موريس وديع النجار، الأديب الشاعر

Views: 1044

مارلين سعاده

من عالَمِ الرياضيّاتِ يُطلُّ علينا محمَّلا بخمسةِ دواوينَ شعريَّة، آخرُها “نايٌ وسنابل”، الصادر سنة 2019؛ وستّةِ كتبٍ في النثر، من ضمنِها روايتُه “أقدار”، الصادرة سنة 2016، و”حُقُولٌ وَغِلال” 2018. 

 حائزٌ على إِجَازَةٍ فِي الرِّيَاضِيَّاتِ، التي يُدَرِّسُها في ثانوياتٍ رسميّةٍ وخاصّة.

له باعٌ طويلٌ في الشعر، وقد ذُكرَ اسمُهُ وبعضُ قصائدِه في “مَوسُوعَةُ أُدَبَاءِ لُبنَانَ وَشُعَرَائِهِ”، للدّكتور إِمِيل بَدِيع يَعْقُوب، وَمَوسُوعَةُ “شُعَرَاء لبنانَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ القَرْنِ العِشْرِين”. تُفاجئُنا قصائدُه العموديّةُ بمتانةِ لغتِها، وجمالِ معانيها، حتّى لنظنَّهُ أستاذًا متمرّسًا في اللّغةِ العربيّةِ لا في الرياضيّات؛ إذ يدركُ قواعدَ لغتِنا البديعة، ولا يَفوتُهُ شيءٌ من أصولِها. ولكنّه يُواجهُ استفهامَنا هذا مبسِّطًا الأمر، بتأكيدِهِ أنّ العديدَ من الشعراء المرموقين، كانوا، في الأساس، علماءَ أو أطبّاءَ أو مهندسين… ما لم يمنعْهُم من أن يَبْرُزوا في عالمِ الشِّعرِ والكتابة، ويَذكرُ منهم: عمر أبو ريشة، صلاح لبكي، أمين نخلة، نقولا فياض… وسواهم. متّخذًا بُرهانًا على ذلك قولَIsodore Ducasse: “الشِّعرُ هُوَ عِلمُ الهَندَسَةِ بِامتِيَاز”. مُضيفًا القول: “الشِّعرُ إِن لَم يَحكُمْهُ المَنطِقُ، وَيُؤَطِّرْهُ التَّخطِيطُ السَّلِيمُ، رُبَّما تَهاوَى في الهَلْوَسَةِ وَالهَذَيان”.

من اليمين: سهير شعلان، د. طوني الحاج، مارلين سعاده، حسن- بهروز لواساني

 

إنّه موريس وديع النجّار، المولود سنة 1945 في دارشمزِّين، قضاء الكورة – شمال لبنان. توفّيَ والدُهُ وهو لمّا يزلْ فتيًّا، ما تركَ جرحًا عميقَ الأثرِ في نفسِه، يقول: “تَمَكَّنَ الأَلَمُ مِنِّي، فَبَقِيَتْ نُدُوْبُ الجُرحِ عَمِيقَةً فِي ذَاكِرَتِي، عَصِيَّةً عِلَى مُرُورِ الأَيَّامِ، وَتَوَالِي اللَّيَالِي”.

 هو شاعرُ الوطنِ والطبيعةِ والمرأة، هذا “الثالوثُ، الأثافيُّ -وَفقَ تعبيرِه- الذي يرتكزُ عليه نتاجُه”، فلا يتوانى عن تسميتِه: “هُوِيَّتي الأدبيَّة والإنسانية”ُ. شُغِفَ باللّغة العربيّة، فأولاها اهتمامَهُ وعنايتَه، وجعلَ لها مكانًا في قلبِهِ لا يَقِلُّ أهمّيّةً وقيمةً عن موقعِ المرأةِ فيه؛ وسعى بحرصٍ دائم لتقديمِها بأبهى حُلَّة، تمامًا كما تسلّمَها ممن سبقَهُ من مبدعين، هو القائل: 

“أَمَّا أَنا فَدعانِي الحَرفُ، في وَلَهٍ،         فَما وَهَنتُ، وعِشْقُ الحَرفِ إِيثارُ”.

في قصائدِهِ رِقّةٌ، وشفافيةٌ، وسلاسةٌ، وصلابةُ بناءٍ في آن واحد، مع ما تزخرُ به من معانٍ عميقةٍ وأفكارٍ مترابطةٍ ومشاعرَ سامية، ما يجعلُ قصيدتَهُ تتألّقُ موشّاةً بأجملِ الألوانِ والتعابير، عاكسةً لنا جمالَ فكرهِ وصفاءَه ورقيَّه. ولعلَّ أكثرَ ما يميّزُ قصائدَ موريس وديع النجّار، هو أنّها تأتينا، في زمنِ أفولِ نجمِ القصيدةِ العموديّة، كآخرِ عنقودٍ في تشرين، فتُمتعُنا، ونتمنّى أن نستزيد.

الشاعر موريس وديع النجار والشاعرة د. يسرى بيطار

 

حولَ الشعرِ العموديّ يقول: أَنا شَخصِيًّا أَرتاحُ إلى الوَزنِ وَالقافِيَةِ، وَلَم أَجِدْ فِيهِما يَومًا أَيَّ عائِقٍ في التَّعبِيرِ عَن أَفكارِي. كَما إِنَّني أَتَمَسَّكُ بِمُوسِيقَى الشِّعرِ الَّتِي تَتَأَمَّنُ بِهِما. وفي الوَقتِ نَفسِهِ فَإِنَّني أَسكَرُ مِنَ النَّثرِ الفَنِّيِّ الجَمِيلِ أَكثَرَ مِن سُكْرِي بِالشِّعر.”

اللغةُ عندَهُ مقدّسَةٌ، وكذلك قواعدُها، يلتزمُ بها من دونِ مَشقّة، فتأتي مُتَجلببةً بعباءةٍ برّاقة، يسحَرُكَ انسجامُ ألوانِها، وجمالُ ترصيعِه لمعانيها، منتقيًا مفرداتِهِ بدقّةٍ، لا تُرْبكُ لغتَه ولا تُعَوِّصُها، وإنّما تنسابُ متناغمةً، منزّهةً عن كلِّ خطأ، نقيّةً بيضاء، تعكسُ جمالَ روحِ قائلِها، وذائقَتَه الرفيعة، متأثّرًا مَن سبَقَهُ من كبارِ الشعراء، من دونِ أن يكونَ مقلّدًا؛ وقد عَبّرَ عن موقفِهِ من اللّغة، على موقع “ثقافيّات”، في حوارٍ أجرتْهُ معه الإعلاميّة كلود أبو شقرا، سنة 2016، حيث قال: “لا أَنتَمِي إِلى مَدرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بل أَكتُبُ بِالطَّرِيقَةِ الَّتي تَرتاحُ إِلَيها نَفسِي”.

 

للمرأةِ تأثيرٌ كبيرٌ في حياة النجّار، ولعلّنا نجدُ تأكيدًا على دورِها المُلهِمِ له، في كلماتِه -في المكانِ نفسه- حيث أجابَ ردًّا على تساؤلِ السيّدة أبو شقرا عن سببِ تأثيرِها الطَّاغي في شعرِه، قائلا: “البَشاعاتُ الَّتي تَلُفُّنا، والهُمُومُ الَّتي تُلازِمُنا… مُجالَدَتُها تكونُ في كلِّ مُتَنَفَّسٍ جَمالِيٍّ، والمرأةُ هي في صَدرِ رُكنِهِ، وهي، متى أَلقَت دلالَها، فليسَ لِقلبٍ أن يُمانِعَ، ولا لِقافِيَةٍ إلَّا أَن تَنبَجِسَ كالنَّبعِ الَّذي يَشُقُّ أَدِيمَ الأَرضِ ثُمَّ يَكسُوهُ بِالزَّهرِ والثَّمَرِ والاخضِلال…”.

لم يدخلْ موريس وديع النجار دائرةَ العالمِ التواصليّ كغيرِه من الشعراء، إنّما بقيَ على مسافةٍ منها، مُكتفيًا بإطلالاتٍ محدودةٍ من خلالِ الصّفحاتِ الثقافيّةِ فيها وفي الجرائدِ والمجلّات. ولكنَّ ذلك لا يعني أنّه أغفلَ ما لعالمِ التواصلِ والتطوّرِ الإلكترونيّ من أهميّةٍ، وخصائصَ إيجابيّة، وفي الوقتِ عينِه، مِن نتائجَ سلبيّةٍ على لغتنِا، بدءًا من إدخالِ الحرفِ اللاتيني إلى الجُمَل، وصولًا إلى استخدامِ الكلماتِ العامّيّةِ ذاتِ الطابَع ِالمحلّيِّ الضيّق.

 

لذلك، شدّدَ على إنقاذِ اللغة، متوجّهًا بدعوةٍ إلى مجامعِ اللغةِ العربيّة، كي تشكّلَ فريقًا، هدفُهُ بحثُ موضوعِ تبسيطِ قواعدِ اللّغة، بحيثُ تواكبُ العصر، فيتمكّنَ الجيلُ الجديدُ من فهمِها واستيعابِها، وذلك من خلالِ كتابٍ موحَّدٍ يُسهّلُ على الطالبِ فهمَ لغتِهِ وكيفيّةَ استخدامِها. كما أشار النجّار إلى أهميّةِ المطالعةِ وتحفيزِ النشءِ عليها، واعتمادِ أساتذةٍ للصفوفِ الابتدائيةِ والتكميليّة، متخصّصين في اللّغةِ العربيّة. من جهةٍ ثانيةٍ دعا الى مواكبةِ العصرِ والانفتاحِ على اللغاتِ الأخرى بقبولِ المصطلحاتِ العلميّةِ الجديدة، واعتمادِها، لأنَّ اللغةَ كائنٌ حيّ، ينمو ويتطوّرُ مع تطوُّرِ الحياة. 

للشاعر موريس وديع النجّار طقوسٌ وأجواء خاصّةٌ بالكتابة، (أوّلُها العزلة، وليس آخرَها فنجانُ القهوةِ)؛ فلا بدَّ من توفُّرِ هذه الأجواءِ حين تنتابُهُ الرّغبةُ في الكتابة، لينجحَ عملُه. وهو تآخى مع اللغةِ وآلفها، حتى باتَ يعيشُ حالاتِ اندماجٍ مع الكتابة، على أنواعِها، منَ الشعرِ إلى النثرِ إلى التحليلِ إلى الرواية… ولكلٍّ منها عندَهُ تقليدُها، ومسارُها الخاصّ.

 

موريس وديع النجار، أستاذٌ واسعُ الثقافة، يُحيلُكَ في كلِّ ما يتحدّثُ عنه إلى مراجعَ وشواهد، يستخدمُها أمثلةً دامغةً على ما يقول، تماشيًا مع اختصاصِهِ في الرياضيّات، القائمِ أساسًا على علمِ المنطقِ في النظرِ إلى الأمور، ومقاربتِها استنادًا إلى البرهانِ والحُجَّة. 

الشِّعرُ، بالنسبة له، يحتاجُ إلى اَلفاظٍ تكون “بِمُستَوًى لائِقٍ بِهِ، يَجِبُ السَّهَرُ، وَالتَّعَبُ، وَالكَدُّ” كما يقول؛ مؤيّدًا بذلك قول بُول ﭭالِيرِي: “إِذا آمَنَ الشَّاعِرُ بِالوَحيِ قَتَلَ الإِبداع”، فبرأيِه “الصِّناعَةُ المَدرُوسَةُ مَطلُوبَةٌ لِلخَلقِ الإِبداعِيِّ”.

وعن الحداثة يقول: “الحَداثَةُ لا تَعنِي كُلَّ جَدِيدٍ، بَل تَعنِي مِنَ الجَدِيدِ ما يَرتَبِطُ بِتَطَوُّرِ الإِنسانِ، وَتَحَقُّقِ مُثُلِهِ العُليَا مِن حُرِّيَّةٍ، وَحَقٍّ، وَعَدلٍ، وَجَمال”، وإن كانَ مِنَ التراثِ القديم. مُشيرًا، في الوقتِ عينِه، أن ليسَ كلُّ جديدٍ حديثًا…

جعبةُ الشاعرِ موريس وديع النجّار مثقلةٌ بعيونِ الشّعرِ الأصيل، غنيّةٌ بثمارِ الوفاءِ للوطنِ والطبيعة والحبيبة. كلّنا شوق للاستماع إليها والاستمتاع بها، فجُد شاعرَنا بجميلِ عطاياك في هذه الأمسية.

***

(*) ألقيت خلال الأمسية الشعرية التي أحيتها الرابطة الثقافية- رعية مار مارون – البوشرية مساء  الأربعاء 2/ 10/ 2019 وشارك فيها الشاعران موريس وديع النجار (قدمته أمينة سر الرابطة الأديبة مارلين سعاده) ود. يسرى بيطار (قدمتها الأستاذة سهير شعلان).  تخللها كلمة ترحيبية لرئيس الرابطة الثقافية د. طوني الحاج، وأدار اللقاء الفنان حسن- بهروز لواساني.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *