المحتوى الرقمي العربي وسبل تعزيزه واستثماره
فيصل طالب
(المدير العام السابق لوزارة الثقافة)
مجتمع المعرفة واللغة العربية
يواجه العالم العربي في العصر الراهن تحديات ضخمة وغير مسبوقة في تاريخ العرب، القديم منه والحديث. إنها تحديات علمية واقتصادية وثقافية ولغوية بل وجودية. (https://publishedreporter.com/) ولعل أكثر مشهدياتها سطوعاً المشهد التكنولوجي- المعلوماتي، بكل تجلياته وتداعياته، الذي يفرض علينا الإجابة عن سؤال أساس: ماذا يجري حولنا، وكيف لنا أن نواجه ثقافة عصر المعلومات التي نلهث للحاق بركبها وتسارع إنجازاتها؟
إن التفاعل مع الثورة الإلكترونية يفترض إعادة صياغة منظومة العلاقات داخل مجتمعاتنا، بحيث تسهم هذه الثورة في إنشاء صناعة ثقافية ذات جدوى اقتصادية، وفي تظهير معاصر للتراث العربي، وإعادة اكتشاف أنفسنا، وقراءة دورنا في حركة التاريخ الإنساني من منظور عقلاني لا عاطفي، في سعي متجدد لاسترجاع الثقة بالنفس، ووقف هجرة الأدمغة والموارد البشرية الكفوءة والمتخصصة، وإعادة تشكيل الشخصية الثقافية العربية، وتجديد الدعوة إلى وعي إيجابيات العولمة وسلبياتها، و”دمقرطة “ الثقافة، وتعزيز الإنتاجات الثقافية والعلمية والرقمية ونشر موادها وتعميم فوائدها، تحت سقف الأمن الثقافي العربي الذي يحمي إنجازاتنا في مختلف الميادين، ويقيها من أخطار الاستلاب والتسرّب والضياع. إن العمل على زيادة الوعي بأهمية الدخول إلى عصر المعلومات يشكّل ركيزة أساسية لاقتصاد المعرفة كي يكون سبيلاً مهمّاً من سبل التنمية المستدامة في مجتمعاتنا التي تتطلع إلى تحقيق التقدم، ومواكبة حركة الحداثة.
إن ثورة المعلومات فرضت على الإنسان العربي، من ضمن الشبكة المتداخلة من التحديات المختلفة التي تواجهه، تحدّياً لغوياً متأتياً من العولمة اللغوية، التي تتقدم بخطى ثابتة كلّما أمعنَّا في تغييب السياسة التربوية والثقافية الكفيلة بتعزيز واقع اللغة العربية في حياتنا بعامة، وفي الاستخدام المعلوماتي بخاصة، لتلبية الاحتياجات المعلوماتية للمستخدمين العرب للشبكة العنكبوتية؛ ولا يكون ذلك إِلَّا بزيادة منسوب الإسهام العربي في منجزات العصر الرقمي، بالمشاركة الفعالة في إنتاج المعرفة، والسعي الحثيث للحفاظ على مقوِّمات شخصيتنا الثقافية؛ وأوّلها بطبيعة الحال اللغة العربية التي تواجه في عصرنا الحالي ضغوطات المواكبة اللصيقة للمنجزات التقنية.
غير أنّ كل ذلك لا يمنع من طرح السؤال: هل تحمل اللغة العربية بحكم مكوّناتها وخصائصها حيوية التفاعل الإيجابي مع الثورة الالكترونية، والمشاركة الفعّالة في مجتمع المعرفة؟
لنعترف أوّلاً أنّ التراجع الذي لحق باللغة العربية، ليس فقط في نطاق العالم الافتراضي، بل في مندرجات حياتنا العامة، ليس منعزلاً عن التراجع العام الذي أصيبت به جوانب أخرى من المنظومة المتكاملة للحياة السياسية والثقافية والاقتصادية العربية.
ولنتفق ثانياً على أنّه لا يمكن لأي أمّة أن تحظى بالحضور الفاعل والنهضة العامرة في أيّ عصر من عصورها، إِلَّا بلغتها الدالّة على هُوِيّتها، والقادرة على مواكبة التطوّرات في مختلف المجالات. هكذا كانت حال اللغة العربية يوم استوعبت مصطلحات ومفاهيم الرياضيات والمنطق والطب والفلسفة والفلك والأدب، من طريق الترجمة في العصر العباسي؛ في الوقت الذي كانت فيه اللغات المصنّفة اليوم لغات العلم والمعرفة لغات عاجزة عجزَ أهلها عن النهوض والتقدم في القرون الوسطى ! فكيف يستقيم القول إذاً إنّ اللغة العربية قاصرة عن مواكبة التطوّر والاستجابة لمفاعيل تقنيات التواصل والاتصال الحديثة، وهي التي تمتلك قدرات ذاتية هائلة في الإعراب والاشتقاق والتوليد اللفظي والدلالي والتعريب والقياس والترادف والتضاد والنحت…؟!
لذلك فإنّ هذا التراجع الموصوف للغة العربية، ليس سببه قصور اللغة أو عقمها، بل هو قصور أبنائها عن تمثّل محمولها الثقافي، واستنكافهم عن استخدامها في عالم المجتمع المعرفي، وعجزهم عن ابتداع تلك المعادلة الذهبية التي اهتدت إليها أمم أخرى، كاليابان والصين وكوريا وماليزيا على سبيل المثال لا الحصر، في التمسّك بالهويّة القوميّة وولوج عصر الحداثة والمعرفة من أوسع أبوابه، من دون الوقوع في إشكاليات الثنائيات المتعارضة، وما تفضي إليه من اضطراب وازدواج في الشخصية الثقافية، ومن غير الاستناد الى ما هو تقني فقط، وإغفال أو إهمال ما هو فكري أو فلسفي، بل بالموازنة بين هذا وذاك لفتح الطريق أمام إنتاج المعرفة بكل أشكالها وأنواعها ؛ الأمر الذي يحفظ سمة البناء الثقافي والحضاري للإنسان العربي.
أوّلاً: واقع المحتوى الرقمي العربي
احتلّت اللغة العربية المرتبة الرابعة بين اللغات العشر المستخدمة على شبكة الإنترنت في العام ٢٠١٥، بعدما بلغت المرتبة السابعة في العام ٢٠١٢، (هي اللغة الرابعة عالمياً من حيث الانتشار )، بمحتوى رقمي يتراوح بين ١٪ و٣٪ من أصل المحتوى الرقمي العالمي، وبنسبة استخدام عربي لا تتجاوز ٥ ٪ من مجموع المستخدمين في العالم ؛ وذلك بحسب دراسات مراكز متخصصة ؛ مع ما يعتري ذلك من ضبابية المؤشرات التي تشي بتطوّر المحتوى الرقمي العربي استناداً إلى المقاييس المستخدمة، في ظلّ وجود نسبة كبيرة منه غير مرئيّة لمحرّكات البحث، والتغيّر السريع لحركته، ووجود مواد مكرّرة…؛ الأمر الذي يصعّب قياس حجمه بدقة عالية. ومع ذلك، فإنّ اللغة العربية، بحسب تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (آسكوا)، حقّقت أعلى نسبة نموّ على شبكة الإنترنت بين العامين ٢٠٠٠و٢٠١١، بالمقارنة مع اللغات الأخرى.
إنّ الفجوة الرقمية التي يعانيها المحتوى الرقمي العربي مربّعة الأضلاع:
• فجوة هائلة بين شكلي المحتوى المعرفي العربي الورقي والرقمي.
• فجوة بين المحتوى العربي والمحتوى العالمي.
• فجوة بين عدد المستخدمين العرب وبين المحتوى الرقمي العربي.
• فجوة بين طغيان النصوص وضآلة المحتوى السمعي – البصري.
تجدر الإشارة إلى أن قسماً كبيراً من هذا المحتوى معرّب من لغات أجنبية، وأن تدنّي نسبته العامة تعود إلى معوّقات عديدة، من بينها:
أ- معوّقات حقوقية وقانونية:
– عدم ضمان الحقوق الفكرية للناشرين على شبكة الإنترنت، على قاعدة أنّ صناعة المحتوى الرقمي هي امتداد لصناعة المحتوى الورقي.
– عدم قيام الدول العربية بمشاريع وطنية، بالاتفاق مع شركات عالمية متخصصة، بالتخلّي عن ملكيتها لمحفوظاتها الوطنية وتحويلها إلى رقمية (تجربة الهند الرائدة في هذا المجال.)
– إنّ قوانين الاتصالات والجرائم الإلكترونية ليست معتمدة ومنتشرة على كامل مساحة الوطن العربي، بما يكفل حماية حقوق الناشرين والمستخدمين على السواء.
ب- معوقات تقنية:
– ضعف البنية التحتية التقنية (سرعة الإنترنت والشبكات النحاسية أو الألياف الضوئية وملاءمة قدرتها لتزايد عدد المستخدمين (وضعف الأدوات والتقنيات اللازمة لإعداد المحتوى وتنظيمه وإدارته، كأدوات معالجة المحتوى العربي على الحواسيب(مدققات النحو والصرف، وأدوات الإملاء الصوتي، والقراءة الآلية للنصوص…).
• نقص الإمكانيات التقنية التي توفّر الحماية اللازمة للنشر الالكتروني وملكياته الفكرية من القرصنة.
ج- معوّقات حوكميّة:
– ضعف الرؤية المتعلقة بسياسات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي لا تقتصر فقط على استثمار الإنترنت وإدارته، بل تشتمل على أبعاد أخرى تتصل بالبنية التحتية، والتنمية المستدامة؛ فضلاً عن أنّ غياب التنسيق بين البلدان العربية، بمؤسساتها الحكومية والخاصة، في مجال تعزيز المحتوى الرقمي العربي، يشكّل عائقاً حوكمياً في حسن إدارة هذا الملف.
د- معوّقات ثقافية: إنّ حجم المحتوى الرقمي العربي ونوعه مرتبطان بضعف إسهام الفاعلين الثقافيين في إنتاج المواد المعرفية باللغة العربية، في ضوء واقع الأطر التقنية المتاحة؛ ومن غير أن ننسى الدور السلبي الذي يتسبّب به عدم إتقان اللغات الأجنبية الأكثر انتشاراً على الشبكة العنكبوتية، معطوفاً على واقع المحتوى الرقمي العربي الضعيف، في تراجع نسبة ارتيادها من قبل المستخدمين العرب؛ على حين يلجأ الذين يتقنون هذه اللغات، وفي ظل الواقع نفسه للمحتوى الرقمي العربي الذي ليست لديه القدرة لتلبية احتياجاتهم المطلوبة، إلى الانصراف عن الاهتمام بإثراء هذا المحتوى وارتياده.
هـ- معوّقات اقتصادية: إنّ تنمية صناعة المحتوى الرقمي العربي، وتطوير القدرات الاقتصادية في البلاد العربية مرتبطان جدليّاً، بحيث يتبادلان التأثّر والتأثير بينهما.
إنّ ضعف المحتوى الرقمي العربي عائق كبير أمام التحوّل العربي إلى اقتصاد المعرفة، وولوج التنمية الاجتماعية والاقتصادية من هذا الباب الكبير الذي يتيح فرصاً هائلة للعمل والتطوّر. ولا شكّ في أنّ الواقع الراهن لهذا المحتوى هو نتاج الحالة العربية العامة، كما أسلفنا، وأنّ تضييق الفجوة الرقمية بين المجتمعات العربية والعالمية يجب أن تكون غاية كبرى للعرب على المستويين الوطني والقومي، من أجل النفاذ إلى العالم بالحضور” العالمي” في وجه الغزو المعولم!
ثانياً: تعزيز المحتوى الرقمي العربي
لتعزيز المحتوى الرقمي العربي، لا بدّ له من أن ينطلق من قاعدة استراتيجية واضحة الآليات والمعطيات والغايات، يتقدّم أولوياتها الأساسية التأكيد على حضور اللغة العربية بين اللغات العالمية، والتشجيع على استخدامها في الفضاء الرقمي. ومن بين هذه الأولويات:
• وضع مؤشِّر علمي دقيق للمحتوى الرقمي العربي يوضح الخط البياني لتطوّره أو نكوصه؛ بحيث يمكّن الدارسين من تبصّر الخطط المستقبلية لتعزيزه وإنمائه.
• إنشاء مؤسسة عربية، في نطاق المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تتولّى رصد الواقع الرقمي، وتقوم بإجراء الدراسات الهادفة إلى توفير التخطيط المناسب، وتقديم الدعم المادي والتقني واللوجستي لمشاريع تحسين القدرات للمحتوى الرقمي العربي. كما تتكفّل هذه المؤسسة بتقديم المنح والجوائز للأفراد المتميّزين والمؤسسات العاملة في نطاق صناعة المحتوى العربي، وتعزيز حضوره.
• العمل على إيجاد سوق تنافسية لمجتمع المعلومات العربي، على قاعدة أنّ تطوير المحتوى الرقمي هو المحرّك الأساس للاقتصاد المعرفي.
• التعاون مع المنظمات الدولية للاستفادة من التراكم الكمّي والنوعي لخبراتها في الفضاء الرقمي.
• تطوير المحتوى الرقمي العربي، بالتزامن مع زيادة كفاءة البنية التحتية والبرمجية الخادمة له
• اعتبار التدوين، وأرشفة الإرث الثقافي العربي الكبير، وترجمة المحتوى الرقمي الوازن من الأجنبية إلى العربية، ومن العربية إلى الأجنبية، السبل الأساسية لإثراء المحتوى الرقمي العربي؛ مع ضرورة اختيار المترجَم وتوظيفه ليكون في خدمة رؤية جديدة لمستقبل عمليات البناء المجتمعي باتجاه التحديث والترقّي، من غير أن يعني ذلك محاكاة المترجَم له، بل الاطلاع على تجارب الآخرين والتفاعل معها، في ضوء المعطى الموضوعي للواقع الوطني / العربي، وبرؤيا إغناء الخصوصية الثقافية لا إلغائها؛ على أن تتولّى عمليات الدعم والرعاية في هذا السبيل الوزارات المختصّة، والمنظمات الدولية والإقليمية المعنية، والهيئات المتخصصة المحلية والعربية.
• اعتبار مناسبات المعارض الدولية للكتاب مجالات حيوية لتسويق المنتج الثقافي العربي، وبيع حقوق الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية، وليس فقط من الأجنبية إلى العربية، وإطلاق حملات في هذا السبيل للتعريف بالكتاب العربي في وسائل الإعلام العربية وغير العربية.
• اضطلاع وزارات الثقافة العربية برعاية برامج التدريب على صناعة المحتوى الرقمي.
• العمل على تحويل المواقع الإلكترونية والبرامج والتطبيقات إلى اللغة العربية، وبخاصة ما يتعلّق منها بألعاب الأطفال والأولاد.
• التشبيك التواصلي التعاوني بين المراكز والمؤسسات البحثية المعنية بشؤون المحتوى الرقمي.
• صناعة المحتوى الرقمي العربي، بما يتناسب بشكل أساسي مع الحاجات الفعلية للمستهلك العربي.
• توفير الأطر القانونية التي تحفظ حقوق الملكيات الفكرية، بما في ذلك تحديد مصادر المواد المنشورة.
• زيادة المنصّات الإلكترونية ذات الاختصاصات المعرفية المتنوّعة، وتلك المتعلّقة بشؤون الترجمة، وذلك لخدمة الأبحاث والدراسات الأكاديمية للطلّاب.
• نشر الرسائل والأطاريح الجامعية عبر منصّات وطنية.
• رقمنة المكتبات الإذاعية والموسيقية والسينمائية والمعارض الدائمة والافتراضية للفنون التشكيلية.
• رقمنة المكتبات الوطنية والعامة في العالم العربي، والتشجيع على انضمامها إلى اتحاد المكتبات الرقمية في العالم.
ثالثاً: استثمار المحتوى الرقمي العربي في التبادل الثقافي مع العالم
لقد شكّل الفضاء الإلكتروني جسراً رقميّاً مباشراً بين البشر في كل العالم، وتمكّنت وسائل الاتصال الرقمي من التغلّب على قيود الوقت والمسافات، وجعل الكرة الأرضية مجرّد قرية كونية صغيرة، وفسحت المجال لنشر قيم التواصل والحوار والتنوّع الثقافي في الإطار الوطني أو على مستوى العالم ؛ فضلاً عن التبادل الحضاري والثقافي والعلمي والتكنولوجي والاقتصادي والتجاري والصناعي ؛ الأمر الذي أدّى إلى ازدياد الفهم المتبادل بين الشعوب، وفتح آفاق غير مسبوقة لتعرّف الآخر، أفراداً وجماعات وأوطاناً ؛ وهو ما يتيح تقييم الذات الفردية والجمعية، وتحديد موقعنا الثقافي وفقاً لمعطيات العصر ومعاييره، بين مواقع الآخرين وثقافاتهم.
في ضوء هذه الرؤية الجديدة للعلاقات الإنسانية، وما أفضت إليه من تداعيات وتجلّيات، تبرز أهميّة تطوير المحتوى الرقمي العربي، وسدّ الفجوة القائمة بينه وبين المحتوى العالمي التي تؤدّي إلى عدم تكافؤ الفرص بين العرب والآخرين في الحصول على المعلومات، ليس فقط من أجل خدمة المستخدمين العرب، بل لجعل التبادلات الثقافية بين الوطن العربي والعالم مساراً فعّالاً للتثاقف القائم على الاغتناء المتناظر بينهما، وفضاء مفتوحاً لاستشراف المستقبل، من خلال المشاركة في إنتاج المعرفة الرقمية العالمية، وإطلاقها في فضاء التواصل الإيجابي الذي لا يقوم إِلَّا على جدلية
الأخذ والعطاء. وبذلك نتخلّص من سلبية العلاقة مع الآخر، والركون إلى المنسوب الثقافي المحقّق عبر التاريخ بصيغته الورقية المكتبية، مع كل ما طرأ على المكتبات في العصر الإلكتروني من تراجع في دورها التقليدي، ونعيد النظر في مفهوم الخصوصية الثقافية العربية، بصورتها التراثية، لكي تكون أكثر حيوية وتفاعلاً مع احتياجات الزمان والمكان الفاقدين الحدود والفواصل، متجاوزة قيود التبعية والإحساس بالدونية، فتكتسب بذلك فعالية الاغتناء والتأثير والاستقطاب والانتشار، من خلال حداثتها الموصولة مع حداثة العالم، تحت سقف الإيمان العميق بأنّه إذا كان الغزو الثقافي خطراً حضارياً، فإنّ التبادل الثقافي، فضلاً عن كونه ضرورة حضارية، هو سدّ حقيقي في وجه الانمحاء والذوبان. على هذا الأساس يمكن لعمليات النموّ أن تندفع إلى آفاق لم تكن لتعرفها المجتمعات العربية من قبل ؛ على قاعدة ما يمكن أن يحققه النشر الإلكتروني لثقافتنا ولغتنا، وأعمال الترجمة من اللغات العالمية إلى اللغة العربية، وبالعكس، من إتاحة فرص التلاقي والتفاعل مع الثقافات الأخرى من جهة، ومن جهة ثانية إعادة ربط المغتربين العرب المنتشرين في أربع رياح الأرض بثقافتهم العربية، وما يُعوّل على ذلك من استنهاض حركة ثقافية عربية المنطلق والتوجُّه في أماكن وجودهم، تجدّد التواصل العاطفي والثقافي مع أصولهم وجذورهم الضاربة في أعماق الذاكرة والوجدان، وتستقطبهم للمشاركة في مشاريع التنمية في مواطنهم الأصلية.
إنّ الاستثمار في المعرفة في عالم اليوم ركيزة أساسية في بنية الاقتصاد الوطني، وإنّ التواصل المعرفي العربي-العالمي في كلا الاتجاهين، قيمة مضافة في هذه البنية توفّر لها إمكانية فتح أسواق جديدة للصناعات الثقافية العربية، واستقطاب استثمارات أجنبية إلى البلاد العربية، وفرصة التناظر مع التقدّم التكنولوجي لآخرين، بما يمتلك الإرث الثقافي العربي من مخزون هائل شكّل القاعدة المعرفية التي قام عليها عصر النهضة الأوروبي، ويمكن أن يشكّل اليوم بامتداده الحداثي المصدر الأساسي ل”القوّة الناعمة ” للأمة العربية.
خـلاصـــة
إنّ ضعف المحتوى الرقمي العربي يتناقض مع ضخامة مخزوننا الحضاري وإنتاجنا الثقافي الحديث، اللذين يستحقّان تبوّء المراكز المتقدمة في قائمة المحتوى المعرفي العالمي على شبكة الإنترنت، إذا ما توافرت الشروط والمعطيات التقنية والهندسية، والقدرات المالية والإدارية، والمهارات الفنية، والتصميم والإرادة، والتشريعات اللازمة لمواجهة الجرائم الالكترونية وحماية الملكية الفكرية؛ فضلاً عن إطلاق مشاريع جدّية لمحو الأمّية التعليمية، وإعادة الاعتبار إلى أوّليّة الاهتمام باللغة العربية؛ وذلك للانخراط في ما يمكن وصفه بأكبر مشروع عربي لإعادة الاعتبار للحضور المعرفي العربي على خارطة الإنجازات العالمية، ووضعه في متناول البشرية جمعاء، لإعادة تعريفها بما تكتنز هذه الأمة من إرث تاريخي وإسهام معاصر في مختلف المجالات، ولتظهير وجهها الحقيقي، بعيداً ممّا لحق به من تشويهات النكوص والتطرّف والانغلاق، وللّحاق بركب التطورات الهائلة للعصر الراهن، وحتّى لا يكون حضورنا الضعيف في العالم الافتراضي سبباً لغيابنا عن العالم الواقعي !
إنّ الجهود العربية التي تبذل في مجال ردم الفجوة الرقمية القائمة تبشّر بالخير، وتدعو لرفدها بالمستلزمات والأدوات الضرورية، لتتمكّن من التوسّع والاغتناء والفاعلية، في إطار المشاريع الوطنية المبنية أساساً على إصلاح سياسي – اقتصادي يوائم بين الحاجات المنبثقة منه، ومتطلباته التقنية، وكذلك في نطاق مشروع حضاري عربي مشترك جديد يربط بين الثقافة والتكنولوجيا، يُتخذ القرار بشأنه على مستوى القمّة الثقافية العربية حال انعقادها في المستقبل القريب، إن شاء الله، والله وليّ التوفيق.
****
(*) محاضرة أُلقيت في “ملتقى صياغة رؤى للعمل الثقافي العربي” – الدار البيضاء – المغرب.