الميتروبوليت عودة في افتتاح المؤتمر الطبي الـ24 لمستشفى القديس جاورجيوس: كل إنسان مدعو إلى التقدم فكيف إذا كان الهدف منحه حياة كريمة

Views: 807

«أكرمْ الطبيبَ لأجل فوائده، ولأنّ الربَّ خَـلَـقَـه، فمن العليّ معرفتُــه» (يشوع بن سيراخ 38: 1 و2).

عندما نذكرُ كلمةَ “تطوُّر”، ترحلُ عقولُنا فورًا إلى نظريّة داروِن عن التطوّر البشريّ. لكنّنا، كمسيحيّين، نؤمنُ أنّ الإنسانَ ليس بحاجة إلى التطوّر “شكلًا”، لأنّه مخلوقٌ على صورة الله ومثاله (تكوين 1: 26)، لكنّه أصبح محتاجًا إلى تطوُّرٍ من نوع آخر، بعدما سقط في الخطيئة وابتعد عن الله. هذا التطوّر هو السعيُ الدائمُ نحو التألُّه، أي نحو استعادة المثال الذي خسره الإنسان بعد السقوط. الطريقُ إلى هذا التطوّر تمرُّ عبر طريق التواضع والتوبة، الفضيلتَين اللّتَين ابتعدنا عنهما كثيرًا في أيّامنا الحاضرة.

إنسانُ هذا العصر تَــنَــكَّــرَ للنعمة الإلهيّة التي بها يحيا وينمو، وللروح القدس الذي ينيرُ دربَــه ويقودُه نحو الصلاح، وراح يتعبّد لذاتِه، لأناه، لشخصِــه، لمركزِه… ناسيًا أو متناسيًا أنّه لا شيء، وأنّ ما له هو من نِعَمِ الله عليه. إنّ الله يُشرق شمسَه على الصالحين والأشرار (متى 5: 45)، لكنّ مَن يرى نورَ الله هو وحده الذي يعمل بهدي تعاليمه ويثمّر الوزنات المعطاة له، فتقوده يدُ الله وتكون أعمالُه مبارَكَــة.

نحن اليوم نفتتح مؤتمرًا طبيًّا، هو الرابع والعشرون الذي يقيمه هذا المستشفى الذي ناهز الــ141 عامًا، لكنّه ما زال يواكب التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ ويطمح إلى تقديم أفضل خدمةٍ للمريض من أجل حياةٍ أفضل.

التقدّمُ من البذور الإلهيّة التي غرسَها الله في الإنسان منذ الخلق. لذا، كلُّ تقدّم يحصل على هذه الأرض، يجب أن يعكسَ حضورَ الله في كلّ جوانبه، وإلّا أصبح الهدفُ المبتغى إظهارَ الأنا وحسب. يقول الرسول بولس: “نهدِمُ الجدلَ الباطلَ وكلَّ عقبةٍ ترتفع لتحجُـبَ معرفةَ الله،  ونأسِرُ كلَّ فكرٍ ونُخضِعُه لطاعةِ المسيح” (2كو 10: 5).

 كلُّ إنسان مدعوٌّ إلى التقدُّم، خصوصًا إذا كان هذا التقدُّم يصبُّ في مصلحة الإنسان، الأمر الذي حثّنا عليه ربُّنا بقوله: “مَن سقى أحدَ هؤلاء الصغار ولو كأسَ ماءٍ باردٍ لأنه تلميذي، فأجرُه، الحقَّ أقول لكم، لن يضيع” (مت 10: 42)، فكيف إذا كان الهدفُ من التقدُّم منحَ الإنسان حياةً كريمةً وصحّةً لا يشوبُها اعتلال. كلّما تقدّم العلمُ (وهنا نقصد الطبَّ، الذي تقيمون له مؤتمرًا تتباحثون خلاله في كيفيّة تكريم الإنسان بوضعِ إكليلِ الصحّةِ على رأسه)، كلّما مُنِحَ الإنسانُ وقتًا إضافيًّا في هذه الحياة الأرضيّة ليتوبَ ويتقدّمَ نحو الهدف الأسمى، أي التألُّه. إذًا، الطبيبُ هو مُساعِدٌ للإنسان في مسيرتِه نحو الله، لذلك عليه أن يكون كالسامريّ الشفوق، الذي لم يأبَه لانتماء اليهوديّ المـُعتدى عليه، بل داواه ونَقَلَه لنيل العناية اللازمة، وهكذا تمجَّدَ اللهُ من خلال عملٍ بشريّ بسيط.

 التقدُّم الطبّيّ واجبٌ، وإلّا لا نكونُ نعملُ على تثمير الوزنات التي منحنا إيّاها الربّ. كلُّ تقدّمٍ هو دليلٌ على حضور الروح القدس الحيّ والمحيي في حياتنا كبشر. إنما على كلّ طبيب ألّا ينسى أنّ اللهَ هو طبيبُ النفوس والأجساد، وهو العالِمُ بكلِّ شيء، الأمر الذي أعلنه يشوع بن سيراخ قائلًا: “العليُّ يعلمُ كلَّ علمٍ ويتبيّنُ علاماتِ الأزمنة. يُخبرُ بالماضي وبالمستقبل ويكشفُ حتى أخفى الآثار. لا تغيبُ عنه خاطرةٌ ولا يَخفى عليه كلام” (42: 19-20). هذه الفكرة يجب أن ترسخَ في فكر كلِّ مؤمنٍ، على مثال القدّيس لوقا الجرّاح المـُعترف، أسقف سيمفيروبول، الذي كان يأبى دخول غرفة عمليّات ليُجري جراحةً، إن لم تكن أيقونةُ والدة الإله معلَّقةً على جدار الغرفة، علمًا أنّه عاش في ظلِّ نظامٍ بعيدٍ عن الله كلَّ البُعد. هذا يعني أنّه آمن بأنّ يدَ الله هي التي تعمل من خلاله وتشفي بواسطته. يقول يشوع بن سيراخ: «وادْعُ الطبيبَ لأنَّ الربَّ خلقه، وخَــلِّــهِ إلى جانبك ما احتجتَــه، فيومًا ما يكون شفاؤك على يديه، ويكون ذلك أنه دعا الربَّ فاستجاب منعِـمًا عليه بالنجاح في تخفيف الأوجاع واسترجاع العافية» (38: 12-14).

 إنّ هذا المستشفى التابع لأبرشيّة بيروت، قد اتّخذ اسمَ القدّيس جاورجيوس ليتمثّلَ به، وليذكّرَنا دائمًا أنّ هذا المكانَ يحفظُـه حبيبٌ للمسيح، قدّمَ نفسه شهيدًا للربّ. أليست هذه دعوةُ كلِّ طبيب؟ ليست كلُّ شهادةٍ هي شهادةُ دم، بل كلُّ تضحيةٍ هي شهادة: البعض يضحّي بوقته، والبعض بمالِه والبعض بحياته الاجتماعيّة… كلُّ ذلك لمجدِ الله من خلال أخينا الإنسان. وهذه، لا سواها، هي غايةُ الطبيب لأنها من ثمار المحبة. من هنا تبرزُ أهميّةُ هذه المؤتمرات الطبيّة، التي تجمع أشخاصًا من لبنان وخارجِهِ، نذروا أنفسَــهم لخدمة الإنسان، يضحّون بغيةَ التقدُّم في سُــبُلِ الخدمة، إن من ناحية  الدراسات والأبحاث، أو العلاج، أو الأدوية، أو الآلات والتقنيّات، أو المتابعة النفسيّة، وغير ذلك الكثير، وما هذا سوى تجلٍّ للمحبّة التي جبلَنا الله بها. هذه المحبة التي نعمل بهديها، طامحين أن يبقى هذا المستشفى مقصدًا لكل محتاج إلى شفاء النفس والجسد، وأن نكون، مسؤولين عن هذا المستشفى وعاملين فيه، أدواتٍ في يد الله يعمل من خلالها وتعملُ على تمجيد اسمه.

دعائي إلى الربّ الإله، أن يحفظَــكم، وينيرَ أذهانكم، لكي تنتقلوا من تقدُّمٍ إلى تقدُّم، في سبيل خدمة أبناء الله وإخوتنا البشر.

 

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *