الشِّعرِيّ والشِّعر

Views: 38

 د. وجيه فانوس

          إذا ما كان مِنَ “الشِّعرِ” ما يتشكَّل عبرَ وزنٍ مُعَيَّنٍ، كأنْ ينهض، في الشِّعر العربيِّ، على بحور الخليل أو بعض تفعيلاتها؛ وإذا ما كان مِنَ “الشِّعر” ما يقوم على قافية ورويٍّ، وإذا ما كان مِنَ “الشِّعر”، أيضاً، ما يُظْهِرُ وجوده من خلال تشكُّلات لفظيَّة أو كلاميَّة معيَّنة؛ فجُماعُ هذا برمَّته يقعُ في عَرَضِ “الشِّعرِ” وليس في جوهره. إنَّه العَرَضُ الذي تلتقي حوله وبه نصوصُ الشِّعر، أيَّاً كانت؛ كما أنَّهُ التشكُّل الذي يلتقي حوله ويسعى إليه الشُّعراء على اختلاف مراتبهم وتنوُّع تجاربهم وتعدُّدِ أغراضهم وأزمانهم. إنَّه أحد المداخلِ الشَّكليَّةِ المشتركة بين المقبلين على الشِّعر، إرسالاً أو تلقياً؛ وليس جوهر ما ينفرجُ عنه باب الدُّخول. (https://emdrprofessionaltraining.com/) ويتأكَّد هذا الأمر، إذا ما كان في “الشِّعر” ما قد ينجح، أو ما قد يفشل، في تحريك الوجدان وإشعال العاطفة وما يُمَكِّنُ الذَّات من التَّسامي إلى قِيَمٍ مُعَيَّنةٍ ويدفع بالنَّفسِ إلى التَّماهي عَبْرَ مفاهيم معيَّنةٍ من دون سواها؛ وعلى هذا الأساس، فإنَّ الدَّرس النَّقديَّ الأدبيَّ بات يطرح تساؤلاً اساساً في هذا المجال، باحثاً عمَّا يجعل من الشِّعر شِعراً[1]. يمكن القول، تالياً، إنَّ “الشِّعرِيّ”، هو جوهرُ الشِّعرِ ولبُّ كيانه وسرُّ وجوده؛ وهو ما يميز، حقيقةً، أيَّ نصٍّ شعريٍّ من سواه، ويميز، تالياً، نتاجَ أيّ شاعر من غيره[2]. الشِّعرِيّ، وحده، وببساطة مطلقة، هو ما يجعل من الشِّعر شعراً!

          الشِّعرِيّ، إذاً، تلك الفاعليَّة التي تجعل من النَّصِّ اللّغوي، المكتوب أو المُشَافَه به، بأيِّ شكل اتَّخذ لذاته لبوساً، يقدِّم معرفةً تختلف عن تلك المعرفة الموضوعيَّة التي يمكن للإدراك أن يضيفها إلى الوجود الإنساني[3]. واقع الحال، إنَّ المعرفة، بطبيعةِ وجودِها وحتميَّةِ مصدرِها، ليست معرفةً واحدةً على الإطلاق! ثمَّة معرفة نابعة من استخدامٍ ما للمنطقِ العقليِّ؛ وثمَّة معرفة، أخرى، نابعة من استخدامٍ ما للإحساسِ والشُّعورِ[4]. الأولى، معرفة موضوعيَّة يتَّفق فيها المتلقِّون وسائر النَّاس في ما بينهم، على اختلاف أزمانهم ومواقعهم المكانيَّة؛ والثانية معرفة ذاتيَّة، يمتاز بها كل واحدٍ من المتلقِّين من دون سواه من الأشخاص.

          تتقبَّلُ المعرفة الموضوعيَّة أن تكون صواباً أو خطأً؛ في حين أنَّ المعرفة الذاتيَّةَ لا تخضع لمعايير الصَّواب والخطأ، على الإطلاق؛ بل هي مجال تحقُّقِ معرفة بالإحساس وإمكانيات الشُّعور وفاعليَّات التخيُّل والتَّخييل وليس بالمنطق العقليِّ وحدهُ على الإطلاق. إنَّها معرفةٌ تَرْفُلُ سعيدةً في قدراتها على العطاء، متجاوبةً مع قدرات متلقِّيها على الشُّعور والانفعالِ الذَّاتيَّينِ مع خصوصيَّتها الشِّعرِيّة.

          “الشِّعرِيّ”، إذاً، معرفة شعوريَّة خاصَّة بصاحبها؛ و”الشِّعريُّ”، تالياً، ابن هذه المعرفة الذاتيَّة بالتَّحديد؛ يقف في رحابها متميِّزاً بها عن معرفةِ ما هو “علميٌّ” ابن المعرفة الموضوعيَّة. لذا، فإنَّ الشِّعر غير العِلم[5]؛ وإن كان كلٌّ منهما يقود إلى طريق نحو المعرفة، يختلف عن الآخر ويتمايز بوجوده عنه.

          إنَّ في بعض ما هو “شِعرٌ”، ما لا يتعدَّى حدود التَّشكُّل الشِّعرِيّ الظَّاهريِّ، متمثِّلاً في وَزْنٍ أو قافيةٍ أو سوى ذلك؛ ولا يصل، بنصِّه، إلى الشِّعرِيّ على الإطلاق. يبقى هذا الشِّعرُ، تحديداً، مجرَّد نصٍّ يقدِّم معرفةً موضوعيَّةً ما؛ ويظلُّ عاجزاً عن توفيرِ أيَّةِ معرفةٍ ذاتيَّة يكوِّنها متلقِّيه بتفاعله معها. يبقى الشِّعر، ههنا، مجرَّد نصٍّ منظومٍ؛ إذا ما جاء ضمن نظام “الخليل”، أو نصَّاً سليم التَّفعيلات أو التَّراكيب أوالتَّقاطيع، إذا ما تجلَّى عبر تشكُّلات “التَّفعيلة” أو الشِّعر الحُرِّ أو المنثور؛ بيد أنَّه لا يتمكَّن أبداً من أن يكون شِعريَّاُ.

          قد يعتبر كثيرون، على سبيل المثال وليس الحصر، المطلعَ الشَّهيرَ لمعلَّقة امرئ القيس:

قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حَبيبٍ ومَنْزِلِ
فَتَغْرِقَ فَالمُقراةَ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها

  بِسِقْطِ اللِّوى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
لِما نَسَجَتْهُ عَلَيْها مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ

أحد أبرز نصوص الشِّعر العربيِّ القديم وأكثرها اشتهاراً بين محبي الأدب العربيِّ ودارسيه؛ وهذا أمرٌ صحيح. وثمَّة مِن هؤلاء، من يعتبر أنَّ الوصف الذَّائع الصِّيتِ الذي يقدِّم بهِ أمرؤ القيس فرسه، في المعلَّقة عينها:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعَاً

  كَجَلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيلُ مِنْ عَلِ

هو أيضاً واحدٌ من أبرز نصوص الشِّعر العربيِّ وأكثرها اشتهاراً بين محبِّي الأدب العربيِّ ودارسيه كذلك؛ وهذا، أيضاً، أمرٌ صحيح ولا جِدال فيهِ على الإطلاق. لكن ثمَّة تمايُزاً ينهضُ عليه، هذا الوصفُ للفرسِ؛ يضعه في خانةِ نوعيَّةٍ مفقودة، بل منعدمة، في البيتين المذكورين آنفاً من مطلع المعلَّقة عينها. فالبيتان الأوَّلان لا يقدِّمان سوى معرفةٍ موضوعيَّة مباشرة، تتقبَّل أن تكون صواباً أو خطأً؛ ولذا فإن الشِّعر فيهما يأتي، ههنا، خالياً من أيِّ شعريٍّ.

          يشهد واقع الحال أنَّ كلا البيتين الأولين ينهضان على تحديدٍ جغرافيٍّ، لِموقعٍ مكانيٍّ قائمٍ، يُطلب فيه البكاءُ تذكُّراً لحبيبٍ ما. وكأنَّ الشَّاعر يقول في بيتيه هذين “قفا نبكِ ذكرى مُعَيَّنة لهذا الحبيب ومنزلٍ له؛ وذلكَ في مكانٍ يُدْعى “سِقْطِ اللّوى”؛ وهو، تحديداُ، بين موقِعين يُعرف أحدهما بـ”الدَّخول” والآخر بـ”حَوْمَل”، يليهما مكانٌ يُقالُ له “تَغْرِق” وآخر يُسمَّى”المِقراة”. ويُضيف الشَّاعر، ههنا، أنَّ هذه المطارح جميعها ظلَّت، حتَّى زمن ذلك المرور، ظاهرةً للعَيانِ رغم ما مرَّ عليها من رياحٍ كانت تهبُّ جنوباً وشمالاً”!

          أما بيتُ وصف الفَرَسِ، المشار إليه آنفاً، ففيهِ معرفة لا يمكن إلاَّ أن تكون من باب المعرفة الشِّعرِيّة؛إنَّها معرفةٌ لا تخضع لمعايير الصَّواب والخطأ على الإطلاق، بل تَرْفُلُ سعيدةً في قدراتِ متلقِّي الشِّعريِّ، على التَّفاعل مع خصوصيَّتها الشِّعرِيّة هذه؛ وذلك عبر الإحساس الذَّاتيِّ وإمكانيَّات الشُّعور وفاعليَّات التَّخيُّل والتَّخييل. فقد يكون تشبيه الفرس على أنَّه مقبل ومدبر سريع في هذا مثل سرعة جلمود صخرٍ حطَّه السَّيل من مكان شاهق، بالأمر المفهوم والموضوعيِّ؛ لكن كيف يمكن أن يكون تصوير الفرس، أو تصوُّره، بأنَّه مقبل مدبر في آن واحدٍ، فهذا موضوع لا يحتاج إلى معرفة موضوعيَّة ومنطق عقليٍّ؛ قدر ما يحتاج إلى شعور داخليٍّ خلاَّق وقدرة تصوُّر ذاتيَّة، مغادرة للموضوعيَّة والعقلانيَّة، قادرة على رؤية فرس مقبل مدبر بأقصى سرعة وفي آن واحد لا إزدواجيَّة فيه.

***

-[1]يراجع:

  • Frederick Charles Gruber:A concept of poetry: a critical analysis of poetry as a basis for educational experience, University of Pennsylvania, 1934, 128, 135.
  • Mowbray Allan: S. Eliot’s impersonal theory of poetry, Bucknell University Press, 1974, pp, 25, 69, 71.
  • Katrin Schenk:Ralph Waldo Emerson’s concept of poetry and the poet, (Seminar paper- Eberhard-Karls-Universtat. Tubingen),GRIN Verlag, 2008, pp, 10-11.

[2]– Christopher Yates:The Poet Imagination in Heidegger and Schelling, Bloomsburry Academic, 2013, pp. 12-15, 58-62.

[3]– George Berkeley:A Treatise Concerning the Principles of Human Knowledge, ARC Manor, Rockville, Maryland, 2008, pp. 18-22.

[4]-Jose Carlos Bermejo-Barrera:The Limits of Knowledge and the Limits of Science, Universidade de Santiago de Compostela, 2010, pp. 7-23, 87-90.

[5]– Walter A. Koch:Poetry and Science-Semiogenetical Twins-Towards an Integrated Correspondence Theory of Poetic Structure, Tubingun: Narr, 1983, pp. 26-29, 43=44, 45-46.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *