غسان مطر: أنا صوت صارخ أن تعالوا إلى الضوء والحقيقة

Views: 8

دارين حوماني

تفتّح وعيه السياسي على فلسطين فالتزم بها، هو شاعر القضيّة شاعر المقاومة وشاعرالنضال وهو أيوب عصره، قتلت إبنته الوحيدة بسيارة متفجرة في عبث الحرب فصار الوطن قضية شخصية. إنتخب نائباً في البرلمان النيابي لدورتين حلم فيهما بتحسين الوضع الداخلي “للدولة” ممّا تعلّمه من فكرأنطون سعاده لكن إستحالة ذلك محتّمة. ترأس إتحاد الكتّاب اللبنانيين فوجد أن حكاية الإتحاد مريرة مثل حكاية لبنان فالسياسة دخلته وأوهنته.. قصائده تختار شكلها بنفسها فهو يكتب الموزون والتفعيلة والمحكية والنثر، يكتب بكل لغات القلب لكل من يشبهه في حب وطننا وفي حب فلسطين، هو الشاعر غسان مطر الذي كان  هذا الحوار معه:

قصيدة غسان مطر تعيش القضية هناك انسجام عالٍ بينك وبين قصيدتك تكتب نصاً يشبهك لكن إلى أي مدى تفكر بالآخر عند كتابة نصوصك وهل أن صناعة الشعر تؤذيه في مكان ما؟

الآخر الذي أفكر فيه عندما أكتب قصيدتي هو أنا، أي من يشبهني في القناعات أو من أريده أن يشبهني؛ وهنا أفكر في كل الناس وأدعوهم إلى أن يكونوا مثلي في اعتناق القضيّة التي هي قضيّة المجتمع. ففلسطين التي أكتب عنها ولها هي فلسطين العرب كلّهم والمقهورين كلّهم وأهل الحقّ كلّهم. القضيّة التي نذرت نفسي وشعري لها لا تعني غسان مطر وحده، بل هي تعني مبادىء الحقّ والحريّة والكرامة الإنسانيّة ورفض الظلم والإستبداد والإحتلال والقهر، ولذا فأنا صوت يصرخ في هذا العالم أن تعالوا الى الضوء والحقيقة. أمّا الشعر فما يؤذيه هو إدّعاؤه وأدعياؤه، فالشعر الشعر يؤذي الذين ينامون غير مبالين بما حولهم من مآسٍ، ويخيف الذين يتآمرون على شعوبهم وحقوقهم. الشعر منارة تكشف الليل وعبّاده وتنير الدرب أمام المؤمنين بالحياة.

انطلاقاً من خيارك السياسي الذي اتخذته منذ تفتح وعيك السياسي ومن خيارك الشعري الملتزم بالوجع الإنساني والهمّ الوطني هل تجد أنه من مسؤولية الشاعر أن يكون حاضراً في القضايا السياسية وأن الأمر ليس خياراً بل واجباً؟

أعجب كيف يكون الإنسان إنساناً ولا يتأثّر بما يدور في أرضه ووطنه وشعبه. فعندما تُذلّنا إسرائيل كل يوم تحتلّ أرضنا وتطرد شعبنا وتسعى لتشويه صورتنا وثقافتنا وتسرق تراثنا، فهل نقف متفرّجين لا مبالين؟ الشعر لا يتعاطى السياسة بمعناها اليومي البسيط، الشعر يحوّل المسائل السياسية المصيرية الى حبر يحتاجه الإنسان في صراعه من أجل الأفضل والأجمل والأرقى. إنه سلاح بيد المتمردين على الواقع لإنقاذه ممّا فيه من خطايا إنسانية وأخلاقية. أمّا الذين يقولون أن السياسة تفسد الشعر فهؤلاء يحاولون بهذا التبسيط أن يهربوا من المواجهة إسترضاءً لكراسٍ وعروش واستدراراً لجوائز ومكافآت. أنا أقول أن لا شعر خارج الحياة وإذا قست الحياة وظلمت فصوت الشاعر هو الذي يزرع الثورة في النفوس لتهبّ مدافعة عن حقّها في الكرامة.

 

قلت يوماً لمن نكتب ولماذا نكتب..بعد خمسين عاماً من الكتابة، هل يمكن أن نقول أن هذا شعور باليأس أن لا أمل في تغيير الواقع اللبناني والعربي المشرذم؟ 

يمرّ الشاعر أحياناً بحالات من الإحباط وهذا من طبيعة النفوس الفائقة الحساسية كنفوس الشعراء، أمّا أنا فإن ضعفت لحظة فإنّي قضيت عمري راقصاً متمرداً على الواقع اللبناني والواقع العربي. كلّ شعري هو في هذا الإتجاه لكني لست يائساً لأنني لا أؤمن بأن في شعبنا من المخزون الحضاري ما يجعله قادراً دائماً على النهوض والردّ بقوة على التحديات التي تواجهه. هذا الشعب يفاجىء دوماً بقدرته على تغيير مجرى التاريخ. صحيح أن ألف سنة من الإنحطاط لا تمحى بسهولة ولكنّ هذه القناعة عندي لا تتبدّل والمحطات المضيئة في تاريخنا الحديث والتي بدّلت في المعادلات العربية والدولية خير شاهد على ذلك.

نصوصك الشعرية متنوعة بين العامودي، التفعيلة، الشعر الحر، والمحكي أين نجد شخصية الشاعر غسان مطر حاضرة أكثر وهل من صعوبة في مكان ما في اختيار شكل النص الذي يتلاءم مع الداخل الموجوع؟

عندما أباشر بالكتابة لا أختار شكل القصيدة بل هي التي تختار شكلها. فأنا لست من الذين يسعون وراء القصيدة بل أنتظر حتى تدق هي باب قلبي فأفتح لها. القصيدة تبدأ في حركتها داخل النفس كالجنين في رحم أمّه فإذا اكتمل زمن الحمل تخرج الى الضوء بملامحها الكاملة التي ليس للشاعر يد في تكوّنها، إنّها صانعة نفسها والشاعر هو القابلة التي تستقبلها وإلا فإنّ الإفتعال هو الذي يسيطر فيسقط الشعر ويتشوّه.

هل أنت خائف على الشعر في ظل الإنفلات الحاصل في الكتابة النثرية المسماة شعر؟

لا لست خائفاً فالموهوبون في بلادي كثير. كل المحاولات مبرّرة والتاريخ هو الناقد الأول والحكم الأخير. هنالك طبعاً محاولات تخريبية كثيرة ونظريات مأخوذة من الغرب لا يدرك أصحابها أهدافها الحقيقية ولكن هذه المحاولات والنظريات حين تواجه هذا المارد الرهيب الذي عمره آلاف السنين والذي هو الأصالة الشعرية، هذه المحاولات والنظريات تتهاوى ويبقى الشعر، الشعر هو الشمس التي لا تكسفها الأوهام.

في كتابه “الصراع الفكري في الأدب السوري” يكرّس أنطون سعاده دوراً للشعر ويعتبر الأدب بأنه منارة وبأن الأدب والشعر مرآة الواقع وقد كتب مقالات عديدة في نقد شعراء، كونك من متخرجّي مدرسة أنطون سعادة برأيك لماذا كان التركيز الأكبر على فكر أنطون سعاده السياسي؟

في كتابه “الصراع الفكري في الأدب السوري” وضع سعاده أسس الحداثة الشعرية من خلال نقده الشعراء تجاوزهم الزمن ومن خلال إضاءته على أن الشعر هو تجاوز وتجديد وخروج على زمن الإنحطاط. وكلّ الدراسات أو أكثرها التي تناولت الشعر العربي الحديث، ركّزت على أن أنطون سعاده هو من الأولّين الذين دعوا الى الرؤية الجديدة واللغة الجديدة وهذا أمر صار معروفاً في الدراسات الأكاديمية العليا. أمّا التركيز على الشأن السياسي في فكر أنطون سعاده أكثر من الشأن الثقافي فلأن سعاده أسّس حزباً سياسياً تغييرياً شاملاً دعا فيه الى بناء إنسان جديد ومجتمع جديد في وجه الأحزاب الطائفية والإنعزالية والإقطاع والفرديات القاتلة. ولأن سعاده واجه في دعوته هذه كل القوى السياسية المتخلفة التي حاكمته وأعدمته في ليلة واحدة، كان على المؤيدين لفكرة أن يستمروا في صراعهم لقيام نهضة حقيقية تخرج الإنسان من معتقلات التخلّف مبشرّين لفكره السياسي الجديد ورؤاه المستقبلية داعين أبناء الأمة الى تعاليمه ومبادئه.

رافقك الموت والوحدة والحزن على مدى سنين عمرك، هذه الثلاثية المؤلمة ولّدت فيك إنفجارات حياتية وشعرية، كم كان للشعر دور في إنقاذ غسان مطر من الموت؟

لا أدّعي أنني الوحيد الذي رافق الموت عمره، فأنا عندما أرى آباء وأمّهات الشهداء يشربون هذه الكأس بإعتزاز وكبر أتقوّى بمواقفهم وأنتصر على ذاتي وعلى الموت. من الطبيعي أن يحزن الإنسان على من يفقد وأن يبكي وينوح غير أن الشعوب التي منها شعبنا والتي خبزها اليومي الموت والحزن تصيح أكثر قوة في الصبر والمعاندة. لا شكّ أن الشعر كان النافذة التي منها أطللت على الحياة وعبرها تنفست وبثثت حزني وغضبي وحاولت أن أقف على قدميَ. فالشعر الذي كتبته في الموت والحزن هو في الوقت نفسه ضد الموت والحزن. قد أبقى حزيناً الى أخر يوم في عمري ولكنني لن أنحني وسأظلّ أكتب الشعر الذي يبشّر بالحياة والانتصار.

 

كنت نائباً في البرلمان اللبناني منذ العام 1992 حتى العام 2000، ماذا أضافت لك هذه التجربة وهل أخذت من “الشاعر” غسان مطر شيئاً ما؟

تجربتي في الحياة السياسية كنائب زادتني إصراراً على ما أنا مقتنع به. لقد تبدّت لي السياسة في لبنان على حقيقتها العادية واكتشفت ما كنت لا أريد أن أصدّقه من التنويعات المصلحية والطرق الملتوية في إدارة شؤون الناس. كنت أحلم بأنني أستطيع التغيير من الداخل فوجدت أنني أعجز من أن أضيف حرفاً على ما كُتب. هذه تجربتي بإختصار وإن كان الحديث فيها يمكن أن يكون طويلاً ومتعباً.

لبنان مصاب بمرض إسمه ضرورة إتقان اللغة الإنكليزية والفرنسية ومن يتحدّث بهما يرتفع الى مرتبة أعلى من المواطن العادي وهذا يتم تكريسه في المدارس، ما تقييمك لهذه الفكرة المتجذرة في الشعب اللبناني وهل تجد أن اللغة العربية في حالة إنحدار يتبعها إنحدار فكري ثقافي؟

ليس لبنان وحده مصاباً بهذه العقدة، الشعوب العربية كلّها مصابة وأنا عبّرت في أكثر من مناسبة عن خوفي على اللغة العربية من أن تفسدها هذه اللوثة وأن تقضي عليها. فإذا كان مرغوباً وضرورياً أن نهتم باللغات الأجنبية ونتقنها فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال التخلّي عن لغتنا والإنحياز الى سواه تحت أي مبرّر أو سبب. لغتنا هي هويّتنا، هي تراثنا وتاريخنا وثقافتنا وأدبنا وعلومنا، لغتنا هي نحن، بها نتباهى ونعتزّ فلماذا نخونها بهذه البساطة وبهذه الخفّة. يقولون أن لا خوف على اللغة العربية طالما أنّ القرآن الكريم هو كتاب المسلمين وأنا أقول إنّ أكثرية المسلمين ما عادوا يتقنون قراءة القرآن الكريم فكيف لا نخاف حيثما نذهب في الدول العربية وخصوصاً دول الخليج لا نسمع أحداً ينطق بالعربية. في بيوتنا في شوارعنا في مدارسنا تسود اللغات الأجنبية ومن يتكلم العربية يُنظر إليه على أنه متخلّف. هذه الدونيّة أمام اللغات الأجنبية هل هي بريئة أم مدروسة. (https://idealhealth123.com/) بلى أخاف علينا أن نصبح شعباً هجيناً لا هوية له إذا استمرت الحال على ما هي عليه الآن.

دواوينك الشعرية تجاوزت الأربعة عشر ديواناً لكنك توقفت عن كتابة الغزل منذ العام 1973 تاريخ ديوانك الرابع “لأنك تحبين هذا الشعر” ألا يحتاج الشعر للحب أحياناً؟ وألا تخاف من وضعك في قوالب معينة مرتبطة بفلسطين والقضية والقومية؟ 

توقفت عن كتابة الغزل ليس لأني لا أحب المرأة ولا يشغلني جمالها هجرت الغزل لأن الظروف التي تمرّ بها بلادي هي التي سيطرت على كل هواجسي وأحاسيسي. أصبحت أرضي هي المرأة الجريحة التي عليّ أن أداوي جروحها. الحبّ، بلى، إنه من أرقى المشاعر الإنسانية ولكنّ المرأة التي أحبّها ليست بحاجة لشعري طالما أنني أستطيع أن أعبّر لها عن شعوري مباشرة. أمّا بلادي فهي بحاجة إليّ  أكثر، هي المعذّبة والمغتصبة والمقسّمة أفلا تستحق منّي أن أكتب لها وأن أهبها كلّ ما أملك حتى الدم في عروقي. أنا لا أهتم لما يقوله الأخرون، أنا أهتم بما أنا مؤمن به، وطالما أنّ شعري يرضيني فهذا يكفيني، والآخرون أحرار في آرائهم ومواقفهم.

هجر العديد من الأدباء والشعراء المكرّسين إتحاد الكتاب اللبناني، بصفتك كنت أميناً عاماً للإتحاد هل تحدّثنا عن تجربتك والصعوبات التي تعيق عمل الإتحاد كي تتغير الصورة النمطية عن الإتحاد فيعود إليه هؤلاء الأدباء والشعراء وكي ينجز ما يجب إنجازه؟

إتحاد الكتاب اللبنانيين حكايته طويلة ومريرة. أمّا العنصران المركزيّان اللذان أدّيا الى ضمور دور الإتحاد والى اعتكاف الكثيرين من المبدعين عن العمل فيه فهما السياسة والفقر. ففي زمن الأحداث اللبنانية التي استمرّت خمسة عشر عاماً وقع إتحاد الكتّاب فريسة مآرب سياسية فأدخل إليه كثيرون ممّن لا يستحقون أن يكونوا أعضاء فيه وهذا أدّى الى ابتعاد الجديرين والقادرين وفي أثناء تولّي مسؤولية الأمانة العامة عملت مع الهيئة الإدارية على تطهير الإتحاد بمقدار ما يسمح النظامان الأساسي والداخلي وأدخلت مجموعة من العناصر الشابة الموهوبة في صفوفه وإلى إدارته. ولكنّ الفكرة التي كوّنها كثيرون عن الإتحاد ظلّت راسخة في الأذهان فلم يتبدّل شيء كما كنا نرجو.

أما الفقر فاتحاد الكتاب لا يملك مركزاً خاصاً به بل هو يشغل شقة صغيرة مستأجرة لا تتسع لأي نشاط كما أنّ ماليّته التي تتكوّن من إشتراكات الاعضاء الموسمية ومن المساعدة البخيلة لوزارة الثقافة فهي تكاد لا تكفي لتسديد إيجار الشقة وراتب موظف واحد يقوم بكل الأدوار وملاحظة المتطلبات. هذا الواقع الكئيب يجعل أيدي مسؤولي الإتحاد مغلولة وعاجزة ويمنع الإتحاد من القيام بنشاطات ثقافية على مستوى العالم العربي كما يفترض به أن يفعل. أملنا أن ينظر المسؤولون في الدولة الى الثقافة كالعنصر الأهم في حياتنا وأن يعيدوا الى الإتحاد المبالغ التي كرّست له في الموازنة كقانون، والتي شطبها أحد وزراء الثقافة بقرار منه لأن الإتحاد لا يتبع سياسياً لما يعتبره هذا الوزير العبقري الخط الصحيح الذي ينتمي إليه.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *