يوميّات بلا أيام

Views: 404

“يوميات بلا أيام “كتاب جديد صدر حديثًا للدكتور جوزف صايغ عن دار نلسن. تنفرد Aleph-Lam بنشر فصول الكتاب على حلقات. في ما يلي الحلقة الرابعة.

 

د. جوزف صايغ

 كان معروفاً عني بين الرفاق أني فبركة مشاريع “هوائية” لا تصبُّ في أية منفعة. فكان أحدهم، نعمة عاصي، يردّد “لا نريد مشاريع هوائية مثل مشاريع الصايغ”. من هذه المشاريع فكرة إذاعة داخلية تبثُّ موسيقى كلاسيكية لِبَرْدَخة الخام من أخلاق الزحالنة. كنت مولعاً بالموسيقى، درستها خلال سنتين في اليسوعية على يد الأستاذ رشيد كريديّة، الكمنجاتي، تلتها سنة كاملة مع إحدى الراهبات المتخصّصة في البيانو. راقت فكرة الإذاعة للرفاق، وتحمّسوا لها، فكان ما سمّيناه “مشروع الفرنك”. طَبَعْنا دفاترَ قيمة،كلُّ ورقة فيها فرنك واحد، توزّعناها بيننا ورحنا، بحماسة، نطوف المدينة لبيعها. كم كانت فرحتنا ودهشتنا عظيمتين عندما انتهينا إلى مبلغ مشجّع من المال عرضناه على الأب إبراهيم الرياشي، مدير الدروس في تلك الفترة. الأب ابراهيم الرياشي كان رجلاً طويل القامة، نحيلها، مرهف الإحساس، دمث الطباع، رقيق المشاعر، تميّز بذوق إستتيكي وذائقة موسيقية. تحمّس لمشروعنا ووعد بالمساهمة فيه. هكذا أُنجزَت الإذاعة الداخلية في الكلية الشرقية، وكانت الأولى من نوعها في لبنان على ظنّي.

تولّى الأب المدير السّهر على إذاعتنا – إذاعته – بشغفٍ، وكمهنيّ خبير. فلم يكن يفوته جديد من الاسطوانات الوافدة حديثاً إلى محلات شاهين في بيروت. هكذا ألِفْنا سماع كبار الموسيقيين، وباتت الموسيقى الكلاسيكية جزءاً من ثقافتنا ومن حياتنا. إلى ذلك، صادف – لحظِّنا – وجود الأستاذ خليل صابر، وهو رجل موهوب شعرياً وفكرياً وجمالياً، تولّى تعليمنا في الصفّ الثالث، ثم سعيد عقل بعده في الصفّ الثاني – أول بكلوريا- فلم يكن لنا مَفَرٌّ من تلك الفبركة الشعرية- الجمالية.

‏*‏

سعيد عقل لم يُعلّمنا الشعر. علّمنا البرنامج، العصر الأموي([1]). لكنّه أسمعنا وذوّقنا شعره دون أن يطلعنا على اللّعبة: أسرار العَروض، البديع، البيان، البلاغة، المحسِّنات… بحيث كنّا نظنّ الشعر إغراقاً في التصوُّر، وتقعُّراً في المفردات حتى الغرابة. وبقينا لا نعرف مقوّمات الجمال – الشاعرية – في ذلك الشعر. لم يذكر لنا سعيد عقل شاعراً عربياً واحداً، ولا حتّى فرنسياً، كنموذج نقرأه. ردّد على أسماعنا أسماء ناثرين أمثال بيار اوباك Ubacفي كتابه عن قرطاجة، إميل لودڤيك في جزئيه القيّمين عن “البحر المتوسط”، ألكسي كاريل في “الإنسان، ذلك المجهول”… لم يأتِ مرّة على ذكر ڤاليري، أستاذه، أو سواه من شعرائه المفضَّلين. من لبنان، لم يكن يذكر غير أمين نخلة، وعنترة، منالقدماء، لسموّ قيمه الأخلاقية. وربما لكون أمّه حبشية مسيحية!

أذكر، يوم وصلتْ زوجتي للمرة الأولى إلى زحلة – إلى “الحارة” – واطَّلعت على محيط نشأتي، علّقت بقولها: “يا مسكين! مَنْ يخرج من مثل هذا الثُّقب بالكاد يصل إلى بيروت. فكيف وصلت أنت إلى باريس؟”

كانت تجهل أن ذلك “الثُّقب” قد أطلع جيلاً من أفذاذ الرجال، الذين أحرزوا صيتاً عريضاً، في لبنان، والعالم.

لم أكن في حياتي مدعاة سرور لأحد. خصوصاً للذين أحبّوني وأولَوني عطفهم: الأهل، الأصدقاء… حتى النساء اللواتي أغرمتُ بهنّ. كنت في ذهول عن كلّ شيء، إلا الشِّعر. إنحراف، غرقٌ تامٌّ في الذات، أنانية شبه غريزية، هوس وحيد: الجمال. كلّ ذلك سرعان ما تحوّل، غفلةً، كُرْهاً للذات، حقداً على النفس. تَبكيتُ الضمير، والنّدم، تحوّلا عقاباً، وشتائم أكيلها لنفسي، أفتتح بها يقظتي الصباحية! من ثمّ أتساءل عن سبب للشَّتيمة فلا أجد، فأشتم عدم وجود السبب، وأُجيِّر الشتيمة لنفسي.

لا ريب أنَّ نجاحي في الدروس، فيما بعد، وفوزي في بعض المباريات بين تلاميذ المدارس في لبنان، قد أدخلا شيئاً من العزاء، وربما الاعتزاز، على قلب الوالدَين. لكنّ غيبتي الأولى في باريس حطّمت ذلك القلب. كانا يقطعان اللّقمة عنهما ليرسلا إليّ القليل الذي يدّخرانه. كنت قد سافرت دون أية مساعدة مالية، غير مبلغ زهيد كسبتُه بالدروس الخصوصيّة لبعض التلاميذ خلال عطلة الصيف.

سافرتُ لشهر، فكانت سنةً، والسنة عمراً.

 أثمن ما ورثته عن أهلي أنه لم يكن في محتدي ما أخجل به أمام الناس، أو ما يخوِّلني الاستعلاء به عليهم. كانت ثروتنا الماديّة من التواضع بحيث حفزتني للاستعاضة عنها بما قيل لي إنه الثروة الحقيقية: العِلم. كان العلم هاجساً لدى والدتي، وعملية غسل دفاع تمارسها عليّ، حتى سلّمتُ أخيراً بأن المدرسة هي الحلّ، أحقِّق بثروتها التوازن السليم بين المفقود والمطلوب. كان همّي، فيما بعد، ألاّ يقف أولادي يوماً ما أمام منزلنا فيُشعرهم بِصِغَرٍ، بل يشعرون باعتزاز أمام ضريحي، فيضعون عليه زهرةً تميّزه، بدلاً من لامبالاة تطمس معالمه.

لقد أَفْضَلَ والداي عليَّ بفيض من الحبّ ما وَفَّيتُهما بعضه. وأنعَمَتْ عليَّ الحياةُ بسخاء ما تساخيت ببعضه على مَن يجب. ومنحتني الظروف نصيباً من الحظّ ما عرفتُ اغتنامه. لا أعرف بماذا كنتُ مأخوذاً، أو مَلْبوساً، أو ممسوساً!

كانت الحياة عطوفة عليّ، والمصادفات إلى جانبي، فجنَّبتني مزالق ومهالك يُرهبني اليومَ مجرّدُ التفكير فيها… لكني ذهلتُ عن شكر الحياة.

إجمالاً، حظيت بنصيب وافر من السعادة، وأصبت نجاحات ما سعيتُ إليها – سهواً دون شكّ – لكنها كانت عزاءً. الغَبْنُ أنني ما كنت أشعر بسعادتي إلا بعد فواتها. كان عطف الحياة عليَّ غير عطفي على الحياة، فأغدقتْ هباتها على غير موهوب.

الحبُّ الجمُّ، الذي أغدقه عليّ والداي، وأحاطا به طفولتي وفتوّتي – وحتى غيابي عنهما، تحوّل، مع الزمن، بعد سفري وانقطاعي عنهما حتى الوفاة، ندماً، وتبكيت ضمير، وِجداناً موجَعاً، وأخيراً نقمةً على النَّفس.

إدراكي حجم ذلك الحب الكبير أشعرني بصغري أمامه، فقدَّستُ أهلي، وأدَنْتُ نفسي. تضحيات ذلك الحبّ تحولت عبئًا مرهِقاً، ودَيْناً أبدياً لا يُوفى. اليوم، أعترف. أعترف جاثياً على عتبة القبر. أستغفر ترابهما عن ذهولي، وسهوي، وطيشي عن ذلك الحبّ. كنت مأخوذاً بما ليس. ظننت الكتب، والمتاحف، والجمال هي كلّ شيء. بدلاً من كلّ شيء… ومن الوالدَين! هاأنذا، أواخرَ العمر، وقد دَنَوْتُ من الأرض التي حضنت ذلك الحبّ، لم أزل أعاني من الندم، فريسة لتبكيت الضمير، والشعور بالذنب. لا الندم يؤاسي، ولا الاستغفار يَشفي. لا أغادر السرير صباحاً حتى يواجهني مثل ذَنْبٍ، منتصباً أمامي، مُقاضياً – فأشتم نفسي، وألعنُني… تشفِّياً. الأجرحُ، والأوجعُ، هو يَقيني من كون أمي قد باركتني على سرير الموت، ودَعت لي بالتوفيق، على عادتها… ولم أكن إلى جانبها في تلك الساعة الحاسمة. لكم أغبط وَلَديَّ على عطفهما علينا، أنا وزوجتي، عطفَ والدين. وأتساءل كيف يستطيع من لا يُحبُّ نفسه أن يُحبَّ أحداً؟!

كنت عذاباً لجميع الذين أحبّوني… رغم إخلاصي الحبَّ لهم جميعاً.

 أصعب ما عندي السؤال. الطَّلب. من أيّ نوع كان، ولأيّ سببٍ كان. لا أذكر أني، طوال فتوَّتي، طلبتُ شيئاً من أحد. خصوصاً من أهلي. كانت رغباتي تتحقَّق كما برعاية عناية خفيّة عَزَوتُها، بعد وفاة والدتي، إلى سهرها عليَّ من وراء القبر. لكم تنازلت عن أشياء، وحرمتُ نفسي أشياء شعوراً مني بأن الاستغناء عنها أهون من الاغتناء بها. إنتهيتُ إلى مؤاساة نفسي بنظرية، أو حكمة، قوامها: لا تُلْحِفَنَّ في الطَّلب، فتُتلف طاقتك الروحية. أهِّلْ نفسَك لما تريده، فتبلغه عفواً.

‏*‏

مَنْ حظيَ من والدَيه، مبكراً، بحبّ بنويّ غامر، يكون قد استنفد العطفَ قبل أن يعرف الحبَّ. بعده، يَصرف الشباب، والكهولة ذاتها، مفتِّشاً عن ذلك الماء الحيّ، فلا يقع منه إلاّ على قطرات.

 


([1]) دخل ذات يوم الرئيس فلّوح صفّنا ليحلّ مكان سعيد عقل في تغيّبه، فسألَنا: ما هي مادة الدرس اليوم؟ فقلنا: العصر الأموي. العصر الأموي؟ قال: الأخطل، الفرزدق، جرير؟! دُوْلْ تلات كلاب: عُوعُوعُو، وخَلَص.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *