يوميَّات بلا أَيَّام

Views: 721

“يوميات بلا أيام “كتاب جديد صدر حديثًا للدكتور جوزف صايغ عن دار نلسن. تنفرد Aleph-Lam بنشر فصول الكتاب على حلقات. في ما يلي الحلقة الأولى.

 

د. جوزف صايغ

 

من الطفولة بداية لا تنتهي

 

لماذا، أواخر هذا العمر، أوائله؟

لماذا هذا الإصرار الأخرق على اجتياز دروب السطور، منعطفاتها، كمائنها ومشاقِّها، مرَّةً أخيرةً وكأنها الأولى؟ دروب ضاربة في غير ما متوقّع… إلى حيث لا حيث. بعدما قطعتُ أشواطاً على دروب الحياة شعراً، لماذا اجتياز أواخرها نثراً؟ كنت قد تجنّبتُ، واستبعدتُ، النثر عمراً لعدم ثقةٍ به؟ ماذا أتوخّى إذن؟ إلى مَ أقصد؟ إلى أين أبتغي وصولاً؟ لعلّها السِّياط الداخلية، الظمأ الكينونيّ إلى…؟

أو أن اجتياز الدرب جزءٌ من الوصول؟ أو أن غاية السائر هو السَّير، ولو مغشوشاً أو موهوماً. كلمات تجرّ كلمات، وسطور تتواصل بسطور… حتى النهاية! نهاية ماذا؟ نهاية أية بداية؟ ما أكنُّه، أو ما بُدئ سهواً ويجب أن يتمّ في شبه عَمْد؟ استكشاف تلك الأقاليم الغامضة في تلافيف ذاتٍ ليست دائماً ذاتها، ولا تعرف أصلاً ما هي، قبل أن يستنفدها العدمُ، أو ينقطع حبلُها قبل نهاية الدرب… مهرول في مجاهل الذات أمضي متسائلاً لماذا!؟

ولكن… لماذا أيُّ شيء كان؟

I

 

يستيقظ الصباح في باريس على عطر القهوة في الأصابيح الزحليَّة. تكاد لا ترفع الغطاء عن المغلاة حتى يفوح عطر البُنّ المغلي بحَبِّ الهال، وحُبِّ الوالدين، في بيتنا بزحلة، في “الحارة – حارة الراسية”. أستنشق شميم البُنِّ يتصاعد، مُلولباً سحابه، شفيفاً، محمَّلاً بالأفاويه، مَخضوباً بالدفءِ العائلي.

أُلفة حميمة، وسعادة أُسرويّة. فكأنما البرد الباريسـي يلفحني، بالتصوّر والمشاعر، صوب دفء زحلة، زمن الاسترفاه بكنف الأهل، حول ركوة الصباح، باكراً. وكأن الحنان الأمومي يمسُّني، ويستفيق في المخيّلة أثاثُ البيت القديم. أشياء مُزمنة، رأيتها ورأتني، ألفتُها وألفتني، ولبثنا زمناً طويلاً في مناجاة طويلة. أسمع صوت الوالدة يقطع الصّمت الهنيَّ تسألني بماذا أريد أن تلفَّ لي “العروس”؟ باللَّبنة، أم بالجبنة، أم بالصَّعتر والزيت؟ لا أُجيب. أبقى مُتبحِّراً في الرّكوة، كمن يستمهلها لحظة تُبعده عن الذهاب إلى المدرسة.

يا ما أُحيلاها، تلك السعادة الصباحية، حول الركوة.

حرارة حياةٍ أستعيدها اليوم، في الغربة، أحيا بها.

Sur ces chemins d’antan, perdus dans la mémoire,

Le soleil fut si fort qu’il en brula les ombres.

 ذكريات سعيدة وشجيّة تواكبها المشاعرُ على أجنحة الحنين، إلى المنازل الدائلة بعيداً، في ضباب المخيلة. أحاسيس مُستنهَضة من النسيان، أناسٌ تواروا يُراودون من غيابهم في شبه حضور مستعار… معهم، إلى حيث بدأتُ، أعود مع الذكريات.

‏*‏

ماذا يربط الحاضر بالماضي؟ الذاكرة.

ماذا يربط الحاضر بالحاضر؟ الذاكرة.

ماذا يستقدم المستقبل إلى الحاضر؟ الذاكرة.

أكلُّ ما هو هو ذاكرةٌ… أو نسيان؟

 

“وتقول وداعاً للمدينة التي تغادرك،

تقول وداعاً للقسطنتينيّة التي تغادر…” ([1])

جان أُوْجنيكوس

 على أطراف الرمال الصحراوية وشواطئ البحر الحضاريّة ظهرت، عام 1920، معجزة. معجزة منتظرة منذ ليل التاريخ اجتُرحت. سطع نورها، وتألّق، حتى انفجر من شدّة السُّطوع، وتبدَّد. بعضه وقع في الأرض الخصبة فأينع وبَسَق، وبعضه سقط على الرمل فجفّ ويبس.

بيزنطيا تسقط ثانيةً.

‏*‏

بعد تلك “المعجزة” بثماني سنوات وُلدتُ مع من وُلدوا من الأجيال الجديدة، في تلك الأرض المولودة جديداً.

رأيت النور بين عامين، في بيت رقيق الحال، يقوم على أحد مرتفعات زحلة الغربية. كانت الساعة الثامنة والنصف مساءً، وكانت الدنيا ثلجاً بَهَرَ عينيَّ فعشيتا عن الدنيا، وعن مصالحي، إلى الأبد. وكان أنّ النور، الذي يعمي، عقَّدني. بقيتُ أتساءل، كلَّما ذكرتْ لي والدتي تلك الحادثة، لماذا النور يُعمي بدل أن يُنير؟ رحت أحدِّقُ في قرص الشمس متسائلاً، فكأني في ظلمة أحدّق. بعد زمن طويل، أثناء دراسة الفلسفة، سنوات السّربون المباركة، بقيتْ تلك الحادثة تسائلني. العلماء اكتشفوا بُنية النور، فهل أدركوا ماهية العتم؟ لماذا لا نرى العَتْم؟ شمعةٌ تُضاء فيتبدَّد؛ تُطفأُ، فيعُمُّ الظلام ويسود. ما هذا الذي اختفى وظلّ موجوداً؟ في لحظة انتقل من الوجود إلى العدم؟! وقد يتكاثف العتمُ في عدمه فيتحوَّل كابوساً ماديًّا يُطبق على الصَّدر حتى الاختناق. “ظلام دامس يقطع بالسكين”، يقول الفرنسيون.

هل العتم هو العدم؟

‏*‏

بعد نصف قرن، ذات صباح، في طريقي إلى مكتبي في اليونسكو، قرأتُ في المترو هذا الجواب الشِّعري: “لماذا لا نرى الليل؟ لأنه الليل!”.

‏*‏

صادف الشهور الأولى لولادتي انهيار بورصة نيويورك الشهير، عام 1929، متسبِّباً بأضخم إفلاس أسفر عن صعود الرايخ الثالث، والحرب العالمية الثانية. لا علاقة، طبعاً، بين ولادتي وهذه الكارثة العالمية غير التزامن. كان هذا الحدث كافياً ليستقطب تصوّري، ويُغذّي ميلي الطبيعي إلى التشاؤم.

لا أذكر تفاصيل واضحة عن المنزل الذي رأيتُ فيه ذلك النور الثلجي الباهر. أتصوّره، عِبْرَ ذكريات والدتي، أوائل زواجها، بيتاً ضبابيًّا بالكاد ترتسم له معالم في مخيّلتي، فأستبين شكله الخارجيّ، من دون خباياه وخفاياه. كان طابقاً أرضيًّا، مغِمًّا، من اللَّبِن والطّين، سطحه تراب تعلوه محدلةٌ مقصوبة من الحجر الأبيض، مستديرة، ملساء، مُبَيْكَرة لا عيب فيها سوى صريرها، نسمعه في الأيام الماطرة، فنطمئنّ إلى أن البيت لن يُطبق على رؤوسنا، وأن الدنيا ما تزال مكانها، تهتزّ ولا تقع.

كان ذلك البيت قابعاً في لِحْف المُنْحدر الغربيّ، الهابط من “الـمَنْطَرْ” حتّى “الرَكَّة”، الأرض الركيك، ومنها إلى الكرُّوسة: الأرض المعبَّدة. بيت عاديّ، متواضع كسائر بيوت المستورين الموزّعة على أطراف المدينة، مُفسحةً وَسَطها، على ضفاف البردوني، للأعيان والـمُوسِرين.

حسنةُ ذلك البيت، نسبةً إلى والدتي، كونه يقع لِصْقَ بيت أهلها، على مرمى نداء من ذلك البيت العالي، الكبير، لا يفصل بينهما إلا زاروب ضيّق تستطيع عبره أن “تَنْدَه” على أهلها عند الحاجة. هكذا تكون البِنْتُ قد خرجت من الباب لتعود من الشبّاك. فوالدتي ليست صغرى تسعة أولاد فحسب، بل كانت أول من تزوّج من العائلة، وأنجب صبيًّا يحمل كُنية العائلتين معاً: عائلة الوالدة، وعائلة الوالد، الذي كان من كنيتها، فحظيَ الصبيُّ بعطف الجميع لأنه جمع وما قطع النسل الذي تقطعه الفتاة بزواجها من غير كُنيتها، فلم تتنازعه عواطف عائلتين غالباً ما لا تجتمعان إلا لتفترقا، في الودّ طبعاً. ناس ذلك الزمن كانوا يستبشرون، ويُبشِّرون، بالمولود الذَّكَر، ويُعِزُّون أمّه، بينما يُعَزُّون والدة الأنثى. هكذا وُلدتُ في كنف عطف جاهز سلفاً ليحتضنني، ويُدلّلني، ويمنحني، مجّاناً، جميع امتيازات الصبي الوحيد. لقد بقي ذلك المنزل زمناً على قيد الوجود، مهجوراً، بعدما هجرناه لننتقل إلى أفضل منه بقليل، بيت “أمّ شبل”، الواقع في رأس الطلعة – أو كَعْب النَّزلة – الطالعة أو النازلة إلى ومن بيت جَدي.

****

([1]) Constantinople 1453, des byzantans aux Ottomans, المراثي,éd. Anachorsis, Paris, 2016.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *