هذا العالم لا ينفع معه من يشعر كثيرًا

Views: 1110

 نسرين الرجب

 يميل إنسان العصر الحاليّ إلى الانعزال الذي يأخذه  بعيدًا عن بني جنسه لينخرط في سلوكيات عالم افتراضيّ تنقصه الواقعيّة في كثير من الأحيان، ليس المقصود جلد مواقع التواصل الاجتماعيّ والاندماج مع الموجة النادِبة: (عالم الانفصال، ادمان تكنولوجي، الوهم الأزرق وغيرها)، غالبا عندما نريد أن نتحدث بدراميّة الخطاب الاجتماعيّ ننخرط في هذه الأهزوجة الناكرة للجميل، فيبدو وكأنّ الفيسبوك هبط علينا مثل بلاء مبين، متناسين أننا كمجتمعات قابلة للتزييف والتصنيع والتعليب، على أتم الاستعداد أن نحول أي شيء مهما بلغت حسناته إلى أسوأ ما يُتوقع.

 في محاولة للهرب من الواقع الذي يفتقد للحماسة والحب،  يتبنى المراهقون أحزان البالغين من دون إدراك أبعاد المسألة التي تنبع من تجارب الحياة المُخيّبة للآمال، تتكاثف غيوم الأحزان فتُلبِّد سماء الأزرق، الذي يتحوّل إلى منصّة للتباري حول من يحزن أكثر فهو أكثر عُمقًا!  تجد فتاة في الثالثة عشرة من عمرها تكتب  اقتباسًا  على صفحتها: “أنت لا تعلم ما معنى ان يُعاقب المرء نفسه بترك ما يُحب..”،  “كنتُ وحيدًا فالوحدة جميلة؛ لا ألم، لا اشتياق لا فراق وربما لا مشاعر”؟! إضافة إلى ترداد عبارات من مثيل: (ذنبي طيبة قلبي، يستغلون طيبتي، الناس كاذبون، المصالح بتصالح، ما حدا لحدا)، البرمجة  التي يتم تبنّيها منذ الصغر أنّه علينا أن نخشى الفرح لأنّ خيانته  قاسية كما يقول الشاعر محمود درويش، وهو الذي يدعو في مقطع آخر إلى نسيان هذه  الخيانة وتبديد كل طاقة الألم به:  “ادخل الفرح وانفجر”.

الكبار البالغون ليسوا أشفى حالا، تتحوّل كثير من النساء  إلى دراما عاطفية وهن يحكين عن ظلم الحبيب وعن مشاعر الغدر والخيانة، في المقابل موجة حارقة واقعية تواجه الخبايا من دون رحمة، تريد هذه المرأة المهجورة أن تتقيأ حزنها هنا على الشاشة الزرقاء، وتريد من الآخرين أن يواسونها، أن يأتي ربما أحدهم.. ليقول لها حقا وفعلا :”شايف بعيونك حزن”، يريد الرجل أن يخبر الآخرين أنه حزين أيضا، أنه غاضب على المجتمع والسياسة وأنه يسعى للإصلاح والتغيير، أنه المؤمن الوقور وأنه العفيف الغيّور، وأنه الضعيف المستجير من ظلم الخيانة، جميعهم يحتاج لمن يقول له: (لا، لا تفعلها! نحن نأخذ كلامك على محمل الجد)، (لا! انتظر سنأتي إليك ونتفاهم)، غالبًا، هذا لن يحدث، لأنّه قد تمّ استهلاك كل طاقة مواساة الحزانى.

 السبب في هواة الدراما، في تبنيهم لأحزان غيرهم، وفي تقمص دور الضحيّة، تمت النقلة من الملصقات الشعبيّة على زجاج السيارات والشاحنات لتجد  في الفيسبوك مكانًا للنسخ واللصق من دون سياق..

لقد تمّ تسخيف الحزن وتفريغه من جديّته، صار الحزن كالراعي -الكذّاب- لم يعد الجمهور ليصدّق “خبريته”  لذا في كل مرة يأتي من يشكو حزنه الحقيقيّ على الأزرق –وهو غالبًا لأنه لم يجد من يسمعه-  يتحوّل حزنه إلى مادة لتبادل النكات، هناك هستيريا الحزن تتجلى في مشهديات تشطيب اليدين، بعض حالات الانتحار على البث المباشر.. والكثير من السلوكيات العجيبة، والتي ليست وليدة العصر ولكن المُثير فيها أنّها تتجه للعلن من دون مراعاة لأي خصوصيّة، يخسر الحزن قدسيّته عندما يصبح مادة لعرض الشخصّي، للتأفف بسبب أو من دون سبب، للتظاهُر (حزني أعمق من حزنك)!

وُلِدنا وفي داخلنا حاجة لأن نكون، وكأن هذه الكينونة لا تتحقق إلا بآخر يصفق، ويواسي. في قصة “الكُرسي الأخير” من ضمن المجموعة القصَصية «الانتحاري والفول» للكاتبة “حنان رحيمي”، تطرح الكاتبة فيها إشكاليّة واقعيّة، الوحدة والحاجة للاهتمام كعلامة من علامات الاغتراب الذاتي، تختار مكانًا يحتمل كل علامات التفجّع والتراجع على مستوى الوعي الفردي، سوريا، على ما حوَته الأحداث الراجعة أو المسسببة للموقف الحالي التي تعاينه الشخصية، الحرب التشرد مأساة اللجوء وانعدام الأمان ، الصدمات النفسية، ولعبة القدر التي قد لا تكون مفهومة غالبًا في تسطيرها لعناصر المأساة كاملة،  في محاولة لجذب الانتباه إلى مأساة الإنسان الداخليّة..

رجل  لزوجة وأربعة أبناء، تتوالى عليه مآسي الفقد،  يفقد زوجته جراء مرض ألم بها، من ثم يفقد أولاده ضحايا الحرب في سوريا، الموت على الجهات الأربع، على الجبهة يغادر الإبن البكر، في انفجار يذهب ابنه الثاني وفي عرض البحر هربا من الموت تموت ابنته وزوجها، ومن وجع صدمات الحياة يموت ابنه الأصغر، ويبقى هو شاهدًا على مأساته في الفقد والتشرد، يراقب الكراسي الخمس الموزعة حول مائدة الطعام وأمام كل كرسيّ صورة فقيد من عائلته، وجوه مبتسمة في الصورة، ووجهه الحي يغشاه حزن عقيم، تنهكه الوحده، فيقرر الانتحار، ولأن الوحدة حتى في الموت قاتلة، يفتح صفحته الفايسبوكية التي لم يزرها منذ أشهر، ويأخذ صورة لكرسيه وصورته على جانب الكرسيّ، وينعى نفسه للرائين، فتنهال عليه التعليقات الساخرة، والمازحة، التي اعتبرت قوله مزحا ثقيلا، تعليقات تنم عن عدم جديّة في التعاطي، ولكنه يصر على إبلاغهم بأنه سيموت فمن سيهتم منهم؟! صورة سلفي له مع علبة السم كذلك لم تفلح.. يشرب الكوب الكريه، ينتظر الموت .. ثم يعاود شرب كوب ثانٍ..، وفي نقطة تحوليّة يأتي الحدث الذي غيّر مسار السرد وحرّك الموقف من انهزاميته:  يُطرقُ الباب.. فتاة صغيرة تستنجد به طالبة المساعدة لنجدة أبيها، ينسى موته ويهب لنجدة حياة رجل لا يعرفه، ينقذه ويرافقه إلى المستشفى.. يعود بعد أن اطمأن عليه، فيكتشف أن علبة المبيد منتهية الصلاحية، في إشارة إلى أنّ حياته لم تنته بعد.. تنفتح الحكاية على احتمالات أقل تشاؤما على عكس ما بدأت به..

الحدث الأخير كموقف مفارق ينفتح على الأمل، أن الحياة عندما تأخذ منك، فالعلاج هو في العطاء، في الاهتمام بمن يحتاج اهتمامك، الفيسبوك لا يصلح لتبادل المشاعر، هو مساحة للتعبير للتراسل..للمعرفة في كثير من الأحيان، الآخرون لا يأخذون الحزن على محمل الجد، في أحيان يتحول الحزن إلى مادة للجذب، والاستحواذ على الاهتمام، نسج دراما أليفة أو مثيرة للخيال، إن هذا العالم مريض نفسيّ، يعاني من مشاعر الخوف والانكسار، يرى أناسه الحزن فزّاعة، يتعاملون مع الحزن كمادة مثيرة للغثيان، لا يريدون أن يكونوا حزانى ولكنهم كذلك، قد يعترفون بأحزانهم ليتخلّصوا منها، ولكنهم يتجاهلونه عند الآخرين، لا يريدون من أحد أن يَكشف عن هذا الكائن الغائر في ظلمات الذات، يريدونه أن يبقى بعيدًا حتى لو علموا به، ولو تدخّلت لجنة حقوق المشاعر وأظهرته للعلن فإن التعامل معه هو النبذ، هو السخرية والتعليقات الفظيعة.

 إن المنعطف الحقيقي سيكون عند طرق الباب، إنّه الواقع الذي يوقظ الغافلين ليخبرهم بأنّ هناك ما يجب أن يقوموا به، بأن حيواتهم ليست متعلّقة بهم وحدهم بل هي امتداد لحيوات الآخرين..وكما قالت غادة السمّان “…هذا العالم لا ينفع معه من يشعر كثيرًا”  قوقعة الشعور لم تعد آمنه..والاستسلام للافعل ليس فعلًا مُنجيًا من الهلاك العاطفيّ!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *