عبد الرحيم غالب… لم يقل كلمتَهُ بعدُ

Views: 25

د. جان توما

يلتفتُ صلاحُ الدين إلى الآتي من التاريخ، يحدِّقُ فيه بعينٍ ثاقبةٍ فيرى أنَّ لا غالبَ إلّا الله وأنّه عبدٌ للرحيمِ إنْ مَرَّ في دنياه مسجلاً أَثَرًا مُبْدِعًا وتاريخًا متميّزًا. أيكون ُالفنانُ قائدًا في مِيدانِهِ؟ أيرسُمُ مُدُنَهُ وتضاريسَ بلادِهِ وَسحَابَ وطنِهِ من خيالٍ لا يملكُهُ كثيرونَ؟

ما هذه القطعةُ الخشبيةُ التي ترتاحُ عليها بِقَعُ الألوانِ وفجأة تدبٌّ الحياةُ وتختلطُ الفصولُ وتتحوّلُ الخشبيةُ الهامدةُ إلى نَبَضٍ وأسنانُ الفُرشاةِ إلى شرايينْ؟ من غيرُ الفنانِ يعرفُ قيمةَ الحياةِ؟ من إيمانِهِ يأتي، من ذاكَ العُلى يُبْحِرُ الفنانُ في مشاعرِ الخيال. لكأنَّ عبقرَ يُشُّدُ الرِّحالَ إلى مطارحِ الجمالْ ومعارجِ الخيالْ. (https://chacc.co.uk)

 

من أين يأتي عبد الرحيم غالب بهذه الخيالات؟ ما هي قارورةُ العطرِ التي يسكبها في لوحاتِهِ أو حروفياتِهِ أو ذاك التشكيلُ الذي إنْ حكى لربّما قال: جئتُ من تلكَ الأزقةِ البحريّةِ في ميناء الألوانِ، عند الشاطىء المكسورِ قبل أن يأخذَه الغمامُ إلى حيث الرقّةُ والماءُ والشكلُ الحسن، إلى حيث يؤسس الفنان طبيعتَهُ ووديانَهُ وتلالَهُ ووجهَ من يُحبّ.

حين جمعَ عبد الرحيم غالب أشياءَهُ الصغيرةَ في حقيبةِ السفرِ وسكبَ في عينيِه موجَ مدينتِهِ ورشَّ ألوانَ غروبِ مينائِهِ على ذكرياتِهِ المشغولةِ شالًا على كتفيهِ وعطرًا في ليلِ الرحيلِ بماذا فكّرَ؟ بماذا حَلُمَ؟ وماذا كانت أمنياتُهُ في مساءِ ذلكِ الرحيلِ الكبيرِ؟ ألعلَّ الفنانَ يَدخُلُ لوحاتِهِ وحروفياتِهِ ويمضي إلى تلك العوالم التي ينكسرُ فيها الحرفُ ولا ينكسرْ، يتلوّى ولا يتلوّى، إلى حيثُ يصيرُ العمرُ أبحديةً جديدةً فيها من العتاقةِ والحداثةِ ما يجعلُك على حافةِ الإبداع لتمضيَ إلى المنتهى.

 

الأخوان غالب كالأخوين رحباني، أتيا من تلك الأحياءِ التي فيها الأحياءُ البسطاء القائمونَ على الوداعةِ ولو تعقّدت الأحرف بين يدي عبد الرحيم وتشابكَتْ. اكتشف عبد الرحيم في تلاقي الأحرف أبجدية واحدةً واضحةَ المعالمِ ذهب إليها بالبصيرةِ فيما نحن إلى البصرِ ماضون. نحن نَفْرُكُ العينَ لنرى فيما هو يَعْصُرُ القلبَ ترجمةَ مشاعرَ وألوانٍ.

سمعتُ عنهُ أنّه طرّق أنواع الفنونِ وتعاملَ مع الموادِ الأوّليّةِ فكانَ الجمالُ على مستوى ما أراد، وإن لم يكٌ قد قال كلمتَهُ بعدُ، إذ لن تكفِيَهُ ريشةٌ ولا نحاسيّةٌ ولا حروفيَّةٌ للتعبير عن هذا الوجعِ الذي يحملُهُ الفنانُ أو عن الفرحِ الذي يبحثُ عنه. وحدَهُ المبدعُ يأخذُ معه مِظلَّةً ليتقيَ المطرَ بعد صلاةِ الاستسقاءِ لإيمانِهِ بأنَّ الخيرَ آتٍ وأنّ العالمَ مهما قسا ستنتصرُ على قساوتِهِ الألوانُ وتعاريجُ النحاسِ وتمايلُ الأحرفِ.

عبد الرحيم غالب نحن المكرَّمونَ اليوم بوجودِك بيننا، ولعلَّ الأمير هاشم يعرفُ أنَّ الإماراتِ تختارُ أمراءَها، فأهلًا بك أميرَ النقشِ والتشكيلِ، دارسَ العمارةِ الإسلامية في دارة الأمراءِ، في ديوانٍ يَعُجُّ بالمحبّين لعلّنا بحروفيتِكَ نصيرُ أبجديةً واحدةً متكاملةً في حضرةِ القاضي الفاضلِ في ديوانِ الأدبِ والعلمِ والمعرفةِ.

والسلام

***

(*) كلمة الدكتور جان توما في حفل تكريم الفنان الرّسام والنّحات عبد الرحيم غالب في ديوان القاضي الفاضل، مركز صلاح الدين للثقافة والإنماء، الخيمس 3 تشرين الأول 2019.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *