بَيْروت عَبْرَ الرِّوائيِّ العربيِّ “ياسين رفاعيَّة” وَبِهِ

Views: 874

د.  وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

 لئن وُلِدَ الروائيُّ العربيُّ الكبيرُ، ياسين رفاعيَّة، في مدينة “دمشق” سنة 1934، ومنها بدأ حياته خبَّازاً وعاملاً في مصنع للنَّسيج ومن ثمَّ صحفيَّاً ومحرِّراً أدبيَّاً وتالياً كاتباً روائيَّاً؛ فإنَّه، من جهة أخرى، ظلَّ يعيشُ في مدينة “بيروت”، منذ منتصف ستينات القرن العشرين، إلى أنْ وافته المنيَّة في هذه المدينة سنة 2016. وفي “بيروت”، تحديداً، وضع ياسين معظم أعماله الرِّوائيَّة وقصائده الشِّعريَّة[1]؛ إذ هذه المدينة وحدها أضحت له، من دون سواها من المدنِ، الملاذَ الشَّخصيَّ والموئلَ الرُّوحيَّ ومسرحَ الحبِّ وساحةَ العطاءِ الأدبيِّ ومدخلَ معاناةِ الإبداعِ ومُستقرَّ النِّهاية الجسديَّة.

ليس ياسين رفاعيَّة وحيداً، بين الأدباء والمثقَّفين والسِّياسيين العرب الذين غادروا أقطارهم العربيَّة ليكونوا نبض حياةٍ في “بيروت” ولها طيلة عقود من الزَّمن، في هذه التَّجربة من الالتصاق بـ”بيروت” حتَّى ثمالةِ ما في العيش من وجودٍ وعطاءٍ وفناءٍ. أحمد الصَّافي النَّجفي، وفد من “النَّجف” الشَّريف إلى “بيروت”، وأطال الإقامةَ والإبداعَ فيها؛ ونزار قبَّاني، هلَّ على “بيروت” من “دمشق”، وعشق “بيروت” كما عشقه ناس الدُّنيا من خلال وجوده فيها؛ وبدر شاكر السيَّاب وعبد الوهاب البيَّاتي وبَلَند الحيدري ومُظفَّر النَّوَّاب وسواهم، كانت “بيروت” لهم المُتَنَفَّسَ الإبداعيِّ والثَّقافيِّ الحرِّ الذي لا ينضب.

السِّرُّ، في هذه الـ”بيروت”، ليس بسرٍّ؛ وجوهرُ جذبها لكلِّ هؤلاء، ليس بمعادلةٍ رياضيَّةٍ صعبةٍ على الإطلاق. وإنَّ كلَّ من بحثوا في هذا الأمر وصلوا إلى خلاصة واضحة جليَّة تقول إنَّ “بيروت” قَبِلَت الجميعَ وحضنت الجميعَ وتفاعلت مع الجميعِ؛ فَرَضِيَت ورَفَضَت وقَوَّمَت وغَيَّرت. والجميعُ يؤكِّد أنَّ كلَّ هذا، لم يَكُن ولا يُمكنُ أن يتحقَّقَ، لولا هذه القابليَّةُ المتميِّزة لدى “بيروت” في حيويَّة حريَّة الفِعلِ والتَّفاعلِ والانفعالِ مع الآخر.

أحاولُ أن أقرأَ هذه التَّجربة مع “بيروت” وفيها، من خلال ياسين رفاعيَّة؛ فأجِدُ أنَّ الكتابة لم تكن عنده مُجَرَّدَ وسيلةِ إسترزاقٍ أو مسرحاً لعرضِ الإبداعِ الشَّخصيِّ أو هوايةً تُزْجي بها أوقاتُ الفراغِ؛ الكتابة، عند رفاعيَّة، هي العَيْشُ بذاتِهِ؛ وخارجُ هذه الكتابةُ لا وجود سوى للموت.

الروائيُّ ياسين رفاعيَّة

 

 

ياسين رفاعيَّة واقعيُّ الرِّوايةِ حتَّى الصَّميم؛ وهذا يظهرُ جليَّاً في منهج روائيَّته منذ بداياته الأولى، حين مارس السَّرد للمرَّة الأولى ربما. تَذْكُرُ إحدى الدِّراساتُ أنَّ ياسيناً لم يكن بحاجةٍ إلى ابتكارِ عالمٍ مُتَخَيَّلٍ للدُّخول إلى دنيا الرِّواية حين وجد ضالّته أوَّلاً في يوميَّات ماسِحِ أحذيةٍ يعرفه عن قرب، فكتب قصَّة عنه وأرسلها إلى مسابقة كانت قد أَعلنت عنها مجلة «أهل النّفط» في بغداد. 

يؤكِّدُ رفاعيَّة، في مقابلة صحافيَّة، أنَّه منذ أن استقرَّ في “بيروت”، في منتصف ستِّينات القرن العشرين، “لم يتردَّد في تغذية عوالمه السَّرديَّة باعترافاتٍ جريئةٍ، نابشاً مناطق سِرِيَّة في حياته، من دون أقنعة”. وكانلـ”الحرب الأهليَّة في لبنان”، إن جاز مثل هذا التَّعبير، في سبعينيات القرن العشرين، أن تقوده  إلى الرِّواية، فعاش وقائعهذه “الحرب” عن كَثْبٍ؛ وكان عيشه لها عبر روايته “الممر” (1978)،كما ذُكِرَ في إحدى الدِّراسات، وثيقةً في نفض الغبار عن تلك الحرب الطَّاحنة. وكان أن  استكمل، ياسين،جوانب أخرى من هذه الحرب، في ثلاث روايات لاحقة هي “رأس بيروت” و”امرأة غامضة” و”دماء بالألوان”.

ولعل مِمَّا قد يشرحُ بعضَ هذا التَّفاعلِ الواقعيِّ مع فاعليَّةِ السَّردِ عند ياسين، أنَّه ذُكِرَ في إحدى المقالات الصَّحفيَّة التي صدرت مؤخَّراً، أنْ “ليس الهَوَسُ بكتابة الرِّوايات والقصص (13 رواية منشورة لغاية الآن، عدا القصص القصيرة والمجموعة الشعرية وروايتين لم تُنشرا بعد)، مجرَّد اكتظاظٍ فنّيٍّ وسيولةٍ أدبيَّةٍ عند الرِّوائيِّ السُّوريِّ ياسين رفاعية؛ بل إنّها الكتابة المتواصلة التي تُنقذه من الجنون والانتحار”.

إذا ما كان ياسين رفاعيَّة لا يكتب إلاَّ ليستمرَّ نَسْغُ الحياةِ دفَّاقاً في شرايين وجوده، وإذا كان ياسين رفاعيَّة لم يستطع أن يكون هذا الكاتبَ الذي نعرف إلاَّ في “بيروت”؛ فإنَّ في هذه التَّجربة لياسين ما يشهد لحقيقة “بيروت” التي جذبته إلى سحرها وجذبت قبله، كلَّ تلك الكوكبة من الشُّعراء والكُتَّاب والمثقَّفين والسِّياسين العرب، الذين عاشوا فيها وبها إبداعاتهم وعطاءاتهم والبصمات الكبرى التي تركوها على مسيرة الوجود العربيِّ المعاصر.

“بيروت” شكَّلَت صدىً لما في نفس ياسين رفاعيَّة وتلك الكوكبة من الكبار الكبار؛ “بيروت” كانت تقبل بهم كما هم، بكلِّ تفاصيل سِيَرِهِم الذَّاتيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، وبكلِّ ما في هذه السِّيَرِ من  تناقضات وتباينات ومعمَّيات. “بيروت” كانت تقول لهم، عبر صُحفها ودور نشرها ومقاهيها ومجالسها العامَّة والخاصَّة إنَّكم هنا لتعيشوا ما عندكم، بكلِّ ما هو فيكم؛ وإنَّ “بيروت” تعرف حقَّاً كيف تستخرج من كلِّ هذا، بكلِّ ما فيه، كلَّ خيرٍ لها وللبنان وللوطن العربيِّ وللأمَّة، أيَّاً كانت، بل وللإنسانيَّة أينما كانت.

أخشى أنَّ رواد هذه الكوكبة، وقد غادروا “بيروت” وهذه الدُّنيا، لن يجدوا من ياسين رفاعيَّة، وهو آخرهم في مغادرة “بيروت” اليوم، ما قد يشجِّعهم على دعوة من هم مِنْ أمثالهم في الزَّمن الحاليِّ، إلى معاودة منهج تجربتهم في “بيروت”. “بيروت” التي أصبحت في خطرٍ مُحيقِ يُنذر بعدم قبولها للآخر، ويُشير إلى عدم قدرتها على الاعتراف بالمختلف والمتباين. “بيروت” التي تهتزُّ فيها عروش حريَّة الفكر والتَّعبير برعبٍ قاتل وبرودة مخزية وجهلٍ مظلم.

تُرى، هل بدأنا نقول، وداعاً يا “بيروتنا” الجميلة المعطاء القادرة على الاستيعاب والبذل وحسن الاستنتاج وتوجيه البناء؛ أم أنَّنا سندرك أنَّ “بيروت” لن تكون إلاَّ تلك المقبلة على كلِّ تناقضات هؤلاء وأمثالهم والقادرة، بالحريَّة ونبذ الواحديَّة، على استخراج كلِّ ما يقود إلى نهضة ناسها والوطن والأمة والإنسانيَّة؟

 تحيَّةٌ إلى ياسين رفاعيَّة، وتحيَّةٌ إلى “بيروت” ياسين رفاعيَّة.

***

[1]– من أبرز أعماله:

1-الحزن في كل مكان- قصص- ط1- دمشق 1960- ط2- بيروت 1982.

2-جراح- رسائل حب بوح- شعر دمشق 1961.

3-العالم يغرق- قصص- ط1 دمشق 1963- ط2 – دار النهار- بيروت 1977.

4- العصافير – 3 طبعات، بيروت 79-83.

5-لغة الحب- شعر- ط1 دار النهار – بيروت- ط2- المؤسسة العربية للدراسات 1983.

6-الممر- رواية- ط1-دمشق 1978- ط2-بيروت 1983 ترجمت إلى الانكليزية.

7-أنت الحبيبة وأنا العاشق- شعر- ط1 بيروت 1978 -ط2 – دار الخيال- بيروت 1996.

8-العصافير تبحث عن وطن- قصص للأطفال- بيروت 1979.

9-الرجال الخطرون- قصص- بيروت 1979.

10-الورود الصغيرة- قصص للأطفال- بيروت 1980-1983.

11-مصرع الماس- رواية- ط2. الهيئة العامة المصرية للكتاب- القاهرة ترجمت إلى الانكليزية.

12-نهر حنان- قصص- بيروت 1983.

13-رفاق سبقوا- ذكريات-دار رياض الريس للنشر- لندن- 1989.

14-دماء بالألوان- رواية- الهيئة العامة المصرية للكتاب. القاهرة 1988.

15-رأس بيروت- رواية- باريس. دار المتنبي 1992.

16-وردة الأفق- رواية- لندن.دار هالرلكن 1985.

17-الحصاة- قصص-.- تونس- الدار العربية للكتاب 1990.

18-امرأة غامضة- القاهرة- دار سعاد الصباح. رواية- 1993.

19- حب شديد اللهجة- شعر – دار الفاضل- دمشق- 1994.

20- كل لقاء بك وداع – شعر – دار الفاضل- دمشق- 1994.

21- أُحبك وبالعكس أُحبك- شعر – دار الفاضل- دمشق- 1994.

22- معمر القذافي وقدر الوحدة العربية- بيروت- دار العودة- 1973.

23- أسرار النرجس (رواية) 1998.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *