”العميان الجدد”… الخروج إلى عالم جديد – صراع البقاء من أجل النقاء

Views: 772

د.عبد المجيد زراقط

 “العميان الجدد” مجموعة قصص قصيرة لمحمّد إقبال حرب، صدرت مؤخراً عن دار النهضة العربية في بيروت. يشعر قارئ القصة القصيرة بالغبطة عندما تصدر مجموعة قصصيّة قصيرة في زمن هيمنة الرِّواية، ففي كثير من الحالات لا تجد كاتب هذا النوع من لقصص فرصة لنشر إنتاجه، وخصوصاً في هذا الذي الزمن قلّ الإقبال على القراءة الورقيّة.

وضعت عنواناَ لمقاربتي هذه المجموعة المجموعة القصصية هو “الخروج  إلى عالم جديد”، أو “صراع البقاء من أجل النقاء”، وأقصد بـ “الخروج” هنا ما تعنيه وظيفة الوحدة القصصية التي تلي الوحدتين القصصيتّين: الفقد واتخاذ القرار بتعويضه، فالمعروف أنه بعد أن يحدث الفقد وتدركه الشخصية، وتدرك ضرورة تعويضه، تتخذ القرار بالخروج، والسعي من أجل تحقيق ذلك، كما حدث، في ألف ليلة وليلة على سبيل المثال. فبعد أن أدركت شهرزاد الفقد المتمثل بقتل شهريار للفتيات اللواتي كان يتزوج كلٌ منهن لليلة واحدة. أدركت ضرورة تعويض هذا الفقد، وإيقاف مسلسل القتل، فارتضت أن تكون زوجة، وخرجت تحكي حكايتها التي عوّضت الفقد، وروضت “ذكورية” شهريار القاتلة. في هذه المجموعة يبدو لي أن كاتبها يخرج من هذا العالم المعيش إلى عالم آخر جديد يبتدعه بعد أن ادرك أن العيش في هذا العالم غدا صعباً، فالمشاكل تفاقمت، ولم يعد حلّها ممكنا. ولهذا فهو خروج كما في قصة “زقزقة” إلى فراشه (لبني البشر الذين ينتمي لهم حبّاً وغصباً) فيبدو الفراش كأنّه الرحم الذي كان يوفر له الغذاء والأمان والدفء. لكن هذا الفراش يغدو، وهو يريد دغن مشاكله كلها تحته “لحداً”. ينبض قلبه فيه بسرعة كأرنب تطارده الذّئاب بعد فراره من الثعابين, لكن “زقزقة” عصفورة تبعث في أعماقه ما يسمى إنساناً لأنها تنطق بالصّدق والعفوية والبراءة. عندما يغدو الفراش لحداً وتصير الفصول جميعها خريفاً، ويهاجر الطير … ماذا يفعل المرء في زمن النّكد.

الأديب محمد إقبال حرب موقعًا كتابه

 

تجيب هذه المجموعة: في النّكد الذي يهجره الطير، بما يرمز إليه، من جمال وصدق وعفوية، يخرج المرء إلى عالم جديد، فأي عالم هو هذا الذي خرج إليه من عاش يدفن أسقامه الاجتماعية في فراشه الذي تحول إلى لحد؟ ثم ما هي الوسيلة التي يستخدمها للخروج إلى هذا العالم الجديد الذي يبتدعه؟

أذكر أني قرأت قولاً لـ “يونغ” صاحب نظرية “اللاوعي الجمعي” مفاده أن الفن هو يجلوا صدأ العيش، وهو ما يخرج الإنسان من عالم لا يُحتمل العيش فيه إلى عالم جديد خاصّ يكون سيّده، ويعوّض الفقد الذي أجبره على الخروج من عالم لا يحتمل العيش فيه، وهو ما يخرج الإنسان من عالم لا يُحتمل العيش فيه. والأدب فن يؤدّي الوظيفة. ويبدو لي أن محمّد إقبال حرب تخيل قصص مجموعته هذه التي تكاد تكون نصاً واحداً، عالماً جديداً كان هو سيده.

يتمثل هذا العالم الذي تجري فيه أحداث قصص هذه المجموعة في أربعة فضاءات قصّي: أولها فضاء الطبيعة والأشياء، كما في قصّتي “تفّاح” و”سباق النجوم”، وثانيها فضاء افتراض كما في قصة “فايسووبوكّة”، قصة حب عصرية, وثالثهافضاء الحياة البشرية، كما في قصص “العميان الجدد” و “اسرار المخدات” و “تأميم الأجساد”، ورابعها فضاء الكون بكل ما فيه من كواكب ومجرّات وكواكب متخيلة.

في الفضاء الأول تجري أحداث متخيّلة شخصياتها أشياء ترمز إلى البشر. سمّي هذا النوع من القصص خرافات، ويعرّف بأنه قصّ متخيّل لا عالم مرجعياً له. ويهدف إلى تقديم حكمة. قصّة “تفاح” في هذه المجموعة، تنتمي إلى هذا النوع من القصّ، وفيها يجري حوار بين تفاحتين: حمراء وخضراء، واللّافت في هذا الحوار أن التفّاحة الحمراء التي تقول بثقة إنها حين تقدر على رسم قدرها للأفضل ستفعل من دون تردد “صفحة 22″، لكنها تقرُّ، بعد قليل، أن قدر التفاح أن يؤكل بطريقة ما “ص 23″، ما يعني العجز عن تغيير القدر. ولعلّ وعي هذه الحقيقة أو لا وعيها، هو الذي يخرج العاجز إلى عالم آخر. وإن كان من خروج إلى الفضاء الافتراضي، وهو الفضاء الثاني، في هذه المجموعة يلاحظ من القصة التي تجري في هذا العالم وفرة مصطلحات العالم الافتراضي واقتحام “فايروس” حساب السيدة “بوكّة” بشراسة فأجهضت، فلم يحتمل السيّد “فايسو” الصّدمة فألغى حسابه. إن عالماً يقتحمه “فايروس” ليس العالم الملاذ، ما أفضى إلى فضاء الحياة البشرية، وتغيير قوانينه وشروط العيش فيه. ففي قصة “العميان الجدد” وهي القصة التي تجري أحداثها في 20 آب سنة 2054، ما يعني أن ما يروى من أحداث هو تحيّل افتراض لما سيجري في ذلك العام. فكأن القصة تنتمي إلى الخيال العلمي تروي أحداثاً متخيّلة ترتكز على أساس علمي. والأحداث في هذه القصة افتراضي مفاده فقد البشرية حاسة البصر نتيجة موجة تلوين اللون القرمزي كوكب الأرض. وإذا ما تم هذا الفقد سقطت الحضارة “ص 31″، ومظاهر السقوط كثيرة

ويعلو صوت يقول: “لا، لن نعود بكم إلى لعنة البصر بل إلى نعمة البصيرة” ويسأل الصوت: “ماذا يهمكم من أرض تحفل بنور لا ترونه” هذا الصوت دال على عدم الرؤية الصحيحة “رؤية النور” الذي تبينه البصيرة، وهي فعيلة، صيغة مبالغة من البصر. وهذه رؤية تكشف واقعاً، وتدعو إلى تغييرهن فالمبصرون الذين لا يرون النور هم عميان، وإن كانوا مبصرين. فما جدوى البصر لمن لا يرى.

وفي قصة “أسرار المخدات”  يتغير قانون العالم الطبيعي، فتبوح المخدّات لأحدهم بأسرار من يضع رأسه عليها. فيعلن هذا الحقائق التي تنطق المخدات بها فتتعالى الأصوات: لا نريد الحقيقة فالعالم كلّه مبني على الكذب والخداع.، ومعرفة الحقيقة تهدمه، وتتسبب بمآسٍ كثيرة. والفكرة معرفة الحقيقة المدمرة قديمة، كفيلم سينمائي عنوانه “أرض النفاق” على سبيل المثال، نطقت بها مأساة أوديب وقصص أخرى. إن فكرة “المخدة التي تحكي الحكايات قد استخدمت، وأنا قد أصدرت مجموعة قصصية عنوانها “حكايات مخدتي”. والمخدة في هذه الحكايات لا تبوح بأسرار وإنما تحكي حكايات تربوية مسلية ممتعة.

وفي قصة “تأميم الأجساد” ص “82” يصدر القرار الأخير بتأميم الأجساد لمصلحة الوطن والمواطن، إذ ليس من العدل أن يستمتع فرد ما بجسد مفعم بالحب والإثارة لسنوات، بينما مواطن آخر، من الجنس والعمر نفسه، تفرض عليه إقامة علاقة مع جسد كريه بسبب غلطة يوم قرر أو قررت الزواج. وقال القرار بإلغاء المؤسسة الزوجية كما هو متعارف عليه من أجل مجتمع متكافئ عادل ”

يلقى هذا القرار معارضة، ويُلغى، لكنه يصدر من منظور مفاده “الأجساد هي أملاك عامّة تسكنها أرواحنا لتخدم البشرية، من اجل التوصّل إلى حياة أزلية، تكتنف الكون بأرواح نورانية، بعيداً عن أجساد بائدة مضطرين أن عليها ضيوفاً رغماً عنّا.” ص 83

تتكرر رؤية هذا المنظور في قصص هذه المجموعة، كما في قصة “عقد إيجار” ص 66. ومما جاء فيها:” أيها الرّجل، عندما تولد نحدّد مدّة استخدامك لجسد وُهب لاستضافتك”. وإذ ينتهي عمر الجسد، تسكن الروح في جسد آخر. ففي هذه القصة “يهب الرّجل الذي أصبح أنثى، بل راقصة في معبد وليس طاهناً”. وفي قصة الخديج (ص 136) ، يقول الكيان “الجسد هو الجهاز الذي لا يفيد بشيء إذا لم تصله الكهرباء لتشغل القرص الصلب، والروح التي هي أنت توازي الكهرباء التي توصل الطّاقة فلا تفيد أو تستفيد من المعلومات بشيء. أما النّفس فهي ذلك القرص الذي يحتوي كل البرامج المشغّلة والمعلومات التي هي في الحقيقة جهاز الحاسوب. عندكا ينزع القرص لا قيمة للجهاز ولا فائدة من الكهرباء” (ص 142 و143)

ما يقوله “الكيان” عرض رؤية فكرية، ما يجعل القصّة وسيلة أداء معرفة فكرية موضوعها الوجود الإنساني. مكونات الإنسان: الجسد والروح والنّفس، الموت والحياة. فما يموت هو الجسد، والروح تذهب كما نقرأ في صفحة تالية إلى مركز تأهيل (ص144) والنفس هي العقل المدبّر(إعادة) أو المحرّك لكل التصرفات (ص 147). ويستشهد بآيات من القرآن الكريم عن النفس المطمئنة، والنفس اللوّامة والنفس الأمارة بالسوء، ويرى أن العقاب لا يكون إلا بعد الحساب. ولهذا فهو يقول: “ألا ترى بأنكم تفرحون لقادم إلى دار بلاء وفناء، وتولولون لراحل إلى رحمن رحيم، أليس من الأفضل أن تقيموا الأفراح لمن سيلقى رباً رحيماً” (ص 145). تبدو هذه الفكرة كأنها تنويع على فكرة التقمص وتعدّد الولادات. غير أن القائل بها يحاول أن يجد سنداً لها من القرآن الكريم. يقول الكيان:” يا هذا أنت في ضيافة الرحمن حتى تبتعث في مهمة أخرى. فما بالك، وأنت روح، وبك من روح الله ذرة كما قلت بذاتك. ليتك تتذكر أنك جئت إلينا آلاف المرات، وأعدنا برمجتك آلاف المرات من دون أي مشكلات”. (ص155).

وهذه الرؤية تفتح العوالم فيغدو الكون عاماً مفتوحاً ، ويصير الفضاء القصصي في كثير من القصص هو القصص وهذا الكون المفتوح. فأصحاب قرار تأميم الأجساد قالوا أنم لم يتخذوا هذا القرار جزافاً. وقد اتخذوه بعد الاطلاع على مسيرة الكواكب الأقدم في مجرّة درب التبّانة. واشتهر كوكب فيغا وكوكب الزّهرة “اللذين تحولا إلى مجموعة الكواكب النورانية منذ أمد طويل، وبذلك توصلوا إلى الأبدّية، كما إلى عدم الاعتماد على المواد العضوية من أجل البقاء.” وإذ يصبح الكون فضاء قصصياً يغدو القص غرائبياً. بدت بعض ملامح هذه الغرائبية في تغيير قوانين الحياة البشريةفي بعض القصص التي تجري أحداثها في فضاء هذه الحياة، لكن الغرائبية في القصص التي تجري أحداثها في الفضاء الكوني تصبح هي السائدة ويصبح الرّاوي سيّد عالم من القصص، فينشئه كما يشاء, ونماذج ذلك كثيرة . نذكر منها على سبيل المثال: “عندما كان كوكب الأرض مربعاً، سكنه أناس بأوجه مثلثة. كانوا بعين واحدة وأنف صغير وفم واسع.” (ص 38)

_ “مدّت يدها إلى السماء كما كل ليلة ، لتقطف ما نضج من ثمار النجوم من دون عناء أو ضجر” (ص 98).

_ “فأمسك بزمام غيمة قريبة وأقودها كما كنت أقود الحمار في ضيعتي عندما كنت طفلاً” (ص 98)

_” تعلّمت أن اضع النجوم التي أقطف بعد عدّها في زجاجة حليب ورثتها عن طفولتي، ثم أخفقها جيّداً بعد إضافة رحيق البدر مع بقايا محاق القمر الأزرق” (ص 115).

هذا عالم يصنعه القاصّ ويخرج إليه، ويتخيّل عاماً يعيش فيه نوع آخر من المخلوقات. يقول الرّاوي في قصّة “المشيمي” (ص 176): “لكنهم على كوكب فيغا، وعلى مرّ العصور، أثبتوا جدارتهم في إذابة أنواع الحياة الذكية بأشكالها في حميمية إصرارهم على كون يتّسع للجميع. لقد أشاعوا المودة للمجرات حتى أضحى كوكبهم صلة وصل الحضارات ونارة السلام الكوني”. (ص 177)

هذا هو العالم الجديد الذي يخرج إليه، ومن خروجه سترافقه حوريّات الرّبيع غبر حرّ وصقيع إلى أبواب الحقيقة، ليدرك سرّ الوجود فيغدوا كائناً يدرك أن حقيقة الوجود إنما هي صراع البقاء من أجل النقاء. (ص 118)

وهذا الإدراك يأتي في زمن آن فيه أوان البصيرة فيرفع المرء رأسه ويقول: صرت نقياً وغدت الحرية لي مصيراً وليس خياراً فحسب.

****

(*) ألقيت في الندوة حول كتاب “العميان الجدد” للأديب محمد إقبال حرب في المكتبة الوطنية في بيروت. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *