قلمٌ فارٌّ من وجْـهِ العدالة

Views: 373

 الوزير السابق جوزف الهاشم

   يقولون : أنتم تكتبون ليقرأوا وهم لا يقرأون ولا يكتبون … ونقول : الكتابة في دولة الأميِّين مخالفةٌ يُعاقِبُ عليها القانون ، والمثقّفون هـمْ أَلـدُّ الأعداء للحكّام .

   نحن نكتب وهم لا يقرأون … مَـنْ قال إننا نكتب لهم …؟

   نحن نكتب لِـمَنْ يقرأون ولِـمنْ يفهمون إذا قرأوا …

   نحن نكتب للأجيال ، نكتب للّذين تكاد الثورة تحتضر في نفوسهم ، نكتب لأولئك الذين يسيرون خلف الزعيم كقافلةٍ من النمل … نكتب للتاريخ ، والكلمة ليست سلعة معلّبة يبطل مفعولها .

   نحن نكتب تحت وطأة الهمّ والقلق والبؤس واليأس والذُلّ ، كمثل مَـنْ يخـدِّرُ الوجع ، حتى وإنْ كانت الكلمات كالشموع تُضاءُ وتنطفيء ، فلا بـدّ من أن تُلقِّحَ الظلام بالنور .

   لأنه لم يعُد هناك جَمالٌ نكتب عنه وقد شوَّهوه ، نحاول أن نفضح البشاعة عند الذين يُخفون القبائح بالمساحيق.

   نحاول أن نسدّد الرماية على تلك الطيور ذات الأجنحة السوداء والتي لم تحمل إلينا إلا الشؤم .

   للّذين يقرأون نقول : نحن لا نكتب في سياسة الخساسة ، في هذا اللبنان ليس هناك سياسة ، لا علم سياسة ولا علم إِجتماع ، ولا سياسيون ولا علماء ، السياسة عربدةُ هنودٍ وشعوذةٌ تردّد أصداءً ضجّاجةً جوفاء .

   في سياسة “النفايات” يقول سقراط : “لأنني لا أريدُ أنْ أتلّوث أحاول الإبتعاد عن السياسة” .

   نحن لا نتلوَّث في تحليل السياسات الخارجية كأننا نملك مفتاح تفكيك رموزها ،  ولا ندّعي استكشاف ما تخبِّـئهُ رؤوس الملوك ، فالملوك لا رؤوس لهم ، وكلّ ما نحاول استكشافه مكشوف ، وكلّ ما نحاول خلْعَ الحجاب عنه فهو سافر.

   نحن نكتب عن وطـنٍ حروبنا فيه لم تكن خسائرها هزيمةً بشرية بل إبادة حضارية ، فبات مقبرة للأحياء ومقبرة للتراث ومقبرة لذاكرة الأرض.

 نكتب عن ذلك المارد الذي بات سجين القمقم ، عن ذلك الرأس الشامخ بلا عنفوان ، عن الرأس الصالح بلا رجاء ، نخاطب إخواننا في المنفى الذي إسمه الوطن كمثل ما خاطب الكاتب الروسي ، “دوستويفسكي” أخاه في رسالة من منفاه : “من المحزن أن يعيش المرء بلا رجاء …”

   نكتب عن مرحلة العُـقْم في السلالات السياسية والوطنية ، عن الخلَف الذي يخجل منه السلف ، عن الماضي الذي يصفَعُ  عُقوقَنا … نتسكَّع ، نتساءل : هل نحن أحفاد الذين ابتدعوا الحرف وعقلنوا المحيط العربي ، وعصرنوا النهضة الفكرية .. أو نحن نسلٌ لقيطٌ حبلَتْ به الأمهات بالزنى التاريخي …؟

   نحن نكتب ، لنستعيد شخصيتنا ، وحصيلة تاريخنا الحضاري ، لتحطيم الأوثان التي رفعوها أمامنا حتى لا نتعبّد لها .

   الكاتب في زمن الإنهيارات الإنسانية والوطنية والسياسية والأيمانية والعقلية والخلقية ، هو الذي يلأليءُ المصابيح في الدامسات انفراجاً نحو إشراقة الأمل ومشارف المستقبل ، وهو الذي يبدّد الهلع على المصير وسط حضارة مزيّفة ومدنيّـة متوحشة .

   من أجل ذلك نكتب ، وما هـمَّ إنْ كانوا يقرأون أو لا يقرأون ، المهمّ أن يسقط الذين يختمون تطوّر التاريخ بالشمع الأحمر ، وألاّ يظل شرط البقاء في لبنان ، أن يكون الإنسان فيه : ميليشياوياً أو حاكماً أو لصّاً .

 ***

(*) جريدة الجمهورية 13/ 9/ 2019

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *