صَليبُ النُّورِ وعَتْمَةُ القُلوب

Views: 285

الأب كميل مبارك

بَيْنَ ارْتِفاعِ الصَّليبِ على الجُلْجُلَةِ وارْتِفاعِهِ نَارًا على قِمَم الجِبالِ وارْتِفاعِه عَلامَةَ انْتِصارٍ في السَّماء، دَرْبٌ طَويلٌ مَحْفُوفٌ بأَلْفِ إكْليلٍ وإكْليلٍ مِنَ الأَشْواك، وكأَنَّ أَزْهارَ المُعاناةِ لا تَتَفَتَّحُ إلّاَ مُرْتَوِيَةً بدِماءِ الشُّهَداءِ، وَمُعَطَّرَةً بأَريج الإيمانِ الثَّابِت، مَهْمَا عَصَفَتْ رِياحُ الشَّرِّ وعَتَتْ أَمْواجُ الظُّلْم.

وبينَ رُمْح ذاك الرُّومَانيِّ الذَّي دَخَلَ جَنْبَ المَسيح على صَليِبهِ،ِ ورمِاح الفَاتحِينَ الغُزَاة الذَّينَ فاخَرُوا بنِهْب عود الصَّليب،ِ مَوْعِدُ لقِاءٍ جَمَعَ العَدَاوَةَ والتَّبَاغُضَ والأحَقاد، وتمَظْهَرَ حَرْقًا ونهَبًا وقتَلاً، وكأنَّ المُحَرِّكَ الأوَّلَ، الذَّي ألَبَسَ الرُّومَانيِّ الخُوذَةَ والرُّمْحَ، وأنَطْقَ اليَهُوديّ صارخًا اصْلبوه، ودَفعَ الفَارسِيَّ  إلى بيَت المَقْدسِ ليَسْلُبَ الصَّليبَ إذْلالاً لأتَبْاعِه،ِ لا يزالُ ناشِطًا في مَنْ يهَدمُ اليَوْم كنَائسِ الناَّس ومَعابدهُم ويحُطّم رُمُوزَهُم مُعْلنًا، بلِسَانٍ خَالَطَ فيه الباطلُ الحَقَّ كمَا لا يستطيعُ إنسانٌ أَنْ يَخْلِطَ بَيْنَهُما، أنَّهُ يَفْعَلُ ذلك مَرْضاةً لله، مُحقِّقًا كلامَ السَّيِّدِ المَسيح النَّبَوِيِّ حينَ قالَ:

ستَأتْي أيَاَّمٌ كُلُّ مَنْ يذَبحكُم يعتَقد أنَهُ يقُدِّمُ لله قرباَناً.

هذا هو الصَّليبُ، كانَ ولا يزالُ آلةَ تَعْذيبٍ وطَريقًا للمَوْت، لكنَّ الجاهِلَ والكافِرَ والحاقِدَ وفاعِلَ إِرادةِ الشَّيْطان، نَسِيَ أَنَّ هذا الصَّليبَ بالذَّاتِ باتَ، بَعْدَ سِرِّ الفِداءِ، علامَةَ غَلَبَةٍ وانْتِصَار. مع المَسيح المَصْلُوب ماتَ المَوْتُ والخَطِيئَةُ والشَّيْطانُ، وأَصْبَحَ هذا الصَّليبُ بفِعْلِ المَصْلُوبِ عَلَيْه، جِسْرَ عُبُورٍ مِنَ المَوْتِ إلى الحَيَاة، مِنْ وادي الجُوعِ والأَلَم والظُّلْم والعَطَشِ والحُزْنِ والبُكَاءِ، إلى جَنَّاتِ نَعيم لا يَسْتَطِيعُ المَوْتُ إلَيْهَا سَبيلا.

هذا هو الصَّليبُ الذَّي إذَا مَا رآهُ الشَّيْطَانُ ارْتعَدَ وأرغَى وأزبَدَ وراحَ يعيثُ في الأرض فسَادًا، ويزرَعُ في النَّاس الضَّلالَ، ويمتَهِنُ المَوْتَ حِرْفةَ، لا يزالُ هذا الصَّليبُ يَفْعَلُ فِعْلَهُ في نَفْسِ كُلِّ مَنْ يَسْعَى إلى مَرْضَاةِ الشَّيْطانِ مُنْجَرِفًا خَلْفَ حِيَلهِ واقعًا في أحَابيلهِ،ِ بجَهْل أو بعِلْم، فَيَقومُ مَقَامَه في فِعْلِ مَا شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ وقصَّرَ عَنْ فِعْلِه، فاسْتَعَانَ ببعْض النَّاس يصلُون إلى مَنْ يُفْتَرَضُ أنَ يكَونُوا إخْوَةً لَهُم في الإِنْسَانيّة،ِ وإن اخْتَلَفُوا عَنْهُم ثَقَافةً ودينًا، ويُنَفِّذونَ مَا يأمُرهُم الشَّيْطَانُ بفِعْلهِ تحَتَ سِتَار العِبَادَةِ والدِّفاَع عَنْ حَقِّ الله بالوحْدَانيّة، وكأنَّ الله في حاجَة إلى مَنْ يُدَافع عَنْ حَقِّه، لضُعْفِه أو عَجْزِهِ أوَ نَقْصِه،ِ وهو الذَّي بَرَّأ الدُّنْيَا مِنَ العَدَم وأنبَتَ الجبالَ وَشَقَّ البَحْرَ وفجَّرَ المَاءَ مِنَ الصَّخْر.

هذا هو الصَّليبُ، صورَةُ الوَعْدِ بأَنَّ مَنْ يَتْبَعُ الَّذي صُلِبَ عَلَيْه، سَيَلْقى في العَالَم ضِيقًا، مع وَعْدٍ آخَرَ مُرَافِق لَه، بأَنَّ الغَلَبَةَ سَتَكونُ للصَّليب، ومَهْمَا اشْتَدَّتْ عَتْمَةُ العُقولِ لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخْتَرِقَها شُعَاعُ الحَقِّ وَتَهْتَدِي.

تشرين الأول  أكتوبر، 2014

****

(*) من كتاب “حين يكثر الحصرم” الصادر عام 2018

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *