ليلة طوارئ مصرية

Views: 923

مصر- اللواء المتقاعد حمدي البطران

بيرتون، رحالة معروف، وصل مصر عام 1853، وقتها كانت القاهرة يحكمها الخديوي عباس الأول، وكانت تحتفل بعيد الفطر في جو من إعلان الحرب على روسيا، أي أن مصر في تلك الفترة كانت في ظل ما يعرف بحالة الطوارئ.

يقول بيرتون إنه حين يتجمع الناس في المساجد مثلا أو في المقاهي تسارع الشرطة بإغلاق الأبواب، وتقبض على القادرين بدنيا لتجنيدهم للخدمة العسكرية، وقد ساقوهم ليجعلوا منهم جنودا، والتفت السلاسل حول رقابهم وأرساغهم، ومما زاد في كآبة المنظر أن نساءهم كن يتبعنهم مولولات نائحات،واضعات الطين والتراب فوق رؤوسهن، وملابسهن المشقوقة. كانت القاهرة قد امتلأت بالاشاعات عن المؤامرات والمتآمرين، وكان المسيحيون واليهود ترتعد فرائصهم خوفا من الاستعدادات المرعبة للعصيان المسلح والسلب والنهب، ويتهامس الناس بأن بضع مئات من المجرمين الخطرين قد أزمعوا إحراق القاهرة مبتدئين بحي البنوك، كما يزمعون نهب المصريين الأثرياء، ومما زاد في خطورة تلك الاشاعات أن سمو عباس باشا كان غائبا عن القاهرة.

لأجل هذا تولت الشرطة المصرية مواجهة الأمر، وبدأ قادة الشرطة في التنمر، وصدرت الأوامر المشددة في مدن مصر الرئيسية بأن كل من يخرج من بيته بعد حلول الظلام دون أن يحمل معه فانوسا، سيقضي ليلته في مركز الشرطة.

وحدث أن خرج بيرتون في الليل بدون فانوسه بعد الساعة الثامنة، فقبضوا علىه، وطوقوه وأمسكوه من أكمامه وذيل جلبابه، وانهمرت منهم الأسئلة: اسمك وجنسيتك وسنك ودينك ومهنتك. وسألوه عن سائر أحواله.

 ويقول بيرتون: إنهم سبوه وشتموه وسحبوه بعنف الى مكتب الضابط، وفي الطريق دفعوه بعنف في ممر مقنطر يؤدي الي ساحة، وقد أصطف العساكر في هذا الممر، وكلما مررت بواحد منهم أعطاك “قفا”، أي ضربك على قفاك، وستجد نفسك في ممر طويل ممتلئ بكثيرين وقعوا في الورطة نفسها، ومرة أخرى يسألك كاتب ذو نظرات مرعبة، عن اسمك وجنسيتك، ويدون كل هذا بدقة، فإذا لو توفق في الإجابة فإنهم يدفعونك الى زنزانة المتهمين لتقضي ليلتك مع النشالين واللصوص.

أما أذا كنت خبيرا بتلك المواقف، فإنك تصر على مثولك أمام باشا الليل، في هذه الحالة يخشى الكاتب أن يرفض طلبك، فيسرعون بك الى مكتب الرجل العظيم “باشا الليل” أو الضابط النوبتجي في وقتنا الحاضر، وفي هذة الحالة ينمو لديك الأمل بأنك ستأخذ حقك من ظالميك، وعندها تجد ان صاحب المقام الرفيع جالسا، وعن جانبه حارسان، ويقف أمامه المعتقلون الجدد بأصوات صاخبة، وعندما يجيء دورك فإن الحراس يطوقونك، جيدا، ينظر إليك الباشا نظرة ازدراء قاسية، ثم يشمخ بأنفه، ويأمر بإحضار الفلكة، وعلى الفور أعلن بيرتون أنه هندي تحت الحماية البريطانية، عندئذ، حدق فيه الباشا، وهو رجل تعود على الطاعة ليخيفك فتقوم أنت، كما هو مفترض، بالتحديق فيه، حتى تقنعه قسماتك، فيستدير الى رجاله، ويسألهم عن تهمتك، فيقسمون بالله العظيم، أنهم وجدوك بدون فانوس، وانك كنت ثملا تضرب الناس المحترمين، فيقوم الباشا بالإيعاز لأحد الحراس بشم أنفاسك، لمعرفة ما إذا كنت ثملا، يتقدم الحارس منك، ويقرب أنفاسه منك، وكما هو متوقع، فإنه يصيح “كخ”.. وتبدو على وجهه علامات تنم عن الاشمئزاز، ثم يقسم بلحية أفندينا أنه يشم رائحة الخمر، ويبتسم الباشا، لأنه يميل كثيرا الى مشروب الكونياك أو الكوارسو، ويسمح لك بقضاء الليل على الدكة مع شلة من الطفيليين.

وفي الصباح تستدعيك قنصليتك، فيذكرون لها جريمتك، فإذا كانت تهمتك مجرد استحضار الفانوس الخاص بك، فسيطلقون سراحك مع نصيحة أن تكون حذرا في الأيام المقبلة.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *