“جان توما”… ساحرُ جمالٍ في حيويَّة الكلمة يَرْاقصُ الماضي ، مُنْتَشِيَاً على ايقاعاتِ الحاضِرِ

Views: 621

د.  وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

أيُّها الكِرامُ،

السَّلامُ على كلِّ واحدٍ منكم، وقد تربَّعَ سعيداً على عرشِ محبَّةٍ له، صُنِعَ في وجداني بيدِ حاذقِ صَوْغِ اسمُهُ “جان توما”.

السَّلام والمحبَّةُ والأشواقُ، لأُناسٍ لم أَلْقَهُم، ولو لِمَرَّةٍ وحيدةٍ في عُمري؛ بيد أنَّ حياتيَ صارت تَضُجُّ بحضورهم؛ مِن يومِ أن جَمَعَهُم غَطَّاسُ لؤلؤٍ، اسمُه “جان توما”؛ لا يعرف أن يصطادَ من لُجَجِ البَحرِ إلاَّ ما هوَ الأجمل أو، على الأقلَّ، الجميل.

والسَّلامُ لَكَ، يا صديقي “جان توما”؛ وقد صُرتَ، بما بَيننا من مودَّةٍ وصداقةٍ، وكأنَّكَ “عِفريتٌ لِلفانوسِ”؛ تُحقِّقُ مِن صِدقِ أمانِي الشًّوقِ، ما يَشاءُ التَّمنِّي، بكلِّ عُمقٍ وصَفاءٍ وأَلَقٍ.

أَعفي نفسي، أيُّها الكِرامُ، وأنا في هذا المقامِ الجليلِ بينكم، مِن أيِّ خَوْضٍ في كفاحِ “جان توما”، على دروب الحياةِ ومعارجِ نشاطاتِها الاجتماعيَّةِ؛ كما أَعفي نفسي، كذلكَ، مِن أيِّ غَوْصٍ في وجودِ “جان توما”، السَّاعي إلى العِلمِ، المُتَرَهْبِنِ في محاريبِهِ، طالِباً وأستاذاً وواحِداً مِن أعلامِ الأكَّادِيميا في بِلادي؛ فَجَميعُ هذه الموضوعاتُ يشتركُ فيها، مَع “جان توما”، كثيرونَ مِن أَهْلِ العِصامِيَّةِ والثَّقافَةِ والمَعْرِفَةِ الذينَ نَتْعَزُّ بِهِم ونَفْخَرُ بحضورِهِم في دُنيانا. سأكتفي، ههُنا، ببعضِ كلماتٍ، ولعلَّها مُجَرَّدُ إِشاراتٍ، إلى ما حازَهُ “جان توما” حينَ وضَعَ مكتوباتَهُ عنِ بلدتهِ “الميناءِ”، أَرضاً وبَحراً وناساً وتاريخاً ووُجوداً؛ إذ أَرى في ما وَضَعَهُ، “جان”، ههُنا، حُضوراً فَذَّاً وانمِيازاً فَريداً، يَفرُقُهُ عَن سِواهُ.

يَتجلَّى “جان توما”، في كِتاباتِهِ عن “المِيناءِ”، سَّاحراً بالكَلِماتِ؛ تَمَكَّنَ مِن أنْ يَجمَعَ، مِن حُروفٍ جامِدةٍ مُتناثرةِ، كَلِماتٍ تُزَغْرِدُ بِنبْضِ الحياةِ، وكأنَّها مِنْ جِنسِ تلكَ العَصا، التي صارَت، بإيمانِ النَّبيِّ مُوسى، “حَيَّةً تَسْعى”، تُذْهِلُ عُيونً النَّاظِرينَ إِليها، وتُدْخِلُ نُفوسَ المُؤمِنينَ بِوُجودِها، مَلَكوتَ الرَّبِّ وقَدْ تَسَربلوا ببهاءِ فرحِ الإيمانِ الخَاشِعِ المِعْطاء.

سَأَحكي لَكُم، إِن سَمَحْتُم لي بِبَعْضِ كَلامٍ، كيفَ رأيتُ “جان توما” يَرفَعُ على عَرْشِ الحَياةِ، بِقَلَمٍ لَهُ، المَاضيَ والحاضِرَ، عَبْرَ فصاحَةِ بلاغَةٍ؛ هِيَ الزَّمانُ والمكانُ والأشخاصُ والأحداثُ، وقد تَأَرْجَحواَ، نابضينَ بالحياةِ، في “عَنْزوقَةِ” العِيدِ، بينَ أحوالٍ، مِن بهجةٍ ووَجَعٍ وفَرَحٍ؛ تَجلَّلت جَميعُها أَكْسِيَةً نُسِجَتْ مِن شَغَفِ الذِّكرياتِ والطُّموحاتِ والآمالِ. هِي ذي، كِتاباتُ “جان توما” عَنِ “الميناء”؛ حيثُ صارَ الماضي يَرْقصُ، مُنْتَشِيَاً على إِيقاعاتِ الحاضِرِ، وباتَ الحاضِرُ يَتمايلُ طَرَباً بتواصُلٍ لهُ مَع نَسائِمٍ مِنْ شَذى الماضي؛ وكَأنَّ الحياةَ، بالفعلِ، وكما يُغنِّي لها “فريد الأطرش”، “حُلْوَةٌ”؛ بَيْدَ أنَّها سَتَنْتَظِرُ، أَبداً، هذا الذي يعرفُ كيفَ يفهمُ ما يَجْري فِيها، ويَعرفُ كَيْفَ يَتذوَّقَ ما تَخْتَزِنَهُ مِن حَلاوةٍ.

لَئن سَمِعنا، أيُّها الكرامُ، مُنذُ زَمَنٍ عَريقِ الحَلا، الرَّحبانيين، “عاصي” و”منصور”، وبصوتِ “فيروز” و”نصري”، يحكونَ عَنْ وَرَقٍ “نُقَصْقِصُهُ”، فَيَصيرَ أناساً ذوي أسماءَ، فَنَتَكلَّمَ مَعَهُم، ويَدْخُلونَ إِلى حَياتِنا، يَرتعونَ مَعنا على دُروبِ فَرحِ العَيْشِ؛ فَها نَحْنُ، يا عَزيزي “جان”، نَعيشُ مَعكَ الحُروفَ كَلِماتٍ، فَتَبني الكَلِماتُ مَدينةً، بِشوارعِها وحاراتِها وزَواريبِها وأزِقَّتِها؛ وها هِيَ “المَدينةُ” تَتَجلَّى “المِينا”؛ فَتُزهِرُ ناساً، نَعيشُهُم ثَمَرَ فَرَحٍ وشَوْقٍ، كَما نَتَعاطفُ مَعَهُم حُزْناً ووَجَعاً؛ ونَشْهَقُ، كذلِكَ، بِهم صَرْخَةَ وِلادةِ حَيَوِيَّةِ الكَلِمَةِ؛ لِنَسْكَرَ، عِنْدئذٍ، مِنْ عُطْرِ حُضورهِم بِبهاءِ التَّصْويرِ الأدبيِّ لِشَعْشَعانِيَّةِ هذا الذي تَكْتُبهُ بِقَلَمِ سِحْرِكَ عَنْهُم.

هذا هُوَ “جان توما”، أيُّها الكِرامُ، إِذْ يُعيدُ صَوْغَ “المِيناء”، لُؤلُؤةً تُلْوَ لؤلؤةٍ، ودُرَّةً تُلْوَ دُرَّةٍ، ودارةً تُلْوَ دارةٍ؛ لا يَنْسى زارُوباً ولا يَتَغافَلُ عَن حِنْيَةٍ ولا يُهْمِلُ باباً أو حتَّى شُبَّاكاً؛ فلا يَغيبُ عَن قَلَمِهِ وُجودٌ لإنسانٍ، لِمُجَرَّدِ أَنَّ هذا الإنسانَ قد كانَ. قادمٌ مِنْ سَفَرِ الوَفاءِ العَذبِ هُو، “جان توما”؛ يُعانِقِ كُلَّ شَخْصٍ، أيَّاً كان هذا الشَّخْصُ؛ إِذْ يَكْفيهِ عِنْدَ “جان”، أنَّهُ غَطَسَ فِي جُرْنِ مَعْمودِيَّةِ بَحْرِ”الميناء”؛ وتَنَشَّقَ هَواءَ شَوارعِها، المَسكونِ بِخَيْراتِ مِلحِ المَوْجِ والحياةِ.

هكذا أنتُم، أَيُّها الكِرامُ، إذا ما كُنتُم تقرأونَ هذهِ المَكتوباتِ التَّاريخيَّةِ والوجدانيَّةِ، في آنٍ، لـ”جان توما”؛ فإنَّكُم تعيشُونَ مُعْجِزَةَ أنْ يَعُبَّ المرءُ مِن عَبَقِ عِطْرِ أُمِّهِ في يومِ عُرْسِها، الذي لا يمكنُ لهُ أن يَكونَ قد وُلِدَ، حينذاك، ليحضرَهُ؛ وها هو، أيضاً، يَحْيا مُرافقَةَ ِوالِدِهِ، المزهوِّ بوردةِ زفافهِ، تَتَألَّقُ في عُروةِ سُترتِهِ، قبل أن يتبرعمَ هو مِن حُبِّ والدِهِ لهُ في رَحِمِ أُمِّهِ.

“جان توما”، إذْ يَكْتُبُ عن “الميناء”، فهوَ السَّاحرُ، الذي يَعرفُ كَيْفَ يُدخِلُكَ إِلى أَعْمَقِ أَعْماقِ ما في جُوانيَّةِ ذاتِكَ؛ وإِنْ كانَ دخولُهُ عليكَ يأتِيكَ مِنْ حَكْيِهِ عن ذواتِ الآخرينَ. ولِشِدَّةِ ما يَغوصُ “توما” في أَعماقِ ما هُوَ خاصُّ الخاصِّ؛ فإنَّهُ يَصِلُ، بِمُسْتَقْبِلِ عَطائهِ الإبْداعيِّ، إِلى عُمقِ جَوْهَرِ ما هُوَ إنْسانيٌّ في كُلِّ واحدٍ مِنَّا.

كأنَّ قَلَمَكَ، يا عزيزي “جان”، قُدَّ، ههُنا، مِنْ بَعْضِ ما قَدْ يُشبهُ الغُصْنَ عَيْنَهُ الذي قُدَّ مِنهُ قَلَما “نجيب محفوظ” و”وليم شكسبير”؛ إذ انْطَلَقَ قلمُ كُلِّ واحدٍ منهما، مِن ظاهرِ الأمرِ وعموميتهِ ومباشَرَتِهِ، غير أَنَّهُ وَصَلَ إلى أبعد ما في جَوْهَرِ ذلكَ الأمر، مِن مَحلِّيَّةٍ وأعمقَ ما فيهِ من خُصوصيَّةٍ وآخرِ ما في أغوارهِ من ذاتيَّةٍ. لَمْ يَجِدْ “محفوظ”، وكذلكَ “شكسبير”، إلاَّ أنَّ ما يَضعَهُ كُلُّ واحدٍ منهما بالقَلَمِ، وقد تربَّعَ سعيداً على عرشِ الإنسانيَّةِ الجامِعةِ الشَّامِلَةِ النَّابِضةِ بِحيويَّةِ الوُجودِ؛ فهلاَّ أَمعنَ قلمُكَ، يا “جان”، عِندَ عربداتِ عطائِهِ، وانفلتَ مِنْ بعضِ عِقالِ الوَصفِ الطَّرِيِّ لِما كانَ، ليخترِقَ جدرانَ السَّردَ الرِّوائيَّ بِالحَكْي الدَّافىء، فيَعْبُرَ سعيداً إلى رِحابِ أدبِ الرِّوايةِ؛ يُحدِّدَ موضوعَهُ، ويُذيبَ هذا الموضوعَ برؤيتِهِ لَهُ، لِيَخلُقَ منهُ جديداً: هو كَيانُ أَدَبٍ لا يَموت؟!

“جان توما”؛ لَكَ منِّي مَوَدَّةً وإِعْجاباً وفَرَحَ التَّلقِّي؛ فَهَلْ لِي مِنْكَ، وَعْدَ مُتابَعَةِ العَطاءِ المَجبولِ بِعَبَقِ الصِّدقِ الحِكائيِّ وأَلَقِ الجَمالِ الأَدَبِيِّ؟

***

(*) ألقيت في “مؤتمر أدباء طرابلس والشمال التاسع”؛ المنعقد يوم السبت الخامس من تشرين الأول 2019، في “مركز الصَّفدي الثَّقافي”، في طرابلس-لبنان.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *