حينَ يَغْلِبُ الطَّبْعُ التطَبُّعَ

Views: 1074

الأب كميل مبارك

يُرْوى عِنْدَنا في المَنْطِقةِ عن رجُلٍ اسْمُهُ يوسف افرام، أَنَّه ذَهَبَ مَرَّةً إلى الصَّيْدِ وعادَ بجَرْوِ ثَعْلَب، فقَرَّرَ تَرْبِيَتَه وتَدْجينَه، رغْبَةً مِنْهُ في جَعْلِهِ يقومُ مَقامَ كَلْبِ الحِراسَة. وهكَذا أَخَذَ يُطْعِمُهُ ويُدَلِّلُه ويتوَدَّدُ إلَيْهِ حتَّى أَلِفَ هذا الحيوان صديقَه الِإنْسان وباتَ ينامُ على قَدَمَيْه ويأْكُلُ من يَدِهِ، ويأْتي إلَيْه كُلَّما ناداهُ ويَتَفَقَّده في غِيابِه إذا طال. وكذلك يوسفُ وَثِقَ بهذا الثَّعلب، وراحَ من حين إلى آخَر يفُكُّ رِباطَه ويُطْلِقه كي يَلْعبَ ويعودَ إلى مَأْواه، تمامًا كالكَلْبِ الأَمين الوفِي، وهكذا توَطَّدَتِ العَلاقَةُ بين الِإنْسانِ المَنْطِقِيِّ والسَّليم العَقْل وهذا الثَّعْلبِ الَّذي كانَ برِّيًّا يترَصَّدُ الأَحْياءَ السَّكَنِيَّةَ كَيْ يفْعَلَ مَا تُمْليه عَلَيْه غَريزَتُه. إلى أَنْ جاءَ اليَوْمُ الَّذي أَرادَ فيهِ يوسُف افرام الذَّهابَ إلى القدَّاسِ مع عائِلَتِه، فتركَ جَرْوَه العزيزَ طَليقًا بِلا قَيْدٍ ولا رِباط، لِيَقينِه أَنَّه أَصْبَحَ أَليفًا لَطيفًا، ولَوْلا المُبالَغَة، لَقُلْنا عَفيفًا شَريفًا.

 ومَا إنْ عادَ وعائِلتَه من القدَّاسِ الَّذي لم يَدُمْ أَكْثرَ من ساعةٍ، حتَّى وَجَدَ صديقَه المَزْعوم وقد عاثَ في مُحْتَوَياتِ البَيْت، وخَلَعَ خُمَّ الدَّجاج فنَتَفَ هذه وقَتَلَ تِلْكَ وحَمَلَ مَا اسْتَطاعَ مِنْهاووَلَّى الإدْبار، تارِكًا وَراءَه صديقَه يوسف واقِعًا في خَيْبَةِ أَمَلٍ ووجوم صامِت، يحُكُّ رأْسَه حينًا وذَقْنَه أَحْيانًا، متأَمِّلاً كيفَ أَنَّ الطَّبْعَ يغْلِبُ التَّطَبُّعَ وأَنَّ مَن اعْتادَ الغَدْرَ لا يُمْكِنُه الوَفاء، ومَن اعْتادَ النِّفاقَ لا يمكِنُ أَنْ يتَرَبَّى على الوِفاق.

وأَصْبَحَتْ علاقَتُه بجَرْوِه الصَّغيرِ الوَدودِ مَضْرِبَ مَثَلٍ بقِلَّةِ الأَمانَةِ وعِظَم الخِيانَة، فبِتْنا نقولُ عِنْدَنا عن كلِّ إنسانٍ يتنَكَّرُ للوِدادِ ويَغْدُرُ بالعِباد، ويَخونُ الأَمانَةَ والعُهود، ويَضْرِبُ عُرْضَ الحائِطِ بالمَواثيق، “مِثْل واوي يوسف افرام”.

وهكذا انْتَصَحَ كثيرون من هذه الحادِثَةِ اللَّطيفةِ الموجِعَةِ، وأَخَذوا يُعيدون النَّظَرَ في عَلاقاتِهم وارتِباطاتِهم، ويدْرُسون طبائِعَ النَّاسِ وتصرُّفاتِهم، وذلكَ بهَدَفِ البُنْيانِ على أَساسٍ ثابِت، لا يُعَرِّضُ بانِيَه للصَّدْمةِ أَو للفَشَلِ أَو لخَيْبَةِ الأَمل، فتراجَعوا أَمامَ الكثيرِ من الارْتِباطاتِ والعَديدِ من الالْتِزامات، حُجَّتُهم أَحْيانًا المَثَل المَعْروف: «مَنْ جَرَّبَ المجرَّبَ كانَ عقلُه مُخَرَّبًا »، وأَحْيانًا يذْكُرون سِرًّا وجَهْرًا، خَبَرِيَّةَ «واوي يوسف افرام»، ليُجَنِّبوا أَنْفُسَهم وأَصْدِقاءَهم الوُقوعَ في الفَخِّ أَكثرَ من مرَّة.

واليَوْم يتساءَلُ كثيرون من النَّاسِ عن خَطَإٍ قد يُرْتَكَبُ على مُسْتَوى أَكْبَر من الأَفْرادِ والجَماعات ليَطولَ المُواطِنين كافَّة: هل نحن أَمامَ تَجْرِبَةٍ جديدَة لِمَنْ جرَّبْناه؟ أَم نحن أَمامَ «واوي يوسف افرام » وقد أَطْلَقْنا رِباطَه لثِقَتِنا به، وسَوْفَ نعودُ لنراه من جديد وقد غَلَبَ طَبْعُه التَّطَبُّعَ وعادَ إلى غَريزَتِه يهْتَدي بِها ليُخَرِّبَ البلادَ ويَفْتكَ بالعِباد؟

(تموز – يوليو، 2008 ) 

*** 

 

(*)  من كتاب “حين يكثر الحِصرِم” (2018)، يتضمن افتتاحيات الأب كميل مبارك في مجلة “الرعية” بين 2007 و2017.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *