رياض شرارة… ذكاءٌ حَدْسيّ

Views: 1073

د. جورج شبلي

عندما يرمي السّاذجُ حجراً، لا يهتمُّ إلاّ بالمدى الذي يبلغُه، بينما الحاذقُ يقيمُ، بطريقةٍ ضمنيّة، حساباً لتأثيرِ الجاذبيةِ على مسيرةِ الحجر. من هنا، ينقسمُ الناسُ الى عاديّين ينقصُهم الجهدُ المنهجيّ، والى

مَن يتمتّعون بذكاءٍ حدسيٍّ أو بنفوذيّةٍ لمعطياتِ الاستفادةِ من اختباراتِهم. هؤلاءِ المتمكِّنون من الإرتقاب، سرعةُ البديهةِ لديهم ليست فكرةً غامضةً بقدرِ ما هي صورةٌ ديناميكيةٌ أو تخطيطيةٌ لِما يمكنُ خلقُه. وفي يدِ هؤلاءِ دائماً مَقبضٌ يديرُ جهازَ الدّهشةِ في الآخرين.

رياض شرارة يعرفُ كيف يتحاشى الفِخاخَ حتى ولو كانت مُخبّأةً بإتقان، وكيف يتخلّصُ من موقفٍ حَرجٍ

بعنايةٍ قبلَ أن يُطبقَ عليه، وكأنّ سلّمَ تصنيفِ المشكلاتِ عنده بين سهلةٍ وصعبةٍ لا تجمعُه به أيّةُ قرابة.

وكان لا يرجو إلاّ أن يكونَ في يدِه من الذكاءِ ما يَقتنصُ به شواردَ اللاّمألوف، فما خرجَ امتحانٌ من ميدانِه

إلاّ مُصاباً بمقتل. هو الأديبُ صاحبُ الخبرةِ في إقامةِ الصِّلةِ بمحابسِ الكلام، وهي صلةُ تَنَاجي الأرواح، والودُّ ودُّ القلوب، فلا تكلّفٌ أو مجاملة، لذا يُقرَأُ على أفواهِ منطوقاتِه التّهذيب، وعلى ضحكاتِها الطمأنينة. وكان رياض متصرِّفاً بأمرِها، فدلائلُ القدرةِ في تَناهي عقلِه وحِدّةِ فطنتِه وثاقبِ معرفتِه، كرّمَت غُرّتَها وجعلتْها تعرفُ مَبالغَ البَركةِ به، فلم ترمقْه بغيرِ نواظرِ الشّكر.

لم يكنْ جوُّ رياض شرارة إلاّ عابِقاً بالتأدّبِ والزّهدِ بمُنكَرِ الكلام، حتى غزواتُه الى الطّرائفِ التي كان يتقنُ توقيتَ إطلاقِها لتوقظَ الإضحاكَ كانت مُتعفِّفة، فقادَ بُعدُه عن الإسفافِ حِليةَ بيانِه. وإذا كنّا نعتبُ على أمرِ غيابِه، فلأنّنا نُبصرُ في حاضرِ التفسّخِ الأخلاقيِّ حيثُ الذّوقُ في أزمة، ما أصابَنا بَعدَه من رماد، ومن إضحاكٍ هابطٍ على أيدي المُستهتِرين بالإحساس، ليغدوَ المِذياعُ بلا مَلامح. كان الإضحاكُ مع رياض مُسالِماً وغدا الأسرعَ تأثيراً في الناس، ومن غيرِ إسفاف، بتعابيرِه غيرِ المُنحرفةِ والمُثقَلةِ بالظِّرف، والتي تجدُ لها موقِعاً لطيفاً في القلوبِ والحناجر، هذه التي تستولي عليها معه رفاهيةُ التّصفيقِ وحرارةُ المرح. لقد عرفَ رياض كم نحن بحاجةٍ الى الضّحكِ في المُطلق، ومع ذلك كان إضحاكُه بعيداً عن الهزلِ والسخرية، هادفاً الى التّرويحِ عن النّفوس، والى تمريرِ عِبرةٍ ذاتِ بُعدٍ إنسانيّ، وكأنّ ” موليير ” بُعِثَ وبَدَّلَ مَحَلَّ إقامتِه.

كان رياض شرارة يراعي فنونَ البديعِ بطلاقةٍ وكأنّه خطيب، ويُجَوِّدُ أدباً مَهموساً يُحيي الإبداع. لم يكن إعلاميّاً بالمفهومِ الوظيفيِّ للكلمة، بقدرِ ما كان فنّاناً مُثقَّفاً، يرسمُ صورةً عريضةً لحالِ الناس، وبأسلوبٍ يرفعُ الستارةَ بلطفٍ عمّا يختفي وراءَها من عيوب، ولكن من دون تعرية. وإذا وَجَّهَ نقداً، فنقدُه ليس عنيفاً أو محفوفاً بالألغام، لأنّه يَنتخبُ ما يعبِّرُ به عنه، فللصياغةِ عنده كفاءتُها في عبورِ الملاحظةِ من دون نفور. وفي نقداتِه شيءٌ من التنشئة، وهو الأكاديميُّ المحايدُ صاحبُ الدُربةِ في التّعليم، لأنه يعرفُ تماماً

أنّ الوسائلَ الإعلاميةَ هي مؤسّساتٌ للتوجيهِ الاجتماعيّ، وفي رأسِ أدوارِها إِكسابُ الناسِ المعاييرَ النّاظِمةَ لعلاقاتِهم ومسلكيّاتِهم، ما ينعكسُ بينهم نُضجاً وتوافقاً وتَعوُّداً على الاندماج.

لم يكن رياض نَمَطيّاً، فالتكراريّةُ هي أقتلُ الخطايا في الإطلالاتِ على الجمهور. من هنا كان يهوى “المنوّعاتِ” التي تشكّلُ موقعاً إبداعياً فريداً، وبخاصةٍ البرامجَ التي تُتيحُ تماساً مع الناس، لأنّها تَرفعُ من نصيبِ عواملِ الابتكارِ عنده وعندهم. وهو كان على يقينٍ من أنّ هذا النّوعَ التواصليَّ من البرامجِ لم يكن للإمتاعِ والترفيهِ فحسب، بل أيضاً لتوفيرِ مناخٍ مناسبٍ لاستنفارِ القدراتِ الإبداعيةِ لدى كثيرين، في زمن انحسارِ الفُرَص. والمنوّعاتُ خَيارٌ خطيرٌ لمَن لا تتملّكُه المَهارات، فتقنيّاتُها ليست مُيَسَّرةً إلّا للرّاسخين في الموهبة، ولا يعبرُ مَطبّاتِها سوى البارعين، ورياض مُلتقى الأهليةِ والتميّز. ومردُّ ذلك الى رصيدِه من الثقافةِ البانوراميّةِ التي أضعفَت له جائزتَها، فلم يواجهْ حالةَ الانكشافِ التي فضحَت غيرَه من الطّارئين على الشاشاتِ والمُصابين بمرضِ ” التّعالُم “.

ولأنّ الناسَ يُعرَفون بأساليبِهم ويتفاوتون ببيانِهم، كان لرياض شرارة طعمٌ خاصٌ في ضروبِ مُبْتَكرِه ومنقولِه، فالمرأةُ مثلاً هي المرأة، لكنها مع رياض الغَزِلِ أنضرُ منها في حضرةِ غيرِه، والنّادرةُ هي نفسُها، غيرَ أنها تَخرجُ من بين شفتيه أكثرَ لباقةً. وكما أنّ بعضَ الموسيقيّين تَفَرَّدَ بمذهبٍ يُعلنُ عن نفسِه منذُ الجملةِ اللحنيةِ الأولى، كذلك رياض لم يكن باردَ الأنفاسِ في نبراتِه ذاتِ الظِلالِ المبتسمة، فامتلكَ مفتاحاً سحريّاً في اللياقةِ الرّاقيةِ، اقترنَ إسمُه به.

رياض شرارة الخفيفُ الظِلِّ من دونِ استعلاء، والذي لم يَخدشْ حضورُه الحَياء، ما بحثَ مرةً عن النجوميّةِ، وما استعطفَ الكرسيَّ للصعودِ بلْ للنزول. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *