يوميات بلا أيام

Views: 792

“يوميات بلا أيام “كتاب جديد صدر حديثًا للدكتور جوزف صايغ عن دار نلسن. تنفرد Aleph-Lam بنشر فصول الكتاب على حلقات. في ما يلي الحلقة الثانية.

 

د. جوزف صايغ

سقياً لعهد كانت فيه المنازل بيوتاً منفردة، خاصة بأصحابها، تحمل أسماءهم، قبل أن يأتي زمن الطوابق والشقق المشتركة بين نكرات.

بيتنا الثاني كان يسمّى “بيت أمّ شبل”، باسم صاحبة المُلك. كان من الحجر المنحوت، ويقوم في طابقين أعلاهما بواجهات وشرفات، وأدناهما، على العكس، ذو قناطر معقودة حجراً صلداً متيناً ونوافذ صغيرة. كنا نسكن الطابق الأرضي. لقد شاءت الظروف، وليس المصادفات، أن نقيم دائماً في الطوابق السفلى لأنّ إيجارها قليل. الطابق العلوي كانت تقطنه عائلة طيّار من سلاح الجوّ الفرنسي المتمركز في قاعدة ريّاق.

كانت والدتي تجهل الفرنسية. لكنّ الجيرة سهّلت نشوء مودّة بينها وبين الجارة الأجنبية. ربما تعود إلى محبّة الفرنسيين الشهيرة للطعام الشهيّ. فكلّما كانت روائح الطهي تتصاعد من عندنا، كانت جارتنا الفرنسية تهبط لتذوق ما في القدور، مادحةً مهارة والدتي في فنّ الطهي؛ فكانت الوالدة تزوّدها بشيء منه، مسرورة بمن يقدر التعب، خلافاً لما كنت عليه من مُجافاة للطعام. بالمقابل، كانت جارتنا تخصُّنا ببعض الهدايا الأجنبية من الشوكولا، وأصناف المعلّبات، لا سيما الخبز الفرنسيّ، الذي كنت أفضّله على مرقوق الصاج… سامحني الله. ما زلت، إلى اليوم، أحتفظ، من تلك الجارة، بكوبين صغيرين للبيرة، وللذكريات.

عن تلك الجيرة الأجنبية أذكر حادثة بقي أثرها في نفسي. كنا، ذلك الزمن، مثل جميع الزحالنة، نتموّن، من عند شْحيبَر، في فصل الصيف، القمحَ المشرقاني بالـمُدّ للشتاء؛ فتُنقّيه والدتي من الزؤان، وتُصوِّله، وتُصعده إلى سطح البيت ليجفّ في عين الشمس، ثم تنقله، على حمار إلياس الإبري الشهير، إلى طاحونة صعب القاصوف، على الصِفَّة، أو الضِفَّة، لطحنه، قبل العجن، والتخمير، والرَّقّ، والهَلّ، والخَبْز على الصاج، في الأصابيح الباكرة. كان العجين ورشة حقيقية يقومون لها في الهزيع الأخير من الليل كي “تطلع” العجنة مع طلوع الصبح، ويبدأ الخَبْز قبل أن يَحمى جانح العصفور. ذات يوم، بعدما صوّلتْ والدتي القمح، وعبّأَته في كيس جِنْفيص “قلم أحمر” إعداداً لنقله إلى السطح، صادف وصول الطيّار من ريّاق، بُعيد الظهر، للغداء. فاستثار فضوله منظر ذلك الكيس العامر، الراشح بالماء، الناهض وسْط الدار كمَنْهير مُبهم مُريب. فتوقّف مستفسراً، ثم صعد إلى البيت. وما هي إلا لحظة حتى رأيت طيارنا الأنيق، وقد خلع لباسه الكحليّ الغامق، بأزراره الذهبية، وأردانه المقصّبة، وأكتافه المنجّمة، ونزل مكشوف الرأس، دون تلك الطاقية ذات الشرائط البرّاقة، التي يتوسّط مقدَّمَها نسرٌ ذهبيّ باسط الجناحين… فشمَّر الطيار عن ساعديه، وعَتَلَ ذلك الكيس على ظهره، وتسلّق به الدرج إلى السطح، فيما والدتي، في أسفل الدرج تعترض، مُربَكة، متلعثمة، تعتذر مُمانعةً ولا تعرف ما تقول. فهوّنت عليها جارتنا الفرنسية وأفهمتها، بعربية مُتعثّرة، أنه لا يجوز أن تقوم سيدة بمثل هذا العمل بحضور رجل. فكانت الوالدة تثني على مروءة الجار، وتمتدح تمدّن هؤلاء الناس، ولياقتهم.

كانت الدنيا في لبنان ذلك الزمن اثنين: رجلاً، وامرأة. الرّجل خارج البيت، والمرأة داخله، وعلى كليهما أن يُقلِّع شوكه بيديه([1]). فأعجبني ذلك الشواذّ عن القاعدة لدى جارنا، واستنتجت أن الفرنسيين أناس مختلفون. وبدأت التخيُّلات تراودني عن ذلك العالم الذي يرتدي رجاله مثل تلك البزّة الأنيقة، ويتصرّفون هذا التصرّف اللاّئق مع السيّدات. سألت الوالدة أين تقع بلادهم، فرنسا؟ جغرافياً، بالنسبة إلى والدتي، كانت فرنسا في مكان ما من بلاد الله الواسعة، وتحديداً حيث توجد مدينة سانت إتيان، ومصانع الاسلحة الشهيرة، التي كان جدّي يتعامل معها، ويشتري منها الآلات والكاتالوغات والاسلحة لعمله.

إنطباعاتي عن منزل “إم شبل” تكاد تنحصـر في الجوهري: غرفتان، ومطبخ، وقناطر… وحادثتان.

كنتُ في الشهر الرابع من العمر عندما انتقلنا إلى ذلك البيت، ثم نَمَوْتُ، وراحت الذاكرة تمحو وتُسجِّل، في لاوعي الوجدان، أشياء تُنسى وتُستعاد على هوى ما لا يُدْرَك هواه. كانت نفسيّة ذلك الولد الوحيد، الـمُدلّل، العنيد، قد بدأت تكون ما سوف يكون أنا.

في صدد العناد، يخيّل إليَّ أن عنادي لم يكن إلا نتيجةً لاستبداد عواطفي. فقد كان إحساسي بالأشياء حادّاً، يستبدُّ بي، فأستبدُّ في رغائبي. كانت نزواتي طاغية، وكنت أضعف منها، أكاد أكون ضحيّةً لها. ذات يوم تناهى إلى سمعي صوتُ بائع جوّال ينادي “كاتو”. فأردتُ كاتو. فلمّا نزلت أمي عند رغبتي، وخرجت، كان البائع قد تجاوز منزلنا وتوارى، وطار في إثره صوابي. ووقعت الواقعة. فقامت والدتي لتوّها وصنعت قالباً من الكاتو إرضاءً لي. ولكن دون جدوى. كانت رغبتي كاتو البائع الجوّال، لا غير. فما كان من عمّتي نسطاس إلا أن حملت القالب على صينيّة، وخرجت أمام باب المنزل تنادي: “كاتو”، فمضت والدتي وأتت بقطعة قَطَعَت الشَّرّ.

حادثة ثانية أن “أمّ شبل”، صاحبةَ الـمُلك، ابتاعت لعبةً لحفيدتها، ڤكتوريا، هي كناية عن طفل من مادّة السِلِّيلوز. فما إنْ رأيتُ اللُّعبة حتى أردت مثلها. عبثاً حاولتْ أمي إقناعي بأن مثل هذه “اللُّعبة” هي للبنات لا للصبيان، إلى أن نزلتْ عند عنادي واشترت “هنري” الشّهير، الذي أصبح، مع الزمن، من أفراد العائلة؛ وهو اليوم “اللُّعبة” الوحيدة الباقية من طفولتي، تنتظم حولها صورُ ذلك العالم الطفولي، المتواري، فتعيد إلى القلب ما لم يعد. في هجرتنا أثناء الحرب اللُّبنانية، 1975، حملتُ هنري معي إلى باريس خشية أن يخطفه الخاطفون، ويصفِّيه المصفُّون على الهويّة. وهو اليوم إلى جانب مكتبي، في باريس، فوق المدفأة – حيث صورة والديَّ – ما زال يُساررني، وحوله تدور مشاعر وذكريات حميمة، هي ما بقي من الأهل والطفولة.

‏*‏

العائلة التي نبنيها، وتُسعدنا، لا تحلُّ محل العائلة التي فقدناها، وأسعدتنا. تتشابه الأشياء، ولا تتماثل المشاعر.

لو كان لي أن أُجيب، اليوم، عن سؤال: ما هي التضحية؟ لأجبتُ فوراً هي والدي بركات يوسف الصايغ. عمراً مديداً خَبِرْتُهذه الفضيلة، أو هذه النّعمة، بل هذه الموهبةَ السماوية، في والدٍ عاش عمره لغيره.

ولد بركات يوسف الصايغ في ضيعة رأس المتن، سنة 1903، بِكْرَ خمسةٍ: أخ، ديمتري، وأربع بنات. لا أعرف في أية سنة تيتَّم، لكنه، في الحادية عشـرة من العمر، عرف حرب المجاعة، والمغامرة إلى حوران سعياً وراء القمح.

في الحادية والعشرين من العمر نزح إلى زحلة، حيث كان قد تقدَّمه جدّي لوالدتي، ملحم إبراهيم الصايغ، من قرية الشوير، وعاش في كنفه، وحيث تعرّف إلى والدتي، أولغا، صغرى أولاد ملحم التسعة، فتزوَّجا سنة 1927، وراح، مذ ذاك، “يشدُّ الشيطان من ذَنبه”، في سبيل العيش، وتربية الصبيّ الوحيد الذي رُزِقه.

كان والدي صموتاً، صبوراً، كتوماً، ما سمعتُه يوماً يتذمَّر أو يتأفّف من شيء، أو يشتكي أمراً. كان على تهذيب وخفر شديدَين يكاد يكون متقشِّفاً، ضنين البوح بمشاعره، لا يطرح رأياً على أحد. همّه الأوحد العمل، وتوفير شيء من البُحبوحة للعائلة، برغم “عُسْر الحال” الدائم.

العمل: بدأه من أدناه. فهو، على ما يُقال، يعلِّق الحرف. يقرأ ويكتب الضروري، ليس إلاّ. فخلال العهد العثماني، والحرب العالمية، 1914-1918، لم تكن المدرسة رأس هموم الناس. فاشترى، أوّلَ وُفوده إلى زحلة، أُولى سيارات فورد “بودَعْسة” – ربما دَيْناً – وراح “يُشوفر” عليها، بدفتر من أوائل دفاتر قيادة السيارات رَقْمُهُ سبعة… إلى أن تعرَّف على رجل “وَجْهُهُ خير” (كما كانت تقول والدتي) يُدعى نسيب بربارة، من راشيا الوادي، في البقاع الغربي، فاقترح على والدي أن يتشاركا في ضمان بريد منطقة البقاع الغربية. وهكذا كان، فعرفنا أخيراً شيئاً نسبياً من العيش المنتظم.

كان والدي، كما ذكرتُ، نموذجاً نادراً في الاستقامة، والآدميّة، والاجتهاد، واللّسان الدافئ. التضحية سليقة فيه، وسخاء القلب واليد مَلَكَة لديه. إحساسه مرهف يَغلب عليه، فكانت الدمعة أسبق إلى عينيه من الكلمة إلى لسانه. وكانت الدنيا عنده وحيده، الذي كان ذا بنية هزيلة، نحيل الجسم، عرضة لنوبات عصبيّة تنتابه ليلاً؛ فكان شاغلُ بال الوالدين إيجادَ الطبيب الشاطر، في تلك الأربعينيات التاريخية، والعثور على العلاج الناجح، والدواء الناجع.

أما أمر تربيتي، فقد ترك لوالدتي التي كانت، برغم حبِّها الطاغي، تعنف بتهذيبي. فلكم أوثقتني إلى أحد أعمدة التخت، واتخذت من القضيب أداةً لتقويم طيشي. كانت كلُّها قَلْباً خلاصته الحب، لكنه قلب طموح، تدعمه إرادة صلبة، ذات شعور بارز بالفوارق يجعلها تستكبر بنفسها: فهي بنت ملحم الصايغ، “ونحن مش مثل كل الناس”! بالتالي، كان لا بدّ لهذا الصبيّ الكسول من أن يتحوّل تلميذاً مجتهداً. “الدّرس قبل الأكل”، “السِّمعة الحسنة قبل العافية”، كانت تُردِّد، وتضيف: “نحن لا نملك ثروةً، يا ابني، فيجب أن نملك علماً. العلم ثروةُ مَن لا ثروة لهم”. ويوم هجر معظم تلاميذ الشرقية صفوفهم، سنة 1942، إلى العمل مع الجيش البريطاني في ريّاق، وأبديتُ رغبتي في اللّحاق بهم خلاصاً من السجن المدرسي، وقفت الوالدة بسلاحها وعنادها في وجهي قائلةً: إذا لم يبقَ سوى تلميذ واحد في الصف، فستكون أنت هذا التلميذ.

اليوم، بعدما تجاوزتُ الثمانين من العمر، وبعد نصف قرن على غيابها، يصعب عليَّ استذكارها بسوى الدّموع. أحياناً أستعيد شيئاً من دفء أمومتها بإنشاد بعض الأغاني، التي كانت تُتقنها وتُغنّيها بصوتها الجميل، وتطلب إليَّ مشاركتها الغناء… ثم تروح تضحك من تقصيري في مُجاراتها.

من بعض أغانيها المفضّلة هذا المقطع من قصيدة لعلي الجارم كانت شائعة في تلك الأيام، تُطربني استعادته اليوم، هنا:

ما لي فُتنتُ بلحظكِ الفتّـــــاكِ وسَلَوْتُ كلَّ مليحةٍ إلاّكِ                 يُسراكِ قد ملكتْ زمام صبابتي، ومذلّتي، وهُدايَ في يُمناكِ
فإذا وصلْتِ فكلُّ شيءٍ باسـمٌ، وإذا هجرتِ فكلُّ شيءٍ باكِ            هذا دمي، في وجنتيكِ عرفتُـهلا تستطيع جحودَه عيناكِ
لو لم أخفْ حرَّ الهوى، ولهيبه، لجعلتُ بين جوانحي مثواكِ         إني أغار من الكؤوس فجانبيكأس المُدامة أن تقبّل 
فاكِ…إلخ

كنّا في صِغري نُمضي شهراً من فصل الصيف في قرية كفرمشكي ضيوفاً على عائلة إيليا مخايل نصرالله، مختار القرية، وصديق والدي منذ القديم. ذات يوم، وكان الوقت عصراً، كنت ووالدتي في نزهة، مع لفيف من أفراد عائلة مُضيفنا، إلى كرم لهم قريب من القرية، فنزلنا ناحية من الكرم يسمّونها “الخَلَّة”، انفرجتْ مفسحةً مكاناً تحيط به الدوالي المثقلة بعناقيد العنب البَيْتَموني، وكأنها أقراط من اللُّؤلؤ الأسود، يتغلغل النسيم بين أوراقها فيُشيع منها خشيش موسيقى خضراء، صامتة. كان الجوّ رائقاً، والمرح غامراً يستخفُّ الجميع، فطلبتْ صديقة إلى والدتي أن تُسمعهم صوتاً، فاختارت هذا المقطع المذكور من أغنيتها المفضّلة. كان الوقت ساعة عودة الصيّادة مساءً، وكانت والدتي تغنّي. فلمّا بلغتْ في الغناء البيت الرابع من القصيدة، كان على الصوت أن يرتفع في سلّم الأصوات إلى مقام عالٍ رفيع خَلَب السامعين. في هذه اللحظة خرج الصيّادة من مكامنهم، حيث كانوا قد استكانوا للسماع بصمت، وهبطوا نحونا شاهرين الجُفوت، وتقدَّم المدعوُّ فارس أبو خنجر نحو والدتي وأطلق خرتوش جفته، قائلاً “لَعْيون أمّ جوزف”، فتبعه الآخرون وراحوا يطلقون نيران أسلحتهم.

تفاصيل هذا المشهد، ووجوه الصيّادة، وأجندتهم… ما تزال ماثلةً أمام ذاكرتي، وتلك البهجة تتجاوب أصداؤها في صدري.

 


([1]) مَثَلهم في ذلك: “الرجل جَنّى والمرا بنَّى”، أي الرجل يجني، والمرأة تبني.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *