جورج جُرداق إنسان الوطنيَّة الحَي! في الذكرى الخامسة لغياب جسده

Views: 10

د.  وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

 لئن غيَّب الموت الشَّاعر والباحث والمعلِّم والكاتب والصَّحافي “جورج جرداق”، قبل خمس سنوات من اليوم، وتحديداً في الرَّابع من شهر تشرين الثَّاني سنة 2014؛فإنَّ جورج جرداق يبقىظاهرة رائعة في الوجود الحضاريِّ للبنان المعاصر الحي، ولتجربة اللُّبنانيين في العيش؛ وقد صار من الواجب، بل من الضَّروري، العودة إليها اليوم، والوطن في هذه الحال التي يعيشها من القلق الاجتماعي والبؤس المعيشي.

جورج جرداق، الذي وُلِد في بلدة “مرجعيون”، سنة 1933، وتوفي في “بيروت”، سنة 2014،هو شاعر فذُّ، وناثر ساخر عميق الغَوْصِ في بحار الوجود الانسانيّ؛ لكن ما يعنيني منه في هذه المحطَّة من تاريخ لبنان، أنَّه شكَّل تجربة نحن اليوم، وفي هذه الأوقات تحديداً، بأمسِّ الحاجة إلى استيعابٍ حرٍّ ولو لبعضِ معالمها.

لقد وُلِد جورج جرداق على مذهب ديني معيَّنٍ، في منطقة لبنانيَّة من دون سواها؛ بيد أنَّه آثر أن يكون لكل لبنان؛ بكلِّ ما في لبنان من أديان وتنوُّعات مناطقيَّة وتعدُّدات اجتماعيَّة وفكريَّة وسياسيَّة.لم يمارس جورج جرداق كليشيهات ما يعرف بمبدأ العيش المشترك في السِّياسة في لبنان؛ ولم يساير أحداً على حساب أحد أو قضيَّة أو إيماناً أو مفهوماً على حساب أي أمر من الأمور.

قرَّر جورج جرداق، عن وعي وتصميم وإرادة حرَّة مسؤولة، أن يعيش في لبنان، بكلِّما في لبنان من ناس وقضايا؛ عيشاً كليَّاً كاملاً صافياً لا يمكن تقسيمه ولا تجوز تجزئته ولا يحلُّ لأحدٍ المساس بقدسيَّته. عيشٌ واحدٌ، وليس بعيشٍ مشترك؛ عيشٌ كليٌّ، وليس بعيش قابل للتَّجزئة والمساومة. فصار جورج جرداق اللُّبناني بامتياز، الذي أجاز له جميع اللُّبنانيين الدُّخول إلى قدس أقداسهم، وأباحوا له جميعاً الولوج إلى أعمق دخائلهم ناقداً وساخرا وموجِّها وبانياً ورائياً جماليَّاً.

جورج جرداق

 

قبل به الجميع، وأقبل عليه الجميع.

لم يتحذلق جورج جرداق في وطنيته، ولم يفلسفها بما هو فوق طاقتها في تحمُّل الفلسفة. آمن جورج جرداق أنَّ اللبناني لبناني، وأنَّ لبنان لكلِّ اللبنانيين؛ وأنَّه، هو، جورج جرداق، اللُّبناني المثال.

آمن جورج جرداق بالثَّقافة العربيَّة، وجوداً ينبثق من أبعاد وعناصر تتفاعل فيها رؤى دينية مشتركة ومختلفة ومتنوعة؛ وآمن أنَّ ثمَّة مقوِّمات أخرى، سياسيَّة واجتماعيَّة ورؤيويَّة ومستقبليَّة وخارجيَّة، لا حصر لها؛ تتقارب فيما بينها وتتباعد، ولكنها تبقى مشتركة وفاعلةعبر مساهمتها في صناعة الوعيِّ الجمعيِّ لهذه الثَّقافة.

انفتح عقل جورج جرداق ووجوده، على هذهالأمور جميعها؛ وقرَّر أن يمارس العيش فيها وبها ولها؛ مؤيِّداً ومعارضاً، داعية لما يقتنع به منها، وثائراً على ما يراه مجافياً للحقِّ فيها. فكتب جورج جرداق عن الإمام عليِّ وغاص في أعماق تجربته الإنسانيَّة وآفاقها الإيمانيَّة؛ فكان باحثا إسلاميَّاً متعمِّقاً في الفكر الإسلاميِّ؛ وناقش في قضايا العيش وصراعات المجتمع، بين توجهات لسياسيين لا وازع يقف بينهم وبين أهواء جائرة في نفوسهم وبين جماهير تغالب حقها في الوصول إلى حقوق لها، وضعفها وهوانها أمام احتياجات تعضف بها، وانجرار بعضها أمام جهل مطبق وفهم قاصر؛ فكان رؤيوياً سياسيَّاً ناضجاً وموجهاً. وثقف، جورج جرداق اللُّغة العربيَّة منبع تجليَّات فكر وجمال، فصنع منها قصائد أدهشت العرب بجمالها وعمقها؛ وما برح كثيرون، إلى اليوم، يقفون مشدوهين أمام شعريَّة “وغَدي في هَواكَ يَسْبِقُ أَمْسي”!

هكذا صار جورج جرداق مواطناً عربيَّاً بامتياز؛إذ ما من عربيٍّ إلا ويهفو قلبه إلى كلماته، ويَنْشَدُّ عقلُه إلى كثير من آرائه، ويرتاح ضميره إلى الأكثر من تحليلاته وتصوُّراته، كما يرقص قلبه مع ما وضعه جورج جرداق له من صور الشِّعر ونتاج عبقرياته.

جورج جرداق، يبقى حيَّاً، لآنه لبناني بامتياز وفاعليَّة قرار العيش الواحد، وعربي بامتياز وفاعليَّة عيش الثقافة العربيَّة. إنَّه صاحب القرار الكبير بأن يكون لبنانيَّاً حقَّاً لكل اللبنانيين، وأن يكون عربيَّاً حقَّاً لكل من قال إني عربي، وأن يكون إنسانيَّاً شاملاً بجوهر فكره الإنساني كل ما هو وجود إنسانيٌّ يسعى إلى حريَّة عيش وحياة كريمة ومعرفة نافعة.

لذلك، فلئن غيَّب الموت جورج جرداق، قبل خمس سنوات من اليوم؛ وذهب بجسده إلى تراب الأرض، وأغلق ما بيننا وبين ذاك الجسد الأبواب، وسلسلها بحلقات ماضٍ كان، ثمَّ أوصدها بقفل الذكريَّات؛ إلإ إن جورج، الساخر والذكي واللماح واللبناني الصَّميم، كان قد سبق الموت إذ زرع نفسه عميقاً في وجدان الدُّنيا، فبقي هو الحاضر الأكبر بيننا، والموجود الأشد روعة وجمالاً.

جورج جرداق من واهبي الحياة، ومانحي بركات العيش الحر فيها؛ فكيف للموت، بما فيه من غياب الحياة وعتمة القيد، أن يقهره؟ جورج جرداق، ابن لبنان المحبة، ولبنان العيش الواحد، ولبنان الذي يغتال فيه البؤس كل من فيه، بغض النَّظر عن مناطقهم وطوائفهم والتزامهم بزعماء لهم.

جورج جرداق، زعيم النُّور والصَّباح والضَّحك والفرح؛ وابن العيش الوطنيِّ الحقِّ، بمعاناته وصبره ومعاندته والانتصار على الأهوال والصِّعاب.

 

(https://safeanimalshelter.com/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *