سجلوا عندكم

“كتابُ أَبي” لعماد يونس فغالي… قراءةٌ في سيرة قلبٍ عرف أن يُحبّ ورجلٍ للحياة أن يُربّي!

Views: 1289

 سليمان يوسف إبراهيم

يُقلقُني فعل الكتابة في هذا الكتاب، فهل تصدِّقون؟

لأَنَّ كاتبَه كتبه في مَن أَحبَّ حتّى الوله به حضورًا، تصرُّفًا وسِعَةَ تبرُّكٍ، فبات يعتريَني قلقٌ أن تأتي قراءتي أَقلَّ شغفًا من حبِّه لِمَن كتبَ وتعلُّقه بما كَتَب!!

عِنِّي ربِّ، على ركوب متن شراع الأَديب عماد يونس فغالي، في إِبحاره إلى مواطنِ أَبيه!

يونس نخُّول فغالي، على ما تابعتُ في “كتاب أبي”، رجلٌ لم ينتظر أن يكتبه أَحدٌ؛ بل هو مَن كتبَ نفسَه سيرةً، وتركَ لمَن شاءَ تمثُّلًا وتماهيًا أن يتتلمذ عليه، في مدرسة إنسانيَّته مُتتبِعًا الأَثَر.

صحيحٌ أَنَّه ولِد يوم ميلاد جبران الوطن، لكنَّ فلسفتَه أَتت نظامَ حياةٍ ونهجَ سيرةٍ: فخطَّها مواقفَ وليسَ أَوراقًا.

ويومَ كتبَ، كتبَ عمَّا لم يُسأَلْ عنه، فأَتت فلسفته كاملة الهندام حسنةَ الزّي، تليق لبوسًا لحياة الإنسان السّويّ حاضرًا ومُستقبلًا إنِ اعتبر.

صحيحٌ أنّ الكتاب يقع في باب أَدب السِّيرة، غير أنّ القصَّة بمُعظم مؤشِّراتها هي بانية محطات الكتاب، بجُلِّ فصوله: من السّرد إلى الوصفِ فالمرور بالزَّمن الهابط استرجاعًا للحدث، وانطلاقًا نحو الزَّمن الصّاعد إِنماءً له، ناهيك إلى الوصف الحسّي للشخصيّات أو الأماكن وصولًا للوصف النَّفسي أَمِ المعنوي الذي يُساعد القارىء على التّعرُّف بها، كما تعرَّفَ الكاتب نفسه بها، في وصفه للعديد من شخصيات الحَكايا التي وردت في مدوِّنة النَّص. غير أن الحوارَ وردَ لِمَامًا لأن “أَنا الرّاوي” مُقيمةٌ في كامل الفصول، كما وتنقل أَحداث ومواقف حصلت مع البطل الـمُطلق لكلّ تلك الأَحداث والمواقف لأنَّ السيرة سيرةً غيريّةً.والمُلفتُ أنَّ عقدة الرِّواية كلها، تكمن في الحب البَنوي الذي يكنُّهُ الكاتب لوالده والحلُّ لكلِّ العقد يُختَصر في واحدٍ: أَن يمُدَّ الرَّب في عُمر يونس، لأنَّ عماده البكر لا يتخيَّل حياته حياةً سويَّةً خارج دائرة استمراريّة حضوره، بركةً لعمره ولعيلته كما لعيال أَخوَيه… ففي معرض حديثه عن والده، في فصل “قال أَنّه حزين” لغياب معظم عشرائه والصَّحب بعد أَن غادروا مرسح العمر، يختمُ الكاتب بالقول: “لا، لا أُريدُ لأبي أن يكونَ حزينًا. لا أُريده أن يشعُرَ بتفلُّتِ الغوالي، ولو حصل. أُريدُ أن يحيا بفرحٍ بيننا، ومعي خُصوصًا، لِما لي من حاجةٍ إلى وجوده قُربي، ومحبَّته لي، واحتضانه الأَبوي الغامرني دفعَ حياةٍ ونجاح”. (ص85).

د. عماد يونس فغالي

 

من الأَسباب المُوجِبة لصدور “كتابُ أَبي”، حلول عام اليوبيل الذَّهبي لاكتساب الوقور يونس، صفة الأُبوّة. ولكن، هل كانت لتتحقَّق له هذه المرتبة التي عاشها حتّى الملء جدارة رجلٍ أبٍ، لولا اكتسابه صفة الزَّوج المُحبّ الصّائن لزوجةٍ جليلةٍ أُنوثةً، أُمومةً راقيةً بفكرٍ وقلبٍ وحنان حضور؟ ومِمَّا أورده الكاتب فيها هذا البعضُ اليسير والـمُغْني: “هي البيتُ وكفى! هي الحياةُ في البيت وحياة العائلة. لأنَّها أُمّنا، عِشنا من وجودها معنا، وبحضورها لأجلنا. في خشعَةٍ من ذاتي أَمام ذاتي، تبيَّنَ تأثيرها في تكوُّنات شخصيتنا وامتداد حالنا نحو المدى… إنّي أَشكرُ ربِّي دائمًا، لأنَّهُ إن كان لديَّ اليوم شُابان أَفتخر بهما، فالفضلُ يعودُ إليها… وهي سيِّدةٌ تُعطي من ذاتها، تربِّي. معلِّمةٌ أَعطتِ الـمُجتمعَ نشءَ مُستقبلٍ، في الوقت الذي لعائلتها… فهي وفَّقت بين التّربيتين، بين النشأين. بين أَجيالٍ عُهِدَتْ إلى عنايتها في الحقل التَّربوي، أَعطتها من فيض إنسانيتها دروسًا، ضاقت عنها الكُتبُ والمناهجُ! وبين أَبناءٍ أَعطتهم الحياة، أَهدتهم سموَّ حالها في عُمق أُمومةٍ، وهبها الله أن تُشاركَه وهبَ نِعَمِه من خلالها!

أُمّي الحبيبة أَمال،

لم يكُن لوالدي عائلةٌ، على الوجه الذي هي، من دون أَنتِ. لم نكُن نحنُ مَنْ نحنُ عليه، لولا غرس قلبكِ فينا. ونحن،إنْ حملنا اسمَ الوالد، طبعتِ فينا ذاتَكِ لنتَكوَّنَ أَبناءَكِ في كُلِّيتنا، أَطباعًا وقِيَمًا!

ليونسَ عائلةٌ، عنوانُها أَمال، عُنوانُها أَنتِ! ” (ص59-60).

مَنْ يتقنُ اشتيار العسل من نخاريبه يتلذَذ بتذوِّق حلاوته، أَكثر مِمَّن يبتاعه. لذا، سأقف بالإقتباس من “كناب أبي” في هذا المضمار عند هذا الحدّ، داعيًا لكَ أَيا قارئي، أن يقع تحتَ ناظريك، وعليه أن يقع بين يديك: لأنّني على ثقةٍ، أَنَّك لن تخلِّيه، إلاَّ وقد أَتيت على جمع مضمونه، لِما ينطوي عليه من ميزات ثالوث الإبداع مُحتوىً وأُسلوبًا؛ من قدِّ ريشة كاتبٍ خَبِرٍ باصطيادٍ من مواطن الجمالات والجماليات سواءً بسواءٍ.

الكتابُ، ديوان عمر رجلٍ زوجٍ وأَبٍ قُدوةٍ، في كلّ ما عاشَ وما أَوردَ إبنه الكاتب فيه، تلميذًا مُجلِّيًا لم يكتفِ تلقن معارف من مَعين مدرستَيّ الضّيعة، بل حلُمَ بأن يكون من عداد تلامذة “الفرير”، فتحقَّق له ذلك في البترون، حيث تفوَّق وتابع دراسته بمنحٍ من فرنسا ودولته اللُّبنانيّة؛ بعد حلوله أَولًا على دفعته في الشّهادة المتوسِّطة الفرنسيّة!… موظفًا مديرًا في الجمارك،  عشيق بلدته “فغال” بكلّ ما في أَرضها من صوالح وخيور تسخيرًا لنموها وأَهلَها في المُجتمعات المجاورة كما على صعيد الوطن، بحيث امتاز صاحب السّيرة خُلُقًا، علمًا ورفعة أَداء،انطلقَ الدُّكتور عماد – بكر عيلته- بكتابة الكتاب، ليقدِّمه له هديةً في ذكرى سنواته الخمسين متزوِّجًا من الحبيبة والأُم الفاضلة أَمال، وذلك “لأنّ ما تمخَّضت عنه حياتُه المهنيَّة والإجتماعيّة، جديرٌ بأن يكونَ مِثالًا عَلَمًا. ولأنَّه أَبٌ أَدركَ سرَّ أُبوَّته في قوَّتها ومواطن ضعفها! وكان في كلّ ذلكَ كبيرًا, الشُّكر لله!” (ص6).

يزخر الكتاب بمواقفَ شيِّقاتٍ ريِّقاتٍ،تتخلَّل مُعظم فصوله؛ أَترك للقارئ أن يسعى جاريًا إِثرَ الحُصول على نسخةٍ منه، يرتشف من مضمونه حلاواتِ القَصص والعِبَر إِلى جانب طلاوة التَّعبير. لأَن فعل الكتابة فيه، أَتى  مُلتزمًا هادفًا، لا ينحو كاتبه منحىً برناسيًا في تدبيج فصوله، وبأُسلوبٍ قريب المنال داني المقاصد، في إيصال الفكرة والعبرة تحقيقًا للهدف الأَسمى من وضعه، لكلِّ ذي لسانٍ عربيّ متوسِّط الحال كما لكل ابن ضادٍ مُتمكّنٍ من لغتَه.

إنَّ خمسين الوالد متزوِّجًا، أَنبتت لمكتبتنا العربيّة “كتابَ عُمرٍ” من التزام أبٍ رسالة أبوته، عاشها ولا يزال، فعلَ شراكةٍ اللَّه حُبًّا وخلقًا!والمُلفتُ المميِّز، أنّ العيلة التي ربّى يونس، ترفعُ رأسها بما تربّت عليه وترفع رأسه بأن وفِّق َ هو إلى زرع القِيَم في أَبنائه كِبرَ إِنسانٍ، فلم يخذلوه! وفي وِقفته إِزاءَ والده مُخاطبًا في يوم الأَب، نتهجَّى في كلمات “عماد” الأَب خشوعًا، أَمامَ عَظَمَة أُبوّةٍ تتلمذَ على حضورها في حياته، لتجعله يحيا أُبوّته لولدَيه عيدًا مُستمرًّا، لا يفهم نفسه كأبٍ لهما- وقد غدا أَبًا- إلاَّ نبعَ حياةٍ وعطاءٍ لا ينضب،كما هو والده بالنِّسبة له ولا يزال.

باختصارٍ، في هذا المضمار، أَجد أنَّ يونس فغالي الأبّ، علَّم أَبناءَه فنَّ الحياة فعلّمَ بهم، ورُبِّوا معه فتربّوا عليه، حاولوا التَّفلتَ من قساوة الأبّ المُحِبَّة؛ هو الـمُريد لأَبنائه كلَّ الأَفضل والأَرقى، ومتى حانت مواسم أُبوَّتهم فما استطاعوا إلاَّ أن يفيضوا قيمًا مِمّا كنزَ بهم أَبوهم! هو هذا، “الإناء الذي ينضح بما فيه”.

ولمَّا أَفسح الكاتب الأخ لإِخويه بالمجال لأن يتوجها بكلمةٍ إلى والدهما لتُحفظَ له منهما وعيالهما في الكتاب الخابية، أَلفيتُ الإِبن- الأَخ عصامًا،عصاميَّ الوفاءِ، كما هو عصامُ أَبيه وعِصمتُه!

والكنَّة- الإبنة- إبنةُ الصَّديق المربِّي جان الدِّيك للكبير يونس- ترى إليه خير الأَب والصّديق صاحب القلب الصّدوق والفكر النَّير الذي لا تألوَ جهدًا ولا تغضُّ طرفًا عن الأخذ بمشورته عند كلّ مُتعطفٍ أو صعوبةٍ حياتيّةٍ،وهو الذي كسبَ احترام النّاس وودَّ قلوبهم ممتطيا جوادَي المحبّة واللُّطف إليها جميعها!

أَمّا الأَخُ- الإبن الطبيب جهاد، أَلفيته إلى جانب مقدراته العلميّة صاحب قلمٍ يزخر بالأدب الـمُخبَّأ إن دعاهُ داعٍ  إلى دنيا الكلمة: فوجد في أبيه الإنسان الذي يحمي، يراقب ويدافع ساهرًا على ما فيه صالح عيلته ورِفعة مآتيها… وله من بسمة والده أَمائر الرَّضى، وهو يبحثُ عنها كلّما انتابته عوارض الضَّعف، ليمتلئ منها زادًا وزخمًا للإنطلاق على دروب الكفاح نجاحًا للمُبتغى.

ويبقى أنَّ الحفيد ميكايل إبن “العماد” البكر، يرى في جدِّه مدرسة قيم وأَخلاق، بدونه يبقى تعلِّم فنَّ وأُصول أن نعيش الحياة كِرامًا أَعزَّاءَ، ناقصًا مبتورًا.

كما ويعمر القسم الثّاني هذا، بشهادات ناصعةٍ جمَّة، من معارفَ وأهل بلدةٍ، عاشوا مع هذا الأب القُدوة وعايشوه، حيث جمعتهم به دروب الحياة ومفاصل الوظيفة العامّة التي شغلَ، وكلُّهم أَجمعوا أن لا يُرمَى بوردةٍ  وأنه صاحب سيرةٍ حُقَّ أن تُكتَب بماء الذَّهب الـمُعطر لتفوح اقتداء أُبوَّةٍ وزوجيّةٍ، وتُحفَرُ ذكرى رجولةٍ لإنسانٍ علّم مَن عرِفَهُ، الكثير من فصول فنّ الحياة.

وإلى صاحب السّيرة أتوجّه لأقول:حَسبُكَ يونس نخول فغالي، أَن أَعطيتَ الحياةَ من حياتِكَ بنعمٍ دفّاقةٍ من فيض ربِّكَ للحياةِ عصامًا تعتصمُ به؛ وجِهادًا يحفرُ أَمانةً وفاءٍ بصخر العُمر جهادَك؛ وعِمادًا عليه تعتمد وإليه تَعمَد كلّما هبَّتْ لأَنواءِ العُمرِ رياحٌ.

دُمتَ أَبًا يعتزُّ به أَبناؤه، ويتمنّى منَ يتعرَّف به، أن يكون له في عينيه حظوةٌ من مشاعرَ أُبوَّةٍ ترتقي شعورَ اكتفاءٍ ببسمة رضىً ما دامت لكَ الحياة!

وكأنّي في خاتمة الكتاب، أَقف إِزاء واضعه وقفة احترامٍ، وهو يعتذر من قارئه على فرط ذاتيته في الكتابة إِن لمسها،لأنّه: “انحنى أمامَ قامةٍ هو من ملئها بعض هو!” مُتمنِّيًا عليه أَن “يتعرَّف بيونسَ أَبيه”، وليُطلقِ الأَحكامَ من بعدها.

دكتور عماد يونس فغالي،

“أَكيد، شو عندو بيَّك تِكتُب عنُّو؟” هو السؤآل الشّرارة الذي أَوقدَ في سراج فكركَ فتيلًا، من حبرٍ نيِّرٍ أَطلق كتابًا في سيرة الوالد، نحو شواطئ عيون القرَّاء.

أَردت إِفحام سائلكَ ونجحت، حين أَشعرته باقتحامه آتون المعاصي. فجاءَ جوابُكَ على جهالة تساؤله كتابًا،ستردد كلماته شفاه الدَّهر! فصل وفاءٍ هو، من ابن نظرَ في أبيه حقَّ قدره، فوفَّاه لقاءَ أَتعابه حبةَ خردلٍ ستُثمِر وتفيض إِنسانيّةً. 

                                                                      عنّايا، في 6 آب2019

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *