بينَ حنايا كتاب ” حتى لا تَيبَس الأشجار” للدكتور أنطوان معلوف

Views: 136

د.  جورج شبلي

إذا قُدِّرَ للأيام أن تُواريَ السُّلطانَ ليضمحلَّ نفوذُه الى غيرِ انبِعاث، فهي لا تستطيعُ أن تجعلَ حظَّ الكتابةِ كحظِّ المَمالك. فإنْ خَبا أثَرُ المُدوَّناتِ زمناً ولو غيرَ قليل، فهذه لا تفتأُ أن تتوهَّجَ، بعدَ خُمولٍ ليس بها، لتَفيدَ منها مسيرةُ المدنيّة. 

 الدكتور أنطوان معلوف منذُ ” حتى لا تيبس الأشجار “، لا تَقَطُّعَ في شأنِ الكتابةِ معه، فهمِّتُه قَدِمَتْ عليها ولا شُحّ، فلم تُعاني الإِقتارَ معَ وَثَباتِ ذهنٍ عالَمُه نبيلٌ، هو عالَمُ الإبداعِ الذي يُبَشِّرُ الأَذواقَ بالارتعاش. أمّا في ” حتى لا تيبس الأشجار”، فصفائحُ معلوف عربونٌ للمصالحةِ بين الحياةِ والقِيَم، بُرهةُ وجدانٍ تُنتجُ فكرةً مُتجاوِزةً عن العالَم. وهي صادرةٌ عن رَجحانِ عقلٍ وجودةِ فَهمٍ ودقّةِ تمييز، سَرَحَت في كيانٍ هادئٍ رَصين، لم يصرِفِ اندلاعَ إبداعِه لتَرقيعِ حالٍ، بل للتَصَدّي المَرصوصِ للقُبحِ والجَهلِ الّلذين سَوَّدَا مُحَيّا الدنيا. فالكاتبُ يَعمدُ الى تأليبِ الفكرِ على المجتمعِ لحمايتِه، لكنّه لم يتصَدَّ للمَمسوسينَ بحَرقِ الأَعشابِ، ليُرغمَ الشياطينَ على الخروجِ من أجسادِهم وأَذهانِهم، بل مارسَ سِحراً أنزلَهُ في مقالاتٍ محفوظةٍ، ليرمِّمَ بناءَ الواقعِ حتى يغدوَ أَقلَّ حزناً وبُؤساً.

أنطوان معلوف في استعراضِهِ مشاهدَ الأمس، ذَكَّرَنا بالصحّةِ في زمنِ المرض، وبالرجاءِ في زمنِ القَسوةِ، وبالثِّقةِ في زمنِ الهَوان، وبالإيمانِ في زمنِ النَّوباتِ المَكروهة. إنّ هُبوبَه يحرّضُ قارئَه، بحُسنِ الدّيباجةِ وصافي المُتونِ، على انشراحٍ يَجري فيه مَجرى الماءِ في العود. فهو، بين المُتفَرِّدين بالفصاحةِ، أديبٌ ظريفٌ وسوسيولوجيٌّ مُتَبَيِّن، وناقدٌ جَسورٌ، وليس حَكّاءً، إنّه، فعلاً، قاماتٌ في رَجُل.

معلوف من أُلّافِ النقدِ، أقوى بواعثِ النّشاطِ الفِكريّ، تَرْكَتُهُ فيه أَنفَسُ الذّخائر، يلتقطُها الذَّوقُ كما اللُّؤلؤُ يُلقَطُ بالعَقيق. فهو، في مَجالِ الدَّرسِ والبحثِ والنّقد، أَدرَبُ من كثيرين حسبوا أنّ زهرَهم تَفَتَّحَ وضاعَ عَبَقُه، وهم من غيرِ المُستَطعِمين. (Tramadol) بين معلوف والنَّقدِ الإبداعي، عِشرةٌ حميمةٌ وأَمكنةُ أُنس، سَبكَه بإحساسٍ وحَماس، وارتفعَ به الى مَصافِ الإِتقان، فاستقلَّ مَتنَه تذكرةَ طَوافٍ فوقَ تُحَفِ الجَمال. وإذا كانت مخابئُ الدرِّ في بحرِ النَّقد، لا تُفتَحُ إلّا لِمَن يُجيدُ جميلَ الصَّيد، فمعلوف سَبقَتْه الصنّارةُ وهو يخرجُ من رَحِمِ أُمِّه.

د. أنطوان معلوف

 

لم يترك معلوف باباً من أبواب المعرفة إلّا وطرقه، فالمؤلفاتُ في لغاتِها، خيوطٌ للفكرِ العالمي، جعلَها مَماسَّةً فكريةً مُتتابَعة، فالحضاراتُ تَصطَفُّ لتقطفَ زهورَ المعارفِ من خدودِ بعضِها. من هنا، جاءَت مقالاتُ “حتى لا تيبس الأشجار” مَرجاً، كلّما تفتَّحَت زهرةٌ تَضَوَّعَ عَبَق. وهي ألواحٌ تُكوِّنُ مستودعاً يزخرُ بتقلّباتِ الحياةِ وما يدورُ فيها من أسباب، وكأنّها وساطةٌ بين لهفةِ المُصطَبِحِ ووجهِ المعرفةِ المُشرِق.

أنطوان معلوف لم يكن وافِداً حديثاً على الفنِّ المسرحيّ، ولا على الأدبِ والكتابة، إنهُ من الأوائلِ الذين وَطَّأوا الإبداعَ في  الكلمةَ، وهو القائلُ ” المجدُ للكلام”. فالشخصيّاتُ التي تناولَها، فأنطَقَها، وَصَلَت معه الحياةَ بالحياة، وخلطَت لنا طيبَها وحلاوتَها، وحفظَتِ الصحّةَ على الزَّمنِ من دونِ تَصادُم. لقد بادلَ حِبرُه الزّمنَ أمانةً، بتَصييرِ نفسِه شاهداً، لئلّا يُصبحَ الزّمنُ شهيداً.

لم تكنْ علاقةُ معلوف بِمَن نقلَ لهم، وظيفةً تأريخية، إنّها انتفاعٌ من المَأثوراتِ بِغَزوِها. فلوحاتُه التّشكيليةُ سجلٌ مُواكِبٌ لعمارةِ الزّمان العاجِقةِ بالمَناشِطِ الإنسانية، لذلك سجَّلَت انتصاراً على تَعاقُبِ الوقت، لذا، فوظيفة الكلام في نتاجِه جمالية، أكثرُ منها إِبلاغيةٌ معلومِية، وهي نَغَميةٌ مرسَلةٌ تمثِّلُ موهبةَ معلوف وإبداعاتِه في التراكيبِ ومُستَغلَقاتِ الأساليب. لذلك، فقيمةُ معلوف في نتاجِه الشَّرِس، لم تكن يوماً، ترعى الغُبار، بل هي جزءٌ من قيمةِ الخَيرِ الأدبيِّ والإنسانيّ.

 

ستارةُ معلوف في الكتاب، لم تنحَسِرْ عن خشبةٍ تُسمَعُ وتُرى، إنّما عن مواقفَ بعضُها إِعصاريٌّ لا انكسارَ وجهٍ فيه. وبالرَّغم من اعتبارِ المُسَطَّحينَ بأنّ الموقفَ الجريءَ هو أَخطَرُ مَقتلٍ في صَنعةِ الكتابة، غيرَ أنّ إِفراجَ معلوف عن آرائِه، نجحَ في أنّه أَشعرَنا بوجودِه، فرأينا شخصيةً وقفَت من المجتمعِ وقفةَ نضالٍ لاذِع، ومن الأدبِ وقفةَ عنايةٍ بهذا السِّفرِ النَّفيس.

مقالاتُه جهدٌ مبذولٌ لصيانةِ التراثِ المعرفيِّ من التَّجهيل، جعلَت نَفَسَه يَصفو ويُستَبقى لتثقيفِ الفكرِ، وتقويمِ الذّهن، وتهذيبِ الحسّ. إنّها تَلاقُحٌ بين الثقافات، أو قبائلُ أَخرجَت من طَيّاتِها بقايا عصورِ العقولِ والعواطف، أو حَفلُ استِسقاءٍ يُلتَمَسُ فيه هَلُّ غَيثِ الابتكارِ على أرضٍ له عَطشى.  في سَفَرِه المُقيمِ الى الأَعلام، وفي عُبورِه المُحَلِّقِ الى الحالاتِ ومفاتيحِ الفنون، يفكُّ رَهنَ صناعةِ القلم، ويمسكُ بِصَكِّ الإحاطةِ بشؤونِ دخائِلِه، وهو بذلك يُشكَرُ لأنه أغنى، فالأَعلامُ الذين بهرَتهم أَلوانُ الثقافةِ، فعكسوها أشعّةً في كلِّ اتّجاه، وقَضَوا حقَّ العِلم، كانوا، لولا أمثالُ معلوف، في سَخطٍ وشَقوةٍ أمامَ أيِّ فرصةٍ تُحوِّلُ مشربَهم نُضوباً وغَرسَهم ذُبولا.

الوطنيةُ في حنايا النّتاج، قولبةٌ للذهنيةِ البائسةِ التي لا تزالُ توجِّهُ سلوكَها جذورٌ انغلاقيّةٌ تحتَ رمادِ النّفوسِ والنّصوص. إنها تسلُّلٌ واعٍ الى ذواتِ المشكلاتِ والتّناقضات المُقَوِّضَةِ لتركيبِ الوطن، يسوقُه ناقدٌ سوسيولوجيٌّ رُؤيَوِيٌّ يمسكُ بوثيقةٍ ينقلُها الى أَجيالِ الأواتي منَ الأيام. فالرَّجلُ المُنَغَّصُ بإرثِ المحنة، والمُطَعَّمَةُ عُروقُه بعُروقِ الوطنية، لم يتطاوَلْ عليه البكاءُ فيرضى، ولم يبايعِ الوجعَ فيغفو، ولم تُغَوِّرِ الظّلمةُ شوقَه الى التَحَدّي، بل ضربَ ” بزنّارِهِ الجلديِّ ” خَتمةَ الجرحِ التي على زَغَل، و”رقصَ على حَدِّ السّيفِ” لكي ” نربحَ العالَمَ ولا نخسرَ أنفسَنا”.  

انطوان معلوف، يحملُ دوماً في جيبِهِ شيئاً من تُرابِ الإبداع، يشمُّه كلّما عبقَ في قلبِه حَنينٌ الى الحِبر.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *