الثورة البريئة…من التعجيز إلى الواقع !

Views: 803

د. مشير عون

(الأربعاء 23 تشرين الأوّل 2019)

لا يخفى على أحد من أهل الاستنارة أنّ الثورات تصدح بكلّ أصناف المثاليّات الصائبة، والأحلام المشروعة، والطموحات المحقّة. ولكنّها أيضًا تنطوي على قدر عظيم من الالتباسات والاستقطابات والانزياحات. ما يشهده المجتمع اللبنانيّ في هذه الثورة هو تصارعُ سلطتين شرعيّتين، سلطة الدولة ومؤسّساتها وأجهزتها، وسلطة الشعب الثائر الذي منه تنبثق جميعُ السلطات. سلطة الدولة ما زالت تروم الحفاظ على مَن يحكمها، أمّا سلطة الشعب الثائر الذي أوصل مَن أوصل إلى سلطة الدولة، فإنّها لم تعبّر حتّى الآن عن هيئتها الميدانيّة الموقّتة التي تستطيع أن تتحدّث باسمها وتفاوض تفاوضًا شريفًا راقيًا.

السلطتان المتصارعتان تُعجِّزان الواحدة الأخرى تعجيزًا يفوق قدرة الاجتماع اللبنانيّ على الصمود. سلطة الدولة تعجّز الشعب، فوق عجزه الأصليّ المتفاقم،فتُصرّ على الاستمرار على ما هي فيه، من دون تغييرٍ ملموس، إلّا في نوايا الإصلاح، في حين أنّ المطلوب، في حدّه الأدنى، هو تغيير الحكومة وانبثاق حكومة شعبيّة تُستفتَى في تأليفها ساحاتُ الثورة من بعد أن تُرفع الأسماء فيها وتُمتحن بالانتداب الشعبيّ الشامل. سلطة الشعب الثائر تُعجِّز سلطة الدولة، فوق عجزها البنيويّ الخطير، فتُصرّ على تغيير كامل للاختبار اللبنانيّ، وللنظام اللبنانيّ، وللسلطة اللبنانيّة، وللمسؤولين اللبنانيّين، في حين أنّ الحكمة تقتضي الشروع في تغيير المسؤولين، وتأليف حكومة الثورة، وتنفيذ الإصلاحات البنيويّة تدريجيًّا، وخصوصًا إعلان حالة المحاسبة العامّة على جميع الذين تعاقبوا على السلطة منذ نهاية الحرب اللبنانيّة، من دون أيّ استثناء على الإطلاق، من أجل استرجاع الأموال المنهوبة.

ليست سلطة الدولة بريئة حين تمنع الشعب الثائر من الانتفاض على الفساد والهدر والاختلاس والتلوّث والإهمال الاقتصاديّ والاجتماعيّ والتربوي والصحّيّ والنفسيّ في الوطن اللبنانيّ. وليست سلطة الدولة بريئة حين تنسب إلى هؤلاء الثوّار نوايا التواطؤ مع أعداء الخارج وخصوم الداخل. وليست سلطة الدولة بريئة حين تتعالى على أوجاع الناس، وتمنح الصدارة لضرورات الأمن على واجبات العيش اللبنانيّ الكريم. فليس للأمن من معنًى إذا ما أهين الإنسانُ في لبنان. والجميع ما برحوا يتذكّرون سقوط المجتمعات العربيّة في محنة خنق الحرّيّات العربيّة افتداءً للقضيّة وللمعركة المصيريّة على الاستعمار. لا يجوز أن تستحضر سلطةُ الدولة شعارَ الأنظمة العربيّة الفاسدة (“لا صوت يعلو على صوت المعركة”).

في المقابل، ليس الشعب الثائر بريئًا حين تخترقه أحزابٌ سياسيّة مقنّعة شاركت هي أيضًا في الحكم، وجرّت على لبنان كثيرًا من الويلات التي ابتُلينا بها. وليس الشعب الثائر بريئًا حين يجعل الانتهازيّين من كلّ حدب وصوب يتهافتون على استغلال آلام الناس. وليس الشعب الثائر بريئًا حين يكتفي بالصراخ والنحيب، ويتقاعس عن مسؤوليّة التعبير السياسيّ الشفّاف عن مطالبه المحقّة. وليس الشعب بريئًا حين يرفع سقوف التعجيز في مطالبه، فيَغرق في المثاليّات، ويُطيل زمن المحنة، فيتيح للانتهازيّين أن ينقضّوا عليه وعلى قضيّته الشريفة. أعرف أنّ الواقع ليس من أدبيّات الثورة. ولكنّ الثورة المثمرة مآلُها الإصلاحيّ الأخير هو الواقع وقد انغرست فيه أفعالُ الثورة.

حان الوقت للتفاوض لأنّ لبنان لا يحتمل الثورات الطويلة الأمد. طبقته السياسيّة التي أطبقت على أنفاسه منعت عليه إنشاء البنى الضامنة لمثل هذه الثورة الطويلة. في غضون بضعة أسابيع قد ينهار كلّ شيء. فحذارِ العناد في السلطة السياسيّة، وحذارِ العناد في الشعب الثائر.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *