منظّمة الأَلِكْسو والمهمة الاستثنائية

Views: 1313

د. فيصل طالب

(مدير عام وزارة الثقافة سابقًا)

سعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (Alecso) ، منذ تأسيسها في العام ١٩٧٠ ، إلى تحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها ، فحقّقت في هذا السبيل بعض الإنجازات، وجهدت عبر العهود المتتالية لأن تستكمل غاياتها الأساسية وما كان يستجد في هذا النطاق ، في سيرورتها الطويلة على مدى ٤٩ عاماً، من أهداف مرحلية أو ظرفية متأتية من التحديات والأزمات والمشكلات التي واجهت أمتنا العربية، على مختلف الصعد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتربوية والسياسية بل الوجودية ،وبخاصة ما يتعلق منها بتفجر ثورة المعلومات وتداعياتها على الشخصية الثقافية العربية بصورة عامة ، وتحدّي الانخراط في الحداثة من غير الوقوع في الاستلاب او الازدواج الثقافي ؛ بحيث تكون للخصوصية الثقافية العربية شرفة الإطلالة على “العالمية” ، لا السقوط في سلبيات” العولمة”؛ فضلاً عن الأخطار التي نتجت من الأوضاع الكيانية والسياسية والأمنية والعسكرية في العقد الثاني من القرن الحالي في بعض البلدان العربية ، وما رافق ذلك من تصاعد حركات التطرّف والإرهاب ، وحالات التفسخ والتدمير والعبث الممنهج بالإرث الثقافي الكبير الذي تختزنه المنطقة العربية ، وما أرخاه كل ذلك من نكوص كبير على مسارات التقدم المفترض في مختلف مجالات التنمية المستدامة .

إن أية حركة نهضوية تنتشل المجتمع العربي من حالة الضمور التي يعيشها ، وتعيد له حيويته ، وتضعه من جديد على خارطة الحضور الحي في ساحة الحراك المحلي والإقليمي والعالمي ، الاقتصادي والسياسي والثقافي ، لن يكتب لها النجاح إن لم يتم حماية مسارات التنمية ونتائجها المتوقعة بطوق الأمن الثقافي الذي يتكفل حمايتها من مخاطر التسرب او الاختراق او التعطيل او الاستلاب ، ويصون استمرارية الفعل الجماعي وتفاعله الوطني، في إطار التواصل القائم على تعزيز ثقافة الحوار وحلّ النزاعات بالطرق الديمقراطية تحت سقف المواطنة ، وعلى قاعدة أن الصياغة الوطنية للرؤى المستقبلية المستندة إلى مفاهيم الوحدة الثقافية بمختلف تنوّعاتها وتلويناتها هي التي تؤتي أكلها بوحدة المجتمع وتماسكه ، أي استقراره السياسي والاجتماعي ، وهو ما يفتح الطريق واسعاً أمام التنمية ومحاربة الجهل والفقر والأمراض الاجتماعية، ورفع مستوى التعليم، والتأمين الصحي والاجتماعي، ووقف الهدر في الموارد البشرية التي تغادر بلادها في “مواسم الهجرة الى الشمال”، وزيادة الوعي بقيمة الثروات المادية والمعنوية للأمّة ، بما في ذلك مخزوناتها من التراث الثقافي المادي وغير المادي ،ووضعها جميعاً في خدمة مصالح المواطنين وزيادة المداخيل الوطنية .

إن الواقع المشكو منه يضاعف مسؤولية الثقافة والتعليم في إعادة تحديد مفهوم العروبة الحضارية التي تستجيب لمتطلبات التحديات الضخمة التي نواجهها، وهي تحديات علمية وتكنولوجية واقتصادية وثقافية ووجودية غير مسبوقة في تاريخ العرب القديم منه والحديث ، وفِي تجديد المشروع الثقافي العربي من اجل تمكينه من استعادة فاعليته ، واستئناف دوره في حركة الحضارة العالمية ، والانخراط في اهتماماتها والإسهامات المتقدمة فيها.

في مواجهة هذا الواقع ، وفِي ضوء هذه الرؤية ، يبرز الدور المركزي والاستراتيجي للمنظمة ، في ضوء ما هو مناط بها من مهمات ، في عمليات التخطيط والتنسيق والتعاون والتشبيك والتحفيز والإسناد والتدريب ، في المجالات التربوية والعلمية والثقافية والتواصلية ، وتعميم مخرجاتها على الجهات المعنية في كل الوطن العربي ، مرفقةً بآليات التنفيذ والتقييم ، ومعزّزةً بأطر الدعم المادي والمعنوي والاستشاري واللوجستي ، تمكيناً للمنظمة من تحقيق الأهداف الرئيسة التي أنشئت من أجلها ، وبخاصة لجهة العمل على تمتين الوحدة الفكرية ، وإرساء أسس التكامل الثقافي بين البلدان العربية ، وتدعيم البناء التربوي للناشئة ، ورفع منسوب التأثير الثقافي في الحياة العامة ، ومواكبة مسارات التقدم والحداثة ؛ فضلاً عن تعزيز قنوات التواصل والمتابعة وتبادل الخبرات مع المنظمات الإقليمية والدولية ، وتدعيم سبل التثاقف والتفاعل الحضاري مع الشعوب الأخرى ، لتظهير القيم الإنسانية المشتركة وتعزيز حضورها الإيجابي في العلاقات البينية ، وتوظيف مفاعيلها البناءة في إرساء مفاهيم الحق والعدل والخير والسلام في العالم .

إن أولى المهمات في هذا السبيل هي في العمل على جعل خطابنا الثقافي خطاباًعمودياً وأفقياً في آن ، فلا يكون الشأن الثقافي ترفاً فكرياً ، بل سعي الى سلوك مواطني وإنساني تتكامل فيه السياسة الثقافية والسياسة التربوية بهدف محو الأمية الثقافية ، فضلاً عن الأمية العلمية والتعليمية ، فيتحقق بذلك الهدف الأسمى للتربية ألا وهو بناء كل مواطن وكل المواطن ، بأبعاد مصالحة الذاتي فينا مع الغيري ، والفردي مع الجمعي ، في مدى التشكيل الإنساني السويّ . ومن مستلزمات هذه المهمة تعزيز الحراك الثقافي اللامركزي في كل بلد عربي برؤى الاستنهاض العام ،انطلاقاً من وعي الظروف العامة والمعطيات الموضوعية الموضعية التي تفرض التدقيق في الحاجات الحقيقية وسُلّم أولوياتها ، على قاعدة حق كل المواطنين في المشاركة في الفعل الثقافي والاستفادة من مردوداته ، تطبيقاً لمبدأ ديمقراطية الثقافة .

إنّ المشهد التربوي والثقافي والعلمي العربي الذي ترعاه المنظمة يبقى خارج السياق التكاملي والتنموي أو “خارج النص ” :

– إن لم يعبّر عن حجم التحوّلات العميقة الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية والاقتصادية ، ويرصد حضورها في دائرة الاهتمام والنقاش والتأثير .

– إن لم تتصدّ أية سياسة ثقافية للتطرف والإرهاب ، وتتوجّه لتعزيز قيم المواطنة والتسامح والاعتراف بالآخر.

– إن لم يعمّق الثقافة الخاصة بإدارة التنوّع الثقافي ، بالمقاربة الجامعة، وتحت سقف الوحدة المجتمعية .

– إن لم يستهدف تظهير القيم التنويرية للمجتمعات العربية .

– إن لم يتصدّ للمخاطر التي تحيق باللغة العربية من جرّاء ثقافة العولمة ، وقصورأبنائها عن تمثّل محمولها الثقافي العميق، وعجزهم عن ابتداع تلك المعادلة الذهبية التي اهتدت إليها أمم أخرى كالصين واليابان وكوريا وماليزيا …إلخ، في التمسك بالهوية القومية وولوج عصر الحداثة من أوسع أبوابه ، من دون الوقوع في إشكاليات الثنائيات الحضارية المتعارضة .

– إن لم تُوضع آليات عملية للتعاون بين مجامع اللغة العربية ، بهدف العناية بالمصطلحات وشؤون التعريب وسائر الأمور المتصلة باللغة العربية.

– إن لم تُنشأ مراكز ثقافية عربية خارج الوطن العربي (في عواصم القرار السياسي والاقتصادي) تتولّى نشر الثقافة العربية، والتعريف بالتراث العربي المادي وغير المادي بتنوعاته كافة ، وإقامة المعارض والمهرجانات والندوات والدورات الخاصة بتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ، وبخاصة للعمالة التي تتوجّه إلى البلاد العربية للعمل فيها.

– إن لم يتم العمل على إرساء سياسة التشبيك الثقافي بين المؤسسات الثقافية العربية الرسمية منها وغير الرسمية .

– إن لم تتوجّه أية سياسة ثقافية إلى البحث عن المشترك الثقافي العربي المنتشر على مساحة الوطن العربي ، او في إطار التقارب الجغرافي لبعض البلاد العربية في أقل تقدير.

– إن لم تتم رعاية الموهوبين والمتفوّقين العرب ، بتقديم الجوائز والمنح لمساعدتهم على التخصص الجامعي وإجراء الأبحاث العلمية والأكاديمية.

– إن لم يُجب عن أسئلة مركزية : ماذا نتعلّم ؟ وكيف نتعلم؟ ولماذا نتعلّم؟ وهل التربية تعني تعليماً أم تعلّماً بأبعاد الثقافة لكي تكون إعداداً للحياة ، وليس فقط للنجاح في المدرسة ؟

– إن لم يجرِ تعميم التعليم وإلزاميته حتى نهاية المرحلة المتوسطة في أقل تقدير .

– إن لم يتم التعامل مع المشهد التكنولوجي/المعلوماتي بما يفرض علينا الإجابة عن سؤال أساس : ماذا يجري حولنا ، وكيف لنا ان نواكب ثقافة عصر المعلومات وتسارع إنجازاتها وابتكاراتها ، وكيف يمكن أن تسهم في التظهير المعاصر لمخزوننا الثقافي والحضاري ونشره وتعميمه في العالمين ، من خلال العناية بالمحتوى الرقمي العربي ، ومعالجة الفجوة الرقمية القائمة بين الوطن العربي وبقية العالم .

– إن لم يُتح للإبداع أن يحلّق في فضائه الطبيعي والمؤاتي ، وللتراث الثقافي أن يتمّ وعيه وصونه وإنماؤه وتظهيره ووضع قواعد بيانات او قوائم حصر بعناصره ، بما يليق بتاريخنا وشخصيتنا الثقافية ، فضلاً عن إدراجه في صلب الأنظمة التربوية والمناهج التعليمية العربية، وتوظيفه في مسارات النمو العام ، وذلك في سعي لتحقيق التكافؤ مع من سبقنا في الإنجازات العلمية والتكنولوجية ، فنخرج من الدونية إلى المماثلة ، أو ربما التفوّق في مجالات الحضور الثقافي والإنساني المتميّز الذي لم تنقطع أصالته عن الإغناء المستمر من مَعين التفاعل مع الحداثة والمعاصرة .

– إن لم نولِ العناية القصوى لدور المرأة العربية في حركيّة التطوير المجتمعي ، فتأخذ موقعها الفاعل في القطاعات الإنسانية والتربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

– إن لم تكتسب الأنشطةالمعرفية في مختلف الميادين فعاليتها في التحوّل إلى سلوكيات وأنماط تفكير ومقاربات جديدة في حياة الناس : “التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة ” ، كما يقول أحدهم .

– إن لم يتم إيلاء الصناعات الثقافية الاهتمام اللازم لتكون رافداً مهماً في منظومة التنمية المستدامة .

– إن لم توضع خطط مستقبلية لعمل المنظمة في المدى القريب والمتوسط والبعيد ، مرفقة ببرامج زمنية للتنفيذ .

لقد عملت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم على وضع الخطط والاستراتيجيات التي تهدف الى الاضطلاع بدورها ، باعتبارها بيت الثقافة والخبرة العربية الذي يحتضن الأطر المرجعية للفعاليات التربوية والثقافية والعلمية التي يُفترض أن يستفيد منها العمل الثقافي على مساحة الوطن العربي ، وحددت لهذه الغاية موضوعات كثيرة جديرة بالتقدير لأنها تلبّي الاحتياجات التي تفرضها الضرورات الاستراتيجية العامة او الظرفية او الموضعية ، فحققت النجاح في جوانب ، وأخفقت في جوانب أخرى لأسباب متعددة ، من بينها الظروف العامة السائدة في أجزاء من الوطن العربي ، وانخفاض الملاءة المالية للمنظمة ، وافتقار بعض المشروعات لآليات التنفيذ وبرنامجها الزمني ، أو لأنها في الأساس غير قابلة للتنفيذ لاعتبارات عديدة ، أو لأن قنوات التعاون والتواصل مع الجهات الرسمية المختصة في البلاد العربية لتسهيل التنفيذ لم تكن مفتوحة بالشكل المطلوب … ، ولربما كان السببان الرئيسان لهذا الإخفاق ضعف التسويق الإعلامي للمنظمة ، والتعريف بمهامها ومشاريعها وإنجازاتها وإصداراتها التي لا تصل الى المعنيين كما هو مفترض ، وهو ما أدّى الى ضعف حضورها في وسائل الإعلام العربية ، وفي ضآلة تأثيرها في الإدارات والمؤسسات العربية التربوية والثقافية والعلمية ، مقارنةً بما لمنظمة الأونيسكو في هذا السبيل من فعالية ووجود مؤثّر في هذه القطاعات. والسبب الثاني هو أنّ القرارات التي تصدر عن اجتماعات المؤتمر العام للمنظمة ، ومؤتمرات وزراء الثقافة العرب، وورش التدريب والتأهيل ، وغير ذلك من قرارات المجالس والمعاهد والمراكز التابعة للمنظمة، هي مجرّد توصيات لا صفة إلزامية لها ، ولا تتوافر لها آليات المتابعة والتقييم ؛ علماً انها تستنفد في الإعداد والتنفيذ قدرات بشرية وتنظيمية ومالية ولوجستية هائلة .

استناداً إلى هذا الواقع ، وما يحمل من استشراف لعمل المنظمة في المستقبل ، بالنظر الى ما تضمنته هذه المقالة من إشارات إلى السبل الآيلة الى تفعيل عمل المنظمة ، وجعل حضورها في ساحة الوطن العربي أكثر سطوعاً وتأثيراً ونفاذاً في جسد الحراك الثقافي العربي ، اللهم إذا تكاتفت جهود جميع الأطراف في هذا السبيل ، لتوفير أسباب التطوير التربوي والثقافي والعلمي والاتصالي ، وحتى يكون التكامل الثقافي العربي بوابة لسائر أنواع التكامل العربي ،

فإننا نتطلّع إلى مهمة استثنائية للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، وهي تنتقل إلى عهد آخر يقوده مدير عام جديد ، وفي ضوء التحدّيات التي يعيشها الوطن العربي ، والموجبات التي يفرضها اضطلاع المنظمة بأعباء الفعل والبناء من جهة ، ومعالجة المشكلات الناشئة من صعوبات الأوضاع العامة العربية من جهة أخرى ، انطلاقاً من حقول التربية والثقافة والعلوم والاتصال ، التي هي واجهة الحضور الحيّ لأي أمّة ، وبوصلة حراكها التنموي ، والتظهير المتقدّم لمستوى الوعي العام فيها ، في مرحلة زمنية بالغة الدقة وغير مسبوقة في تاريخ العرب الحديث، تتطلّب من كلّ الأطر الوطنية والعربية ، الرسمية والخاصة ، أن ترفع عقيرتها ، وأن تعدّل سُلّم أولوياتها ، في الطريق إلى جعل التربية رحم البناء العمودي والأفقي : بناء كل إنسان وبناء كل الإنسان ، وإلى أن يشكّل الأمن الثقافي سقف الحماية للشخصية الثقافية العربية في وجه الاستلاب والاجتياح المعولم ، وللمنجزات المحقّقة في مختلف المجالات، ولدعم كل الجهود الطيّبة الآيلة إلى تحقيق الحلم بنهوض عربي تأخّر موعده كثيراً، على أساس القاعدة الذهبية : بالتربية نبني وبالثقافة نحمي البناء.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *