امرأةٍ موقَّرةٍ ومكرَّمةٍ أو اسمِ أي رجلٍ يتَّقي الله ويـحبّه من أجل رضاه، في أيِّ تمثيليَّةٍ أو أغنية من النوع الذي عاينّاه؟ مَن منكم يسكُتُ عن إهانةِ أمِّه أو أبيه؟ مَن منكم يقبَلُ أن يسخَرَ أحدُهم من إبنتِه أو أختِه؟ إنَّ العذراءَ مريم بالنسبةِ لنا هي والدةُ الإله ووالدتُنا لأنَّنا أبناءُ الله بالتّبني. العذراءُ مريم هي أمي ويسوع المسيح هو ربي، ونحنُ لا نسمحُ بإهانةِ أمِّنا ولا نسكُتُ عن أيِّ مسٍّ بها أو بيسوع المسيح ربنا وإلهنا. أمَّا مَن اختارَ الإلحاد أو الكفرَ طريقًا فهو حرٌّ باختيارِهِ إنَّما لا حريَّةَ له عندما يَمَسُّ جوهرَ إيمانِنا.

يَقولُ رَبُّنا في الإِنْجِيلِ بِحَسَبِ يوحَنَّا: “هَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إلى العَالَمِ، وأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُم كَانَتْ شِرِّيرَة” (3: 19)، وَيَقولُ الرَّسولُ بُولُس: “دُعِيتُم لِلحُرِّيَّةِ أَيُّها الإِخْوَةُ، غَيْرَ أَنَّهُ لا تُصَيِّرُوا الحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلجَسَد، بَلْ بِالمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا” (غل 5: 13). إِذًا، الحُرِّيَّةُ قِوَامُها النُّورُ والمَحَبَّةُ والخِدْمَة، لا الظُّلْمَةُ والشَّرُّ والحِقْدُ على الخَالِقِ والمَخْلُوق.

نَحْنُ المَسيحِيِّينَ نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ قَدْ خَلَقَنا أَحْرارًا وأَعْطانا نِعْمَةَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الخَيْرِ والشَّرّ، كَذَلِكَ نَصَّ دُسْتُورُ بِلادِنا عَلى “احترام الحريات العامة وفي طليعتها حريةُ الرأي والمعتقد”، فَعِوَضَ أَنْ يَسْتَخْدِمَ اللُّبْنانِيُّ حُرِّيَّتَهُ لِيُطالِبَ، بِالطُّرُقِ السِّلْمِيَّةِ والحَضَارِيَّة، بِحُقُوقِهِ البَدِيهِيَّةِ وبِتَحْسِينِ مَعِيشَتِه، يَسْتَعْمِلُ بَعْضُ مُوَاطِنِينا هَذِهِ الحُرِّيَّةَ في وَجْهِ اللهِ والكَنِيسَةِ (جَسَدِهِ)؟ هَلْ نُقَاتِلُ اللهَ لأَنَّهُ مُحِبٌّ لِلبَشَرِ ورَؤُوفٌ ورَحومٌ وحَنُون؟ هَلْ نُقَاتِلُهُ لأَنَّهُ خَلَقَنا لِيُشَارِكَنا المَحَبَّةَ العَظِيمَة؟ أُنْظُروا حَوْلَنا ماذا اقْتَرَفَتْ أَيْدِينا بِحَقِّ خَليقَةِ اللهِ الَّتِي نَظَرَها فَرآها “حَسَنَةً جِدًّا”. أُنْظُروا إلى أَوْلادِكُم. أُنْظُروا إلى شَبِيبَةِ اليَوْم وقَدْ باعَ بَعْضُهُمْ أَنْفُسَهُم لِلشَّيْطانِ وَاسْتَسْلَمَ آخَرونَ لِلمُخَدِّراتِ وَابْتَعَدَ غَيْرُهُم عَنِ اللهِ وسَوَاءِ السَّبيل. أُنْظُروا إلى الآفاتِ الَّتي تَضْرِبُ مُجْتَمَعَنا وَتُودِي بِأَوْلادِنا. أُنْظُروا إلى الانْحِلالِ الأَخْلاقِيِّ والإنحرافاتِ التي لا عـدَّ لها الَّتي هيَ سَبَبُ التَّرَدِّي في أَوْضاعِنا، والانْحِطاطِ العَامِّ الَّذي نَشْهَدُه. والمُؤْسِفُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُشَجِّعُونَ على الآفَاتِ ويُصَفِّقُونَ لِكُلِّ تَخَطٍّ لِلأَعْرَافِ والتَّقالِيدِ كَيْ لا نَقُولَ يَزْدَرُونَ بِاللهِ وأنبيائه وقِدِّيسيهِ والمُؤْمِنِينَ بِه.

هُنا، أَوَدُّ لَفْتَ النَّظَرِ إلى أَمْرٍ نُعانِي مِنْهُ نَحْنُ المَسِيحِيِّين، لأَنَّنا نَعْرِفُ جَمِيعُنا أَنَّ إِخْوَتَنا المُسْلِمِينَ لا يَتَساهَلُونَ مَعَ مَنْ يَمَسُّ مُعْـتَــقَــدَاتِهِم، وخَيْرُ دَليلٍ على ذَلِكَ ما حَصَلَ في 5 شُبَاط 2006 عِنْدَما ثَارَتْ ثَائِرَةُ بَعْضِهِم بِسَبَبِ كاريكاتورٍ يُسِيءُ إلى النَّبِيِّ مُحَمَّد ظَهَرَ في الدّانمارك، وتَلَقَّيْنا نَحْنُ نَتائِجَهُ، إِذْ أُحْرِقَتْ سَفارَةُ الدّانمارك في الأَشْرَفِيَّة ورُشِقَتِ الكَنائِسُ بِالحِجارَةِ وأُنْزِلَ الصَّلِيبُ عَنِ البابِ الرَّئيسِيِّ لِمُطْرَانِــيَّـــتِـــنــا. هذا لا يَعْنِي أَنَّنا نُرَحِّبُ بِأَيِّ تَطاوُلٍ على إِيمَانِ إِخْوَتِنا ونَبِيِّهِم، بل نرفضه وندينه، ولا نُشَجِّعُ السُّخْرِيَةَ مِنْ مُعْتَقَدَاتِهِم ومعتقداتنا، كَذَلِكَ لا نُشَجِّعُ العُنْفَ وتَحْمِيلَ الآخَرينَ مَسْؤولِيَّةَ ما لَمْ يَقْتَرِفُوه. لَكِنَّنا أَيْضًا نَتَمَنَّى أَنْ يَحْتَرِمَ الآخَرُونَ حُرِّيَّتَنا وإِيمانَنا ومُقَدَّساتِنا وأَنْ يَرْفُضوا المَساسَ بِها كَمَا نَرْفُضُ نَحْنُ المَساسَ بِمُقَدَّساتِهِم. فَوَالِدَةُ الإِلَهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنا هِيَ أُمُّ الإِلَهِ المُتَجَسِّد، ونَحْنُ نُكَرِّمُها ونَرْفُضُ أَيَّ إِهَانَةٍ لِقُدْسِيَّتِها. كَذَلِكَ فَإِنَّ الثَّالوثَ القُدُّوسَ هُوَ أَساسُ إِيمَانِنا ولا نَسْمَحُ لِأَحَدٍ بِإِقْحَامِهِ فِي أَغانِيهِ ومَا يَدَّعِي أَنَّهُ فَنٌّ. وَلِمَنْ يَتَّهِمُنا بِالحَدِّ مِنْ حُرِّيَّتِهِ نَقُولُ إِنَّنا نَحْتَرِمُ حُرِّيَّةَ الجَميع، لَكِنْ عَلى الآخَرينَ أَنْ يَعُوا أنَّ حريَّتَهم لا تَكونُ بِالتَّعَدِّي على الآخَرينَ بَلْ بِاحْتِرامِهِم. عِنْدَما يَحْتَرِمُ وَاحِدُنا الآخَر، وعِنْدَما نَغْرُسُ مَحَبَّةَ اللهِ في نُفوسِنا ونُفوسِ أَوْلادِنا، حِينَئِذٍ لَنْ نَخافَ على الأَجْيَالِ المُقْبِلَةِ مِنِ انْعِدَامِ الأَخْلاقِ والمَحَبَّةِ أَوْ مِنْ تَكاثُرِ الحروب والنزاعات والحِقد والتطرّف والتخوين وما شابه. الحريةُ مسؤوليةٌ وليست تفلّتًا من كل قيدٍ وانفلاشًا على حساب الآخرين وتجربةً للإبتعادِ عن الله.

المَسيحِيُّ، يا إِخْوَتِي، يُحِبُّ الآخَرَ كَائِنًا مَنْ كان، وإِلَهُنا أَوْصَانا بِأَنْ نُحِبَّ أَعْداءَنا ونُبارِكَ لاعِنِينا ونُحْسِنَ إلى مُبْغِضِينا، لَكِنَّهُ قال أَيْضًا إِنَّ عَلَيْنا أَلَّا نُلْقِيَ جَوَاهِرَنَا أَمَامَ الخَنَازِيرِ لِئَلَّا تَدُوسَها بِأَرْجُلِها. لِذَلِكَ، الحُرِّيَّةُ هِيَ حُرِّيَّةُ أَبْنَاءِ الله لأنَّ الخليقةَ نفسَها أيضاً ستُعتَقُ من عبوديَّة الفسادِ لتُشاركَ أبناءَ الله في حرِّيتِهم ومجدِهم كما يقولُ الرسولُ بولس في رسالتِه إلى أهل رومية (رو8: 21)، لأَنَّ اللهَ هُوَ الحُرِّيَّةُ بِذَاتِها. كُلُّ عِبادَةٍ لِغَيْرِ اللهِ هِيَ اسْتِعْبَاد، إِلَّا أَنَّ الحُرِّيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ تَتَجَلَّى في عِبادَةِ الإِلَهِ الحَقِيقِيِّ الَّذي يُرِيدُ مِنَّا أَمْرًا وَاحِدًا فَقَطْ في عَلاقَتِنا مَعَهُ، مِثْلَمَا قَالَ في سِفْرِ الرُّؤْيا، وَهُوَ أَنْ نَكُونَ إِمَّا حَارِّينَ (أَيْ مَعَهُ) أَوْ بَارِدِينَ (أَيْ ضِدَّهُ) لا أَنْ نَكُونَ فَاتِرِينَ (أَيْ نَتَأَرْجَحُ بَيْنَ المَيْلَيْن). المسيحي الحق شاهدٌ للمسيح، يدافع عن إيمانه بالمسيح مهما كانت الظروف، ولا يساوم ولا يهادن. لذلك نقول لبعض المسيحيين الذين لا يفقهون معنى إيمانهم إقرأوا الكتاب المقدس، إقرأوا سِـيَـرَ القديسين، واظبوا على الصلاة والصوم والتأمّل لكي تتنبّهوا إلى عظمِ الرسالةِ الملقاةِ على عاتقِ المسيحي.

دُعائِي، يا أَحِبَّة، أَنْ نَذْكُرَ دَائِمًا دَعْوَةَ المَسيحِ لِمَرْتا عِنْدَما قَالَ لَها: “مَرْتا مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ وتَضْطَرِبِينَ لِأَجْلِ أُمُورٍ كَثيرَةٍ، وَلَكِنَّ الحاجَةَ إِلى وَاحِدٍ” (لو 10: 41-42). حَاجَتُنا الوَاحِدَةُ هِيَ خَلاصُ أَنْفُسِنا، وهَذا لا يَتِمُّ إِلَّا بِسَماعِ كَلِمَةِ الرَّبِّ والعَمَلِ بِها مِثْلَما فَعَلَتْ مَرْيَمُ أُخْتُ مَرْتا الَّتي “اخْتارَتِ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذي لا يُنْزَعُ مِنْها” (لو 10: 42). دَعْوَتُنا اليَوْمَ هِيَ أَنْ نَعْرِفَ مَواهِبَنا، ونُدْرِكَ أَنَّها آتِيَةٌ مِنَ العَلاء، وَوَاجِبُنا أَنْ نُثَمِّرَها ونَجْعَلَ مِنْها طَريقًا إلى تَمْجِيدِ المُعْطي، بِحَسَبِ ما نَقُولُ فِي القُدَّاسِ الإِلَهِيّ: “الَّتي لَكَ، مِمَّا لَكَ، نُقَدِّمُها لَكَ”. بارَكَكُمُ الله، وبارَكَ مَواهِبَكُم، وبَارَكَ عُقُولَكُم، حَتَّى تَعْرِفوا كَيْفَ تَسْتَغِلُّوا هَذِهِ المَوَاهِبَ في خَلاصِ نُفُوسِكُم والآخَرينَ، آمين».

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *