جدلية اليقين والمعرفة

Views: 839

حسن عجمي

     اليقين نقيض المعرفة. لذا الصراع لا ينتهي بينهما. فاليقين هو المعتقد الذي لا يقبل الشك والمراجعة والاستبدال بينما المعرفة تتشكّل من المعتقدات القابلة للمراجعة والشك والاستبدال. 

 إن لم تكن المعرفة نقيض اليقين أي إن لم تكن المعرفة قابلة للشك والمراجعة والاستبدال على نقيض من اليقين فحينئذٍ هي معرفة ثابتة وأبدية تماماً كالمعرفة التي يمتلكها الإله الحقيقي أو المُتخيَّل. لكن هذا مستحيل فالبشر ليسوا آلهة وبذلك لا يمتلكون معارف ثابتة وأبدية ما يُحتِّم نتيجة أنَّ المعرفة البشرية هي القابلة للشك والمراجعة والاستبدال. وإن لم تكن كذلك لسجنتنا في معتقدات مُحدَّدة ويقينية لا تتغيّر ولا تتطوّر فمنعت عنا التغيّر والتطوّر في آن.

     اليقين قاتل البحث المعرفي والعلمي. فإن كانت معتقداتنا يقينيات بالنسبة إلينا فلا تقبل المراجعة والشك عندئذٍ سوف نتوقف عند قبول تلك المعتقدات ونرضى بها كل الرضى فلا نستمر في البحث العلمي والمعرفي ما يؤدي إلى عدم تغيّر معارفنا وعدم تطوّرها. لكن المعرفة تتغيّر وتتطوّر لأنها تقبل الشك والمراجعة. أما اليقين فثابت لا يتغيّر لدى مَن تيقّن به ما يجعل صاحب اليقين سجيناً لِما تيقّن به. وبما أنَّ المعرفة قابلة للشك والمراجعة، إذن تحرّرنا المعرفة الحقة من معارفنا الماضوية فتدفع بنا نحو اكتشاف معارف جديدة من خلال استبدال معتقداتنا بأخرى أفضل عملياً ونظرياً على ضوء مراجعاتنا المنطقية والعقلانية لِما نعتقد. هكذا المعرفة الحقة تضمن استمرارية البحث المعرفي لكونها تعتمد على المراجعة الدائمة لِما نعتقد واستبدال معتقداتنا باستمرار. 

     على أساس هذه الاعتبارات، الحرية والتطوّر واستمرارية الأبحاث المعرفية تشكِّل جمعاء حقل المعرفة الحقة فلا تفترق الحرية والتطوّر واستمرارية البحث المعرفي عن بعضها البعض بل تكوِّن حقلاً واحداً لا يتجزأ ألا وهو حقل المعرفة الحقيقية. المعرفة التي لا تحرّرنا ليست معرفة حقيقية بل هي سجون لنا. والمعرفة التي لا تطوِّرنا ليست معرفة حقة بل هي قبور لنا. إنسان بلا حرية وتطوّر شبه إنسان. وإنسان بلا معرفة إنسان بلا حرية وتطوّر. هكذا حقل الإنسانية يتشكّل من المعرفة الحقيقية والحقة التي تضمن الحرية والتطوّر واستمرارية البحث المعرفي في آن.  

Schrödinger’s cat

 

مصدر الجهل والإرهاب

     بما أنَّ اليقين نقيض المعرفة، إذن كلما ازداد اليقين قَلَّت المعرفة تماماً كما أنه كلما ازداد اليقين ازداد الإرهاب. من هنا اليقين مصدر الجهل والإرهاب معاً. فحين يعتبر الفرد أنَّ معتقداته يقينيات يتعصب لها فيرفض الآخرين المختلفين عنه في معتقداتهم ما يؤدي إلى ممارسته للإرهاب ضدّ الآخرين من جراء رفضه لهم. هكذا اليقين أصل الإرهاب تماماً كما هو أصل دمار المعرفة وموتها. فالإنسان معرفة والمعرفة قتال اليقينيات. 

     ترتبط مسألة اليقينيات والمعرفة بوصف الكون وتفسيره علمياً. فنظرية ميكانيكا الكمّ العلمية تؤكِّد على أنَّ الكون محكوم بقوانين احتمالية وليست حتمية وتضيف بأنَّ عالَمنا محكوم بمبدأ اللايقين كما عَبَّرَ عنه الفيزيائي هايزنبيرغ. بالنسبة إلى مبدأ اللايقين العلمي، من المستحيل التيقّن بمكان الجُسيم وزخمه (أي كمية حركته) في الوقت نفسه. فعندما نتيقّن بمكان الجُسيم يستحيل التيقّن بزخمه. وحين نتيقّن بزخم الجُسيم يستحيل التيقّن بمكانه. هذه صفة موضوعية للكون نفسه فمن غير المُحدَّد مكان الجُسيم وزخمه في آن. هكذا معارفنا ليست يقينية لأنَّ الكون نفسه محكوم باللايقين.

physicist Erwin Schrödinger

 

   نظرية ميكانيكا الكمّ

  تعتبر نظرية ميكانيكا الكمّ أنَّ الكون غير مُحدَّد. عَبَّرَ العلماء عن لامُحدَّدية الكون بِطرُق عديدة منها أنه من غير المُحدَّد إن كان الجُسيم كالإلكترون جُسيماً أم موجة. أثبت الاختبار العلمي صدق مضمون نظرية ميكانيكا الكمّ على النحو التالي : الجُسيم نفسه يعبر من فتحتيْن مختلفتين في آن. لكن إن كان الجُسيم جُسيماً فقط فلا بدّ حينها من أن يعبر من فتحة واحدة بدلاً من فتحتيْن في الوقت عينه. هكذا التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو أنَّ الجُسيم هو أيضاً موجة ما يمكّنه من العبور من فتحتيْن مختلفتين في الوقت نفسه. على هذا الأساس، الجُسيم جُسيم وموجة في آن رغم أنَّ الجُسيم نقيض الموجة ما يدلّ على لامُحدَّدية الكون والوجود. فمن غير المُحدَّد إن كان الجُسيم جُسيماً أم موجة ولذا يتصرّف على أنه جُسيم وموجة في الوقت عينه.

Werner Karl Heisenberg

 

لامُحدَّدية الكون

     لقد عَبَّرَ العلماء أيضاً عن لامُحدَّدية الكون من خلال قطة شرودنغر. فمن غير المُحدَّد إن كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة ما يؤكِّد على لامُحدَّدية عالَمنا. فاحتمال إصابة قطة شرودنغر بإشعاع قاتل يساوي احتمال عدم إصابتها بإشعاع قاتل، ما يتضمن أنه من غير المُحدَّد إن كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. هكذا حقيقة أنَّ عالَمنا محكوم بقوانين احتمالية تؤدي إلى نتيجة أنَّ الكون غير مُحدَّد.

  لكن إن كان عالَمنا غير مُحدَّد وقوانينه احتمالية وعلى رأسها مبدأ اللايقين للفيزيائي هايزنبيرغ فحينئذٍ يستحيل أن توجد يقينيات حقيقية بل حينئذٍ كل يقين هو يقين كاذب. إن صدقت اليقينيات فلا بدّ من أنها تُعبِّر عن واقع الكون نفسه فتُحدِّد ما هو بيقين. لكن الكون غير مُحدَّد. وبذلك تكذب اليقينيات دوماً ويستحيل صدقها.

كذب اليقينيات   

  هكذا عالَمنا اللامُحدَّد دلالة كبرى على كذب اليقينيات ما يُحرِّرنا من سجون معتقداتنا ويضمن وجود المعرفة على أنها نقيض اليقين غير القابل للشك والمراجعة والاستبدال. 

عالَمنا اللامُحدَّد ضمانة حريتنا وإمكانية حصولنا على المعرفة القابلة للتغيّر المستمر والتطوّر الدائم. 

هذا لأنَّ لامُحدَّدية الكون تُنتِج بصدق فقط معتقدات غير مُحدَّدة ما يحتِّم تحررنا من محدَّدية (أي يقينية) أية معتقدات فيضمن استمرارية البحث المعرفي وإمكانية الحصول على معارف قابلة للتغيّر والتطوّر من جراء لامُحدَّدية المعتقدات الصادقة. 

     إن كان الكون مُحدَّداً فسوف يسجننا بمعتقدات مُحدَّدة أي بيقينيات هي نقائض الوقائع فنخسر الحرية والمعرفة وإمكانية الاستمرار في البحث عن المعتقدات الأصدق. هكذا إنسانٌ بكون ٍ مُحدَّد إنسانٌ سجينٌ ومُقيَّد. إنسانٌ بكون ٍ مُحدَّد إنسانٌ بلا معرفة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *