الحب المستحيل في رواية “مرآة الروح” لـ لونا قصير

Views: 854

أمل الراغب

الصراع مع الذات، لعبة القدر، والرومانسية الحالمة، هي الأعمدة الاساسيّة التي بُنيت عليها رواية “مرآة الروح” لـ لونا قصير. وبالحكمةِ والرقي أكملت الكاتبة هندسة بنائها وأخيرا أضاءته بفلسفتِها الخاصة. فكاتبتنا أمرأة خياليّة بالفطرة، مراهقة لم تكبُر بعد.

 من يعرف لونا الإنسانة يعلم أن كلماتِها التي تنسجُها على شكل كتاب، ليست كتابة أدبية فحسب، وإنما هي حالة من البوح العفوي الذي تتقنه النساء جميعا. هي فقط تتحدث إلى قلمها وورقتها فينتج عنهما حوار مع القارئ عبر الحروف، والدليلُ على ذلك أن شخصياتِ رواياتِها الثلاث وخصوصا الأبطال فيها، يشبهونها شكلا ومضمونا، ولربما هذه كانت بطاقة العبور الأولى إلى قرائها. لأنها بصدق كلماتِها ومشاعرها استطاعت الدخول إلى قلوبهم من دون استئذان، إذ يشعرون بغير قصد أنهم يكتشفون لونا نفسها وليس روايتها فقط.

أمل الراغب

 

رغبت الكاتبة أن تنقلنا إلى عالمِها الحالم، فدعتنا للنظر إلى مرآة روحِها، التي وضعت فيها الكثيرِ من شخصيتها وعفويتها وطيبتها. وهنا أشيد بحسنِ اختيار العنوان، إذ لا شيءَ يرينا حقيقتَنا مثل مرآتنا، فكيف إن كانت مرآة الروح التي تعكس حقيقة أرواحٍ مخبّأةٍ لا يراها حتى نحن أنفسنا؟

ما بين الحبِ والأنانية، التضحية والخيانة، الصراع النفسي وتحدي القدر، تغوص بنا في الأعماقِ البشرية، لتصطادَ من كل حالةٍ حكمةً وموعظة، لكن جميعها يتمحور حول نقطة أساسية ألا وهي السلام، سواء أكان أنسانيًّا أم نفسيًا.

أسطورة زمن ولّى

عندما قرأتُ مرآة الروح، ظننت لوهلة أنني سافرتُ إلى عالم بعيد، رغم أن الروايةً تحكي واقعنا الأليم بما فيه من حزن ووجع، إلا أن الشخصياتِ الرومانسية بشكل طاغٍ أحيانا، تشعرنا بأننا في اسطورة، أو أننا في زمن ولّى أو ربما مستقبل مختلف الملامح، فهؤلاء البشر غير موجودين بيننا، وذلك الحب الجنوني الذي صورته ما عاد له مكان في الواقع. ولربما هذا ما سيصير إليه الحال في المستقبل، فإذا تنبّه القارئ لتواريخ الرواية سيعي أنها رواية مستقبلية، إذ تبدأ القصة في الزمن الحالي وهو زمن الربيع العربي كما يحب البعض أن يسميه، وتمر السنوات الطويلة وتتسارع الأحداث. أي أن الحياة التي عاشتها الشابة ياسمين بطلة القصة، يرجح أن تكون في عام 2038، وهو تقدير شخصي لم تنوه إليه الكاتبة في الرواية، لكن هذا تفسير كونها ولدت أثناء الحرب الراهنة في سوريا.

ترصد هذه الرواية الأحداث الأليمة التي يمر فيها العالم العربي حاليًا من حرب وتهجير وفقر، حتى ولو بطريقة مبطنة في بعض الأحيان. أظن أن الكاتبة ارتأت عدم الغوص أكثر في هذا الصراع كي لا تقحم نفسها بين معارضيه ومواليه وهم كثرة في كلا الحالين، لكنها اصطادت هدفها منه بكل سهولة وحرفيّة. وجعلته الأداة الاساسية لبناء الشخصية الروائية التي تدور حولها القصة بالمجمل. ومن هنا أتت تسمية البطلة ب ياسمين الشام لتومئ الكاتبة لنا عن أصل الفتاة، وهو الاسم الذي أطلقته عليها الأم كرستينا بعدما وجدتها ملقاة أمام باب الدير.

 

رسائل وإشارات كثيرة

إن كل عمل أدبي هدفه إيصال رسالة ما إلى القارئ، بعضها يكون عبر نصوص مباشرة وصريحة التوجه، وهي رسائل لا يختلف اثنان على معانيها، وبعضها الآخر يرتكز على اشارات كثيرة أخرى يعتمدها الكاتب لايصال أفكاره لكنها تكون مبهمة تصل للقارئ بشكل غير مباشر ويتلقفها أحيانا من غير أن يشعر، وهذا يستند إلى أسلوب الكاتب وسلاسة طرحه للفكرة، لذلك نجد الكاتبة تمرر لنا اشارة ما لفكرة معينة، في كل جزء من القصة من دون أن تصرّح عن هدفها منه . تقنيَّا يعود هذا الأسلوب لاضافة التشويق للاحداث وهو معتمد لدى كبار الكتّاب، إذ يتقصد الكاتب بطرح بعض الأفكار والاشارات على القارئ ويتركه في حيرة من أمره كي يعطيه جوابا في النهاية. أذكر منها ذهاب الأم كرستينا إلى الشيخ أحمد في بداية الرواية، ومن ثم تواجده في حفل زفاف ياسمين، الأمر الذي يشكك القارئ بأن الأم كرستينا كانت تعلم أو تشك بأن الفتاة التي وجدتها مسلمة، لذلك استعانت بالشيخ لتزيل عن عاتقها عبئا لا تريد حمله بمفردها. هذه الاشارة تبقى مبطنة إلى نهاية القصة، فترسل مرة أخرى اشارة ثانية لتربط الاشارتين معا كي تجيب القارئ عن تساؤلاته. وما هدف هاتان الاشارتان وما بينهما من تطورات إلا ايصال رسالة انسانية راقية، تبغض التعصب الطائفي وتدعو للتعايش بسلام.

جو رومانسي أخّاذ

ولأن الرياح غالبا تأتي بما لا تشتهي السفن، والسعادة لا تدوم لأحد، تتعرض البطلة لمشاكل تقض مضجعها، بعدما كانت تعيش حالة من الرضا والسرور، ويبدأ صراعها النفسي ما بين الحب والتضحية فتنقلنا الكاتبة إلى جو رومانسي أخّاذ قلَّ وجوده حتى في الروايات، لكنه مدثر بكثير من الشجن والحزن، تتطور أحداثه ما بين لبنان وبعض الدول الأوروبية. يجد القارئ نفسه يتعاطف مع البطلة بشكل تلقائي ويتقمص الشخصية فيعيش معها في تخبطها النفسي والعاطفي.

ربما ينقسم القراء إلى مؤيدين ومعارضين لحالة الحب التي تقع فيها البطلة، إذ تتنافى مع القيم والمبادئ في ظل زواجها من شخص آخر، مع العلم أنها واحدة من حالات تحصل يوميا في الحياة الواقعية، لكن وجودها واقعا لا ينفي عنها تهمة الخطأ، إلا أن الكاتبة أرادت عرض هذه الظاهرة ومعالجتها باسلوبها السلس الماتع، فاستطاعت شد القارئ لتقبل الفكرة بذكاء وحنكة، وأخذته بالعاطفة والمشاعر الجياشة، وأضاءت على الجانب المظلم في حياة البطلة، الأمر الذي حجب فكرة الخيانة عن عقل القارئ، ولو بصورة مبدئية. وأصرت الكاتبة على ترسيخ هذه الفكرة لدينا فنجدها تقول: يلامس بشرتها المخملية، ويغمرها بالقبل على وجهها ويديها من غير أن يكتفي، كثوب حريري وضع على سرير ولم يمس.. إثم بريء لقد نفت بنهاية كلامها حدوث الاثم، ووصفته بالبريء، واذا أتينا لمعنى كلمة إثم فهي الوقوع في المحرم دينيا أو ارتكاب خطيئة ما، فهو إما موجود أو منفي. وقد ذكرني هذا الوصف بكتاب اللص الشريفحيث وصف الكاتب اللص بنقيضه ليلفت انتباه الناس إليه. فوجود الاثم بريئا هنا هو دهاء كاتبة اتقنت لعبة الكلام، ورمت الكرة في ملعب القارئ وتركته يخمن ويحلل ما يحلو له.

 

الصراع النفسي

تنتقل الرواية في جزئها الثاني إلى الصراع النفسي وهنا تظهر حكمة الروائية بعدما ظهرت رومانسيتها في البداية، فتختلط مشاعر تأنيب الضمير مع الحب وكأنها تصاب بفصام وجداني، ونفسي، فتتأرجح مشاعرها ما بين واجبها الزوجي وبين قلبها الذي سلب منها في مكان آخر. يحمل هذا الفصل كمًا كبيرا من الوجدان والفلسفة والحكمة، فتتجلى معالمها في حوارات متفردة بأسلوبها ومفرداتها، واللافت فيها الجزء الخيالي الذي تربط فيه صداقة البطل مع نجمة في السماء وتجعل الحوار بينهما كأنه حوار بين شخصين. الأمر الذي يساهم بجعل هذه الرواية تشبه الأساطير ولكن بواقعية أحداثها الأخرى.

أخيرا وليس آخرا أقول أن لونا أبدعت في روايتها هذه بتصوير حالة الحب المستحيل، والتضحية الكبيرة، لقد أتقنت حبكة القصة من أولها إلى آخرها، وأولت عناية خاصة بدراسة شخصيات أبطالها بتأن، فكان لكل منها دورا فعالا لم يأتِ مصادفة. جمعت الرومانسية والحكمة، والرقي الوجداني والتعايش الانساني.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *