المؤرخ الخوري يوسف أبي صعب والإمام السيد موسى الصدر… علاقة عابرة للهويات والطوائف
السيد إبراهيم سرور
لطالما تُوّجت حياة الكبار وسيرهم بنمط خاص من الإبداع الفكري والعطاء الثري الفذ، الذي يتجلى شعاعه في الآفاق، ويعبرَ ارجاء السماء ثم يسكن الأرض ابد الدهر. وقد اتى الامام علي بن ابي طالب على وصفهم بقوله”وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ”. تاكيداً منه على هذه الحقيقة المرتبطة بنورانية العالِم الذي استضاء من نور العلم الربّاني ولجأ الى الركن الوثيق.
وقد كان المؤرخ اللبناني الخوري يوسف ابي صعب مثالاً صادقاً للعالم الصالح الذي يحمل على عاتقه همّ العلم إلى جانب العمل.

رجل علم من طراز نادر
لم يكن مؤرخاً(عادياً)، يجمع الوثائق المبعثرة، والمستندات الموّزعة في المكاتب العامة والخاصة، وفي البيوتات العريقة ليؤرّخ للأحداث وللاشخاص، بل كان رجل علم من طراز نادر، يسعى في كتاباته الى الكمال مستنداً الى أصدق الأسانيد والاثباتات والوثائق, متوخياً كافة الأساليب العلمية المعتمدة في أبحاث ودراسات كبار البحاثة والمؤرخين، وهدفه الاوحد الوصول الى الجوهر في اثبات الحقيقة الناصعة المجردة… لهذه الاسباب ولسواها، وصف كتاباته صديقه المؤرخ يوسف ابراهيم يزبك : “بالأصول الأصيلة”.
مكتبة فريدة
ترك الخوري يوسف أبي صعب في دارة نجله المحامي شارل مكتبة فريدة تضمّ آلاف الكتب والموسوعات والمصنفات والمخطوطات العربية والاجنبية، وارشيفاً(خاصّاً) يجمع العديد من الأبحاث والكتابات المتعلقة بلبنان والصادرة في صحف ومجلات ومنشورات، الى جانب متحف متخصص ببعض الادوات الكنسية والليتورجية، ومجموعة من المقالات والأبحاث التي كان ينشرها في الصحافة اللبنانية من حين الى آخر، ولاسيما في مجلة “الفصول”، ومجلة “سيدة لبنان”، و”الرّسالة المخلصية”، و”الورود”، و”الاماني”، و”الرعية”، و”أوراق لبنانية”، و”السنابل”، و”جريدة الجريدة” و”البيرق”، و”ملحق الأنوار”، و”البشي”ر، و”لسان الحال” و”الأنبا”ء.
نبوغ بعلم الانساب
وأهم ما يميزها هو نبوغ هذا الكاهن المؤرخ بعلم الانساب وأشجار العائلات اللبنانية. واهتمامه الخاص بتاريخ الإسلام يدلنا على ذلك عمله شبكة تقسيم المواريث بحسب الشرع الاسلامي بطريقة التشجير.
اشتهر الخوري يوسف أبي صعب بقدرة فائقة على بناء المعارف والصداقات مع كبار الرجالات والقادة، ولاسيما في الأوساط السياسية والاجتماعية والدينية…
لقد جسّد الخوري يوسف ابي صعب، جوهرَ العلاقة بين الكنيسة والمسجد… وتمثلت هذه العَلاقةُ بأبعادِها، القائمةِ على الاحترام المتبادَلِ بين الإسلام والمسيحية، بخصوصيّةِ حضارة الشرقِ وغناها… وقد أدركَ صاحبُ السيرة، هذا التوازنَ، وعاشَهُ بإخلاصٍ، وأعطاهُ قيمتَه المضافةَ، وذلك من خلالِ تعمقه في التراث الاسلامي، وقُربـِه من رجالات الاسلام، ومدى الانفتاح على الفكر الديني عموماً.
علاقته بالامام الصدر
ولقد عمل الخوري يوسف ابي صعب على ترجمة ذلك من خلال الصداقة الشخصية التي قامت بينه وبين الامام السيد موسى الصدر… فقد كانت اللقاءات بين هذين العلمين والزيارات متبادلة، إلى الوقت الذي ارتسمت معالم تلك الصداقة بينهما لتعطي للمسجد والكنيسة الدور الحركي لخدمة الإنسان والمجتمع في لبنان.
إنّ عَلاقة الخوري يوسف ابي صعب المتينةَ بالامام السيد موسى الصدر، انطلقت من إعجابِ الخوري نفسه بشخصيّتِه، وقـيمَـتِه العلميّة، وتفانيه في سبيلِ قضايا الوطن وخدمة انسانه، وقد ترجمت العلاقاتٌ بينهما عل أكثـرَ من صعيد.
وفي خلاصةِ هذا الجانبِ، نُـشـيرُ إلى أنَّ ما قامَ به الخوري يوسف ابي صعب على مستوى التعاملِ مع قضايا الاسلام وانفتاحه على شخصية الامام الصدر، قد أسّسَ لعَلاقاتٍ ثابتةٍ، ومُـقـارباتٍ مُـتطوّرة، ومبادراتٍ قامَـت بها الكنيسةُ فيما بعد ، تُجاهَ المسجد، تجلّتْ بشكلٍ أكثرَ وضوحًا بتقادم الزمن.
وقد كان من مقومات وعناصر البناء الفكري عند الامام الصدر هو العمل على تعميم الحوار الاسلامي المسيحي وابراز القيم المشتركة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية فقد كان يعتبر ان “الدين في جوهره هو واحد غايته بناء الإنسان وإزالة الحواجز التي نصبتها عوالم مفتعلة يبرأ منها دين الله الحق. والقاسم المشترك بين المسيحية والاسلام هوالإنسان الذي هو هدف الوجود والمحرك للتاريخ”.
وما كانت تلك العلاقة بين الرجلين في بعض توجهاتها الفكرية سوى مساهمة في تطبيق الخصوصية الدينية القاضية بإنشاء علاقات حقيقية خالصة بين الطرفين، ولكي تحذو حذوهما المؤسسات الدينية الاخرى في سبيل بناء المجتمع والوطن والانسان.
الحوار العقلي ونبذ التعصب
على هذا الاساس فقد كانت نظرية الخوري يوسف ابي صعب بالتاكيد على الحوار العقلي ونبذ التعصب الديني والكلام عن الدين والديانات منسجمة تماما مع نظريات الامام الصدر الفكرية والحوارية فقد قرر الخوري ابي صعب سلسلة من الافكار التي تصب في هذا الإتجاه وتعكس النزعة الدينية العقلانية العميقة استنادا الى حقيقة الاهداف الدينية الواحدة. افصح عن ذلك عندما اعتبر ان الانسان لم يستطع التحرر مما يفرضه المجتمع عليه، فكانت الطقوس والتقاليد.، فمنها ما هو بريء يدل على تعلق الإنسان بخالقه، ومنها ما يكتسب مع الايام صفة اخرى. مقررا ان المراجع الدينية العالية تعكف على دراسة هذه المضاعفات ما علق بها من غبار التقاليد والتعصب، وتعمل على تشذيب ما اقتضت الضرورة تشذيبه لرد الدين الى حقيقته الاساسية وجعله في مستواه الحقيقي. اللائق بالإنسان الذي جعله الله على صورته ونفخ فيه روحا من روحه… وهذا دليل على وجود الدين كجوهر، لأنه كان منذ وجد اول إنسان وسيظل حتى آخر إنسان.

من هذا المنطلق ترسخت العلاقة في ما بين الخوري يوسف والامام الصدر، لما تجمعهما من روابط فكرية ومبدئية خالدة ارتقت بهما إلى مصاف الاخوة الإنسانية المعقودة منذ الازل بين الإنسان واخيه الإنسان.
وبحكم تبعية منطقة الحازمية الحاضنة للمجلس الإسلامي الشيعي الاعلى آنذاك، لرعية الفياضية التي كان يرعاها الخوري يوسف ابي صعب، الامر الذي انعكس ايجاباً على مستوى تمتين العلاقة بين المؤسستين، فما كان من الخوري يوسف إلا ان اخذ زمام المبادرة وعلى اكثر من صعيد لمواكبة حركة ونشاط الامام الصدر، تارةً من تلقاء نفسه اخرى لغرض الوساطة بين الإمام وبين رئيس الجمهورية اللبنانية حينها الرئيس فؤاد شهاب، الذي بدوره عمل على تكليف الخوري يوسف ببعض المهمات ولأكثر من مرة والتواصل مع الامام الصدر سعياً منه من اجل تكريس الحلول لمعالجة الملفات اللبنانية والوطنية العالقة.
من هنا نعلم أن الدور الذي اكتنفه الخوري يوسف ابي صعب على الصعيد الوطني كان دوراً مميّزاً بحكم الاتصال الدائم بالامام الصدر، وذلك حرصاً منه على الوحدة الوطنية والعيش المشترك بالافعال لا بالاقوال.
وأخيراً ينبغي علينا تحمل كامل المسؤولية في إكمال المسيرة الفكرية لهذين الرجلين العظيمين، والتي كان مستندها حب الله وخدمة الإنسان والوطن.