التعمير من الأساس

Views: 301

محاضرة الدكتور سليم حيدر، وزير لبنان المفوَّض في إيران، ألقيت في بيروت في 17 كانون الثاني سنة 1949 بدعوة من الندوة اللبنانية . نُشرت في مجلة مرايا التراث العدد الثامن عشر ربيع/صيف 2023. 

 

سيداتي، سادتي !

التعمير من الأساس !  من أيّ أساس ؟ – من أساس البيت اللبناني، فهذه المحاضرة حلقة في سلسلة “تعمير البيت اللبناني.”

أيكون البيت اللبناني متداعيًا ينذر بالخراب لنفكر بتعميره…؟

الموضوع، كما هو، أشدّ خطرًا.  إنّه يفترض البيت اللبناني أرضًا بكرًا، ويرمي إلى تعميره، من الأساس، إلى وضع أسسه.  أفيكون لبنان قاعًا صفصفًا؟  سؤال يتحتّم الجواب عليه، بادىء بدء، لا مفرّ من ذلك !…  هذه الأرض التي ذكرت في التوراة عشرات المرات، مثالًا للعمران، وعمرانها أقدم من التوراة.

وهذا المليون الذي إنفلق مليونين، كما تنفلق الخلية، فعمرت بالواحد أرض الآباء، وعمرت بالثاني الأرض إطلاقًا…

وهذا الكيان الذي تربّع في جامعة الدول العربية، وفي منظمة الأمم المتحدة، وارتفع له في أهمّ عواصم الدنيا علم خفّاق، ومثَّل فيها الوزراء المفوّضون والقناصل، ونطق باسمه مندوبون في معظم المؤتمرات الدولية، والذي احتضن بالأمس أكبر مؤسّسة ثقافية في العالم، وترأسها بكلّ جدارة، وساهم في أعمالها مساهمة فعّالة، مثيرًا الإعجاب الإجماعي…

أتكون هذه الأرض خواء؟  

أيكون هذا المليون هملًا؟                                                                                                      

أيكون هذا الكيان وهمًا؟                                                                                                   

أيكون البيت اللبناني، آخر الأمر، لا وجود له؟..                                                                          

تلك أسئلة لا تحتاج إلى جواب، لا تستحق الجواب.  والحقّ على الموضوع: التعمير من الأساس، فتعالوا نعمّر الموضوع، من أساسه !

الحقّ على المجاز، على الإستعارة، على الكناية، على جميع هذه الضروب الكلامية التي نلجأ إليها، نحن الشعراء، لنذر على الحقيقة المؤلمة رشاشًا من الوهم، لذة الحياة !

فما بال علماء الإجتماع يتّبعون خطانا؟  ما بالهم لا يخترعون لعلمهم ألفاظًا جديدة، لا تستعير ولا تكنّي؟  إنّهم يطرقون الواقع من باب الخيال.  يريدون أن يكونوا بنّائين في المجتمع، فيستعيرون إصطلاحات العمارة، وهي لا تنطبق إلّا عليها.  فلكلّ بناء أساس يقوم عليه، ولا يكون التعمير من الأساس إلّا إذا هدمنا البناء،  فهل أنتم مستعدّون؟..

لا أخالكم !

التعمير الإجتماعي، لذّته أن لا معول فيه.  نحن أتينا نهدم بالكلام ونبني بالكلام.  لا تخافوا !  ولكن الكلام مقدّس، وفيه كلّ الخطر.  فالتوراة كلام، والإنجيل كلام، والقرآن كلام… والحرب أولها كلام!

وإذن فنحن في معركة كلامية، سينتج عنها، لخير لبنان، معارك في الآراء، إلى أن نتفاهم على القصد ونمشي جميعًا، موحَّدين، إلى تعمير البيت اللبناني، من أساسه، هذه المرة لا لعب على الألفاظ !

مَمَّ نشكو في لبنان؟

سأقيم الدعوى أمامكم، باسطًا جميع الوقائع، دون تحيّز، فأنا قاضٍ سابق.

نظرةً إلى الصحف، واُذُّنًا في المجتمعات، واستفتاء للحاكم، ولرجل الفكر، ولرجل الشارع… القول واحد وإن اختلفت الأصوات والنبرات: العجلة لا تمشي !

العجلة لا تمشي ! هذا يقول من الدواليب.  وذاك يشكو من الصندوق.  وهاذاك يشكّك في الخيل وذلك يتّهم السائق.  العجلة لا تمشي !

وينظر الخبير إلى العجلة فيرى أنّ دواليبها سالمة، وأن صندوقها متين.  ثمّ يتطلع إلى السائق فيراه، والعرق يتصبّب من جبينه، يحاول ضمّ يمناه إلى يسراه، فلا يفلح.

وترتفع الأصوات: غيروا السائق !  بدّلوا السائق ! ويتغيّر السائق، ويتوالى السائقون، والعجلة لا تمشي إلّا وثبات متقطّعة، بثقلٍ واعنات.  ذلك أن الخيل تشد إلى جهات مختلفة !… فتعالوا نربّي الخيل !

إنّها خيول أصيلة، مطهمة، يقدح من سنابكها الشرر.  ولكنّها تتسابق في غير نظام، ولا تسير باتّجاه واحد.

تعالوا نربّي الخيل.  فلن يصلح لبنان ما لم يصلح الشعب اللبناني !

ستثور ثائرتكم.  ستقولون إنّي رفعت التبعة عن السائق، لأنّي من وكلائه.  خاب ظنّكم !  فلم أرفع التبعة عنه.  إنّي سألقيها عليه، فهو منا، وعليه، بالإضافة إلى تبعتنا، نحن، الخيل، تبعة السائق.  ولكنه منا، يجب ألّا ننسى هذا الأمر.

ولنترك المجاز، فقد كفانا شعرًا.  لنجابه الأمور، بكلّ صراحة !

نحن في لبنان نشكو، داخليًّا، من قانون الإنتخاب، ومن التوظيف – شكله وأساسه –  ومن إهمال العمران في بعض المناطق، ومن إضطراب الأمن، ومن ضغط الشارع، ومن فوضى إدارية ومالية وما إلى ذلك، ومن فقدان الثقة … ونشكو، خارجيًّا، من بعض المجازفة في سياستنا، ومن الإرتجال وعدم الإستقرار…

أقول نشكو، وليست كلّ شكوى مسموعةً حتمًا بعد التحقيق.  هذا الإجمال.

أمّا التفصيل، فاعفوني من ذكره، عفاكم الله !ّ  أولًا لأنّه في مضمون الإجمال، فذكره كإغفاله، لا يؤثّر في جوهر البحث.  ثانيًا: لأنّ الخير كلّ الخير في كتمانه، لصالح الشعب، فمتى دخلت الشكاوى في باب التفاصيل، دخلت في حيّز المنافع الشخصية.  ثالثًا: لأنّه روي عن أكار لبناني أنّه كان يسوق حماره، محمّلًا مِلحًا، فأمطرته السماء وابلًا، فسبّ دين الحكومة !

اللبناني طموح إلى الكمال، لا يرضيه شيء !

إذن لنقتصر على ما قدمنا من التهم، مجملة دون تفصيل، فإن فيها الكفاية.

إنّ هذه التهم قذائف ثقيلة تدكّ بناء الوطن دكًّا، حتى الأساس، وتوجب تعميره، من الأساس !  وهكذا نعقد الهدنة مع الموضوع الذي أثرنا عليه حملة شعواء باسم المجاز والإستعارة والكنانة…

لا أقول أنّ جميع هذه الشكاوى مسموعة بالنتيجة.  بل أصارحكم أنّ فيها كثيرًا من المغالاة.  على أنّ ذلك لا يمنع أنّها تُهَم خطيرة، وأنّ فيها كثيرًا من الصواب.  فالعجلة لا تمشي، أيًّا كان السائق.  إنّها تثب وثباتٍ متقطعة، بثقل واعنات، لأنّ الخيل تشدّ بها إلى جهات مختلفة !

أرجو المعذرة، فلا بدّ من خرق الهدنة مع الموضوع: التعمير من الأساس.  فقد فهمنا ما نقصد بالتعمير.  فما يا ترى نقصد بالأساس؟

إنّه المدرسة، معمل الرجال.  مدرسة البيت، ومدرسة الدراسة، ومدرسة الحياة.

البيت والحياة لهما أهمّية كبيرة.  ولكنّي سأقصر بحثي على الأهمّ، على المدرسة، مربية آباء المستقبل وأمهاته، الذين يربون أبناءهم حقبة من الزمن في البيت، ثم يسلمونهم إلى المدرسة فتخرجهم إلى جامعة الحياة.

وإذا كان الأساس هو المدرسة، فقد أصبح الموضوع: تعمير المدرسة.  هدنة ثانية مع الموضوع، هدنة إلى حين !

فلولا خشية القول “ما دخلت السياسة شيئًا إلّا أفسدته”، لأسميت موضوعي “في سياسة المدرسة”.

إنّ للكلمات حياة لا تختلف عن حياة الأشخاص إلّا بأنّها أوفر ذخرًا وأطول عمرًا.  إنّها تولد وتعيش وتموت.  وهي كالبشر، تولد شرعًا أو سفاحًا، وتعيش هادئة أو قلقة: ولعلّ ما يميّز الكلمة من الإنسان –  وهو كلمة الله –  أنّه إذا مات فلن يبعث إلّا يوم الحشر، في زحمة الخليقة المنشورة بكاملها، بينما تبعث الكلمة بعد موتها، فتتقمّص معنىً جديدًا.

الكلمة إناء يصطبغ بلون ما فيه.  والسياسة كلمة اصطبغت في لبنان بلون ما وضعنا فيها من مغالطات من تحازب في كلّ شيء، ودسيسةٍ على كلّ أمر، وكيفيةٍ في كلّ إتّجاه، بوحي من أنانيتنا، أنانية شعب يكاد كلّ فرد فيه أن يكون عبقريًّا، وتخفق فيه معظم الأعمال الإجتماعية.

لذلك أشفق على المدرسة، التي نودّها خالصة من كلّ شائبة، أن تقرن بالسياسة، التي ألصقنا بها – حطأً – جميع الشوائب.

أما إذا قلبنا إناء السياسة على فمه، فأفرغ منه كلّ ما كان أُفْرغ فيه، وعادت الكلمة إلى معدنها، فهي من فعل “ساس”، أي رعى وتدبَّر وقاد إلى هدف.  وليس منكم من يشك في أنّ المدرسة – هنا أو في أيّ بلد آخر، اليوم أو في أيّ زمان –  تحتاج إلى رعاية وتدبير وقيادة إلى هدف.

ولم يعد من حِرج، بعد هذا، أن ندعو الأشياء بأسمائها، ويكون الموضوع “في سياسة المدرسة”؛ فهل تكون الهدنة نهائية هذه المرّة؟…

ولقد تتساءلون: ما الفائدة من هذا الدوران حول الموضوع؟  لكم حقّ السؤال، ولي حقّ الجواب؛ ولا أخال الموضوع إلّا رابحًا.

ذلك أنّني لن أنصّب نفسي مربّيًا هذا المساء، بمعنى الكلمة العلمي، فأحاضر عن المدرسة من حيث برنامجها وتنظيمها، وتفاعل هذين في مطابقة مقتضى الحال، من موافقة مواد الدراسة لعقلية التلميذ، حسب سنّه واستعداده، وتوزيع هذه المواد على سني الدراسة، وعدد الصفوف في كلّ حلقة، والتلاميذ في كلّ صف، وما إلى ذلك من مشاكل التعليم والتربية الخالصة.  فإنّ لجميع هذه الأمور أربابًا هم أكفأ مني، لأنّهم محترفون.  إنّهم المعلّمون، جسور الأجيال !

أتسمحون لي، بعد هذه المقدمة التي طالت، أن أمهّد لموضوعي، مرة أخيرة، بكلمة عن هذه الندوة؟  من على منبرها تتعالى جميع الأصوات، بنبراتها الأصيلة، حتى لكأنّ نشرتها الدورية –  في جوهر ما تزف إلى القارىء – منتخبات من أروع ما ينشر في لبنان.  إنّها الندوة اللبنانية بِأَلِف التعريف.  ونحن الباحثين في تعمير البيت اللبناني، نحن الآن في جوّنا الملائم !

 

***

لن أعود بكم إلى ما قبل التاريخ، حتى ولا إلى الماضي البعيد.  فإذا كان لا بد، في مطلع كلّ بحثٍ جدّي، من إلتفاتةٍ إلى الوراء، فالماضي القريب مسرح إختبار خصب.  على أني لا أكتمكم جهلي معظم الشيء عن حال المدرسة اللبنانية في عهد الفينيقيين والرومان واليونان والكلدانيين والبيزنطيين والحثّيين وغيرهم… ممّن عبروا في لبنان فغبروا، وبقي هو، وبقي فيه – على أرضه وفي نفوس أبنائه –  شيئ من عبقرياتهم.

أمّا الماضي القريب، فظلامٌ يخيم على الأقطار العربية في العهد العثماني: حتى كادت الغربية أن تتترك، لولا قبس كان يشع من تحت سنديانةٍ في لبنان…

ويوم شبّت الثورة الفرنسية تملي على العالم حقوق الإنسان، سنة ألف وسبعمائة وتسع وثمانين، فُتحت في عين ورقه كبرى مدارس لبنان.  العربية والسريانية واللاتينية والإيطالية لغاتها.  واللغة والمنطق والفلسفة والتاريخ والأدب وعلوم ذلك الوقت مواد تدريسها.  والمعلم بطرس البستاني صاحب محيط المحيط، وأحمد فارس الشدياق من تلاميذها.  ولن أزيد حرفًا واحدًا !

وابتداءً من الثلث الثاني للقرن التاسع عشر، زحفت الإرساليات الأجنبية إلى لبنان: الآباء اليسوعيون، وأخوة المدارس المسيحية، والآباء اللعازاريون، وراهبات المحبة، والعلمانية الفرنسية، والجامعة الأميركية…  أذكر هؤلاء ولا أعلم –  ولا يهم هذا البحث أن تعلم –  تواريخ وصولهم بالتسلسل، كما أن عدّهم ليس بوجه الحصر.

ولقد عاشت مدارسهم وازدهرت، ولا تزال عائشة مزدهرة.

وفتحت المدارس الوطنية الخاصة؛ الحكمة، والبطريركية، والمقاصد الإسلامية، والداودية، والجامعة الوطنية في عاليه، وسواها… لا تهمّنا التواريخ هنا أيضًا، وليس العدّ بوجه الحصر.

جميع هذه المدارس، الوطنية والأجنبية، هي معامل العلم في لبنان.  وأود، وأنا أمرّ بها، أن أرسل لها تحية مخلصة، مخلصة لها ولموضوع هذا المساء.  فكم أنكر فضلها من حمل عليها؛ وكم غالى بفضلها من تحزّب لها.  والواقع أنّ كلّ مدرسة كالتي ذكرت، من حيث العلم، نبراس ساطع.  ولكننا نبحث هنا أكثر من العلم المجرّد.  نريد أن تمشي العجلة !

ها نحن أولاء في لبنان، تلاميذ هذه المدارس.  والعجلة لا تمشي، لأنّنا مختلفون في إلى أين المسير.

إن اختلاف الإتّجاه، في صفوف الأمم الراقية، أعني الإختلاف على الوسائل مع الإتفاق على الغاية، لمعضلة من أعقد المعضلات، تهدّد بالإنهيار أحيانًا.  فما رأيكم بالإختلاف على الغاية؟…

هذه الدعوى التي أقيمها أمام محكمتكم، محكمة الرأي العام، ليست إدّعاءً مباشرًا، كما يقول زملائي السابقون، قضاة النيابة العامة.  إنّني قمت بتحقيق – وأنا محقّق سابق –  لدى المربّين، ولدى رجال الفكر، ولدى العامة.  ولن أتلو عليكم هوية المستجوبين ولا الإفادات واحدة واحدة؛ فلا فائدة من الأمر، والضرر كلّ الضرر فيه.  ولكني سأجمل، محافظًا على الجوهر: نحن في لبنان فئات ثلاث: سلبيتان وإيجابية.

– لبنان بلد واسع، على صغر مساحته، أوسع ممّا يجب أن يكون.  ينبغي أن تبتر منه أجزاء لنتخلّص من سكانها، فيعود وطنًا صغيرًا لقوم معينين، يعيشون فيه منكمشين على أنفسهم، ينظرون إلى الأفق، على تماوج البحر.

تلك السلبية الأولى.  إنها إنعزالية إنكماشية، إذا سمحتم بالتعبير !

– لبنان بلد صغير.  صادراته لا توازن وارداته.  لا زراعة ولا صناعة ولا إنتاج.  إنّه جزء من كلّ.  إنّه لا يستطيع أن يعيش بكيانه الحالي.  يجب أن يذوب الجزء في الكلّ، على وهج الصحراء.

تلك السلبية الثانية.  إنّها إندماجية مفرطة !

– لبنان، بحدوده الحاضرة، كيان حقيقي، يمكن أن يعيش ويجب أن يعيش.

تلك هي الإيجابية !

الإيجابيات تستند إلى التاريخ والدين واللغة والتربية… إلى جميع عناصر القومية، تقرّرها كما تشاء، وتفسّرها كما تشاء…

والدين يلعب دوره المهم في تقسيم هذه الفئات.  على أن من الإنصاف القول أن الفئة السلبية الإندماجية فيها من الطائفتين، كما أن الفئة الإيجابية مزيج متوازن منهما.  وإذن فالدين ليس وحده هو السبب !

الفئتان السلبيتان، الإنكماشية والإندماجية، تعتنقان حرية التعليم المطلقة وتناضلان من أجلها.

والفئة الإيجابية ترى التوجيه في سياسة المدرسة.

وكلّ ذلك طبيعي !

نعم.  لا تجفلوا !  كلّ ذلك طبيعي !

أن يكون في لبنان فئة تريد بتر قسم منه لتستقل بالآخر.  ذلك طبيعي.

وأن يكون في لبنان فئة تنكر وجوده.  ذلك طبيعي.

وطبيعي أن تتشبّث كلّ منهما بحرية التعليم المطلقة، لتزرع مبادئها في نفوس التلاميذ الطريئة.

بقي عليّ أن أقرّر حقيقة: وهي أنّ الفئة الإيجابية هي الأكثر عددًا والأقوى عددًا.  وذلك أيضًا طبيعي.

فماذا يجب أن نعمل لنحافظ على الجميع؟  ولنعيد إلى الحظيرة من اعتقدوا –  واعين أو مأخوذين – بوجوب تركها؟…

فنحن لا نريد أن نفقد من لبنان لبنانيًا واحدًا، نحن الإيجابيين !

علينا أن نتفق على ما نحن فيه مختلفون.

لكي تمشي العجلة، يجب أن نختط لها هدفًا معلومًا تسير إليه، وأن ندرب الخيول على السير معًا، في اتّجاه واحد.

فما هو الهدف، وكيف ندرّب الخيول؟

الهدف لبنان، الذي يجب أن نتّفق على مفهومه.

لبنان رقعة من الأرض على شاطىء المتوسط، في قلب الشرق الأدنى.  تعاقبت عليه المدنيّات: الفينيقية والرومانية واليونانية والبيزنطية والحثّية والمصرية القديمة والعربية.  وتركت جميعها ما كوّن تراثه القائم، تراثًا زاخرًا ممتازًا، والصفتان معنيّتان، بكلّ ما فيهما من قوة.

لغته العربية، وهو من أركان نهضتها.  مركزه في قلب البلدان العربية، وتشدّه إلى هذه البلدان صلة الأخوة وصلة الجوار وصلة التاريخ ووحدة المصالح والوحدة الجغرافية قبل كلّ شيء.  على أنه منذ القدم كان محافظًا على ذاته، وعلى ميزاته الخاصة، وعلى إستقلاله الروحي.  أمور يجب ألّا ننساها، لأنّها كيان لبنان: إنّه همزة الوصل بين الشرق والغرب !

لبنان بلد عربي، لا شك في ذلك، جغرافيًّا واقتصاديًّا ولغةً وشعورًا بذاته.  أما العِرق، فليس في الكون أمّة خالصة.  على أنّ أخلص ما في نسب لبنان، في نسب القسم الأكبر من أهله – مسيحيين ومسلمين – هي العروبة.

تربطه بالبلاد العربية صفة العروبة، كما تربطه بتركيا، مثلًا، صفة الشرقية.  ولو لم يغالِ الإندماجيون بالقول أن هذا الجزء من الكلّ يجب أن يذوب في الكلّ، لما غالى الإنكماشيون بالقول أنّهم من غير نسب.  فالتَفَيْنُق ردّ فعل في لبنان، ليس إلّا.

أمّا الإيجابيون، وهم الكثرة الساحقة، فيعرفون أن لبنان بلد عربي، ولا يفرّطون بشبرٍ واحد من كيانه الحاضر.  ليسن العروبة هي الوحدة !

ولبنان ليس عربيًّا وحسب.  إنّه تاج العروبة.  إنّه التاج.  أليس التاج صغيرًا، ثمينًا، منمنمًا، متألّقًا، ينبوع إشعاع؟…

ولكن لبنان أكثر من بلد عربي.  إنّه بلد إنساني.  إنّه بلد الفكر والروح، بلد التساهل، بلد الإخاء.  ومنذ القرن الثاني والعشرين قبل ميلاد السيد المسيح، ولبنان يدرّس اللغات الأجنبية، ويتلقّف ثقافات العالم، لتشعّ منه مبلورة صافية.  إنّه نافذة على البحر.

وبصفتيه العربية والإنسانية، دخل جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المنتحدة.  فاشتراكنا في هاتين المنظمتين إعلان عن واقع.

لبنان إذن بلد عربي إنساني.  وكما لا تشكل الإنسانية خطرًا على إستقلاله، كذلك لا تشكل العروبة خطرًا على إستقلاله.  إنّه همزة الوصل بين الشرق والغرب، ولكنّه هو ذاته قبل كلّ شيء.

تلك حقائق، وليست أفكارًا أبشّر بها، من عندياتي !

هذا هو الهدف.  هذا مفهوم لبنان.  إنّه الواقع.  والميثاق اللبناني هو الواقع اللبناني !

بقي تحقيق هذا الهدف، تدريب الخيول على السير بالعجلة في اتّجاه واحد.  فأين ندرّبها؟  أين نربّي اللبناني؟

– في المدرسة اللبنانية !

وهنا، يجب أن نقف قليلًا، فنرى ما هو كائن، ونبحث في ما يجب أن يكون.

عندنا في لبنان ثلاثة أنواع من المدارس: الأجنبية، والوطنية الخاصة، والرسمية.  ولكنّنا، بالنسبة إلى ما يهمّنا في هذا البحث، وهو في جوهره “سياسة المدرسة” نقسّمها قسمين: الأجنبية والوطنية الخاصة من جهة، والمدرسة الرسمية من جهة ثانية.

أما المعاهد الأجنبية والوطنية الخاصة، فهي زاهرة على العموم.  وقد سبق أن قلت إنّها، من حيث العلم، نبراس ساطع.  ولكنّنا لا نستطيع التجاهل أن المعاهد الأجنبية قائمة على تشجيع الدول الأجنبية، وأن المعاهد الوطنية الخاصة هي طائفية في معظمها، وبهذه الصفة تقوم في معظمها على تشجيع الطوائف.  ولا أتجاهل، إذ أقول ذلك، أنّ في مدرسة الحكمة مثلًا بعض التلاميذ المسلمين، وقد يكون في المقاصد الإسلامية بعض المسيحيين.  إلّا أنّ اللون الغالب هو الطائفية.  فمدارسنا الخاصة كمنظمات الشباب، جميعها تسعى إلى خير لبنان وإلى الأخوة والتفاهم، ولكن كلًّا منها مقصورة في الإجمال على طائفة معينة.  إنّه الواقع !

هذه المعاهد الأجنبية، وهذه المعاهد الوطنية الخاصة، يجب أن تبقى حتى ولو زرعنا لبنان، من أقصاه إلى أقصاه، بمدارس رسمية تضاهيها وتفوقها.  وإنّي، إذ أقول ببقائها، لا أفكر بصعوبة إقفالها، وبما يمكن أن يجرّ هذا القرار من إحتجاج دول أجنبية، ومن هياج فئات وطنية، ومن سفك دماء في الشارع… بل أفترض الأمر لقمة سائغة، وأقول – ومصلحة لبنان وحدها نصب عيني – إنّه يجب الإحتفاظ بالمعاهد الأجنبية وبالوطنية الخاصة، على السواء !

ذلك لأنّها حقل صالح للإختبار العلمي، وللأساليب التربوية الجريئة، ولأنها، مهما حاولنا مجاراتها، هي الكفيلة بأن يبقى لبنان همزة الوصل بين الشرق والغرب.  يجب أن تبقى، وتبقى لها حرية التعليم، لتتمكن من أداء رسالتها العلمية، ولتبفى حافزًا لنا، ولو أصبحنا – وآمل أن نصبح – حافزًا لها.

هذا حقّ لها علينا.

ولنا عليها حقّ المراقبة.  فلا يجوز أن يدرّس معهد في لبنان شيئًا يمسّ بكيانه السياسي، ولا بجوهره الروحي، ولا برصانته الإنسانية.  وفي التحقيق الذي قمت به، لم يُنكر معظم رؤساء المعاهد هذا الحقّ للحكومة.  ولكنّهم تشبّثوا بأمر هو أيضًا حقّ: أن تكون الرقابة إشرافًا نزيهًا، لا تدخّلًا ولا ضغطًا.  إنّي أعني الكلمات، ولا ضرورة للشرح !

وأمّا المدرسة الرسمية، فلا تزال طفلة في المنهاج.  إنّها توصل إلى الشهادة التكميلية ولكن كم مدرسة رسمية في لبنان توصل إلى هذه الشهادة؟  بل كم مدرسة رسمية في لبنان توصل إلى الشهادة الإبتدائية؟  وإذا خرجنا من بيروت، حيث المدرسة الرسمية أثبتت وجودها، على الرغم من جمبع النواقص، فأين هي المدرسة الرسمية في الملحقات؟

وإذا نظرنا إلى المعلمين، فيكفي أن نعلم كم يتناولون في آخر الشهر لنعرف من يمكن أن يكونوا.  وإذا نظرنا إلى وكلاء المعلمين الذين تعينوا بالمئات في هذه السنوات الأخيرة، فيكفي القول أنّ وزارة التربية الوطنية لا همّ لها اليوم إلّا التخلّص من معظمهم !…  وإذا نظرنا إلى كبار موظفي الدولة، إلى الذين يستطيعون البذل في سبيل تعليم أولادهم، فأولادهم في المدارس الأجنبية، وفي المدارس الوطنية الخاصة !

المدرسة الرسمية مدرسة الفقراء، وموظفو الدولة ليس لهم ثقة بمدارس الدولة !

أقول ذلك بكلّ صراحة، في وجه معالي وزير التربية الوطنية وسعادة مديرها.  وكيف تريدون أن تكون الحالة غير ما وصفت، ووزارة التربية الوطنية، منذ ثماني سنوات، لم تعرف وزيرًا انفردت به فتفرّغ لها، ولا مديرًا بقي فيها أكثر من أشهر؟…  فإذا لم يكن من فضل لإنعقاد مؤتمر الأونسكو في لبنان إلّا أنّه، على الرغم من أنوفنا، قد أفهمنا أنّ وزارة التربية الوطنية هي أهمّ الوزارات في الدولة، وأشدّها التصاقًا بنا وفعالية فينا، أفرادًا وجماعات، فإنّ الملايين التي تكبّدناها في سبيل انعقاد هذا المؤتمر لم تذهب عبثًا !…

المدرسة الرسمية لا تزال إذن طفلة.  وهذا لا يعني أنّها ستبقى طفلة.  فقد أطلعني سعادة المدير على مشاريع لإنماء هذه المدرسة، ولإيصالها تدريجيًّا إلى مستوى لائق ولكني لن أحدّثكم عن مشاريع الوزارة، فقد لا تكون كافية، وقد لا تكون قيلت فيها الكلمة الأخيرة.  بل سنتحدّث عن حاجتنا، كمفكرين، بمعزل عن كلّ شيء.

لنا هدف يجب أن نصل إليه: مدرسة إبتدائية، فثانوية، فجامعة.  نريد أن يكون لنا ما لجميع الدول الراقية.

والإبتدائية الموجودة اليوم، على الرغم ممّا قلت فيها، نواة صالحة يجب أن نتعهّدها.

والثانوية يجب أن نفتحها.  فما معنى البكالوريا اللبنانية، شهادة حكومية، وليس للحكومة مدرسة تهيّء لهذه الشهادة؟

والجامعة لا بد منها، بالنتيجة.  ولكنّي أرجئها لعشر سنوات، لعشرين سنة إذا إقتضى الأمر، فعشرون سنة في عمر لبنان أقلّ من القليل،… ويقوم البناء على أساس متين.

لنتابع غايتنا.

غايتنا تكوين اللبناني الأمثل، العربي الإنساني، اللبناني العربي العالمي إذا شئتم.

هذا اللبناني من يكوّنه؟

يكوّنه المعلّم.

ولكن يجب علينا أن نكوّن المعلّم، بادىء بدء !

لو كنت وزيرًا للتربية الوطنية لما وعدت بإنشاء جامعة لبنانية في بنايات الأونسكو.  بل لأنشأت فيها دارًا عليا للمعلّمين، على غرار دار المعلّمين العليا في فرنسا.  ولكنت جعلتها قسمين: الأول تحضيريًّا يدخل إليه حملة البكالوريا فيدرسون سنتين يتوسّعون في العلوم والآداب، تمهيدًا لما  سينتقون من فروع، وبعد أن يوجَّهوا إليها حسب مواهبهم  إلى ذلك القومية اللبنانية العربية الإنسانية؛ ثم يقدمون مسابقة يدخل الفائزون فيها إلى القسم الثاني، حيث يتخصّصون، على أحدث الطرق التعليمية والتربوية، بما انتقوا من علوم وآداب وفنون.  

هذه الدار، ماذا نعلّم فيها؟

خذوا، مثلًا، منهاج دار المعلّمين العليا في فرنسا، واستمدّوا منه، لا تنسخوه ولا تمسخوه !  أضيفوا إليه، بالله عليكم، اللغات الشرقية الحيّة والميتة: الفارسية، التركية، الأُرْدو، البشتو، اليونانية، اللاتينية، العبرانية، السريانية، الكلدانية، الفينيقية، السنسكريتية… جميع اللغات التي مرّت على هذه البلاد، أو تفاعلت مع العربية، أو تركت في المجتمع الإنساني روائع فكرية وروحية.

إرفعوا في هذه الدار منبرًا لتاريخ الأديان الشامل؛ الأديان الموحّدة: الموسوية والمسيحية والإسلام والأديان المعدّدة: البوذية والبراهمية والوثنية جميعها.

إرفعوا فيها منبرًا للميثولوجيا: إعتقادات الأقدمين وخرافاتهم الدينية، فهي علمهم، طريقة تفسيرهم الكون، ويجب ألّا نجهلها.  وخصّوا بالعناية الشعوب التي مرّت في لبنان، يكن لديكم ميثولوجيا لبنانية من أذخر ما عمرت به متاحف الروح والفكر.

كوّنوا اللبناني العالمي، عربيًّا مستقلًّا، ذا ثقافة واسعة شاملة، موجهة إلى الخير، خير بلده وخير الإنسانية.

ويجب أن تقفز هذه الدار، دار المعلمين العليا، قفزة واحدة، مشروعًا ضخمًا، منذ البدء، بحيث تخرّج كلّ عام خمسين معلّمًا على الأقل، خمسين أستاذًا، وبحيث تكون نواة الجامعة المقبلة.

من أين أساتذتها؟ – من هنا، ومن هناك، وراء البحر !

أين يجد خرّيجوها العمل، بعد هذه الدراسة الواسعة؟

في الثانوية اللبنانية التي يجب إنشاؤها، وفي الجامعة اللبنانية عندما توجد، وفي المعاهد الخاصة، أجنبية ووطنية، وفي البلاد العربية جمعاء !

هذه الدار، دار المعلمين العليا، حاجة ملحّة.  إنّها دار التربية، مكوِّنة المكوِّنين، معِدّة الأساتذة.  والشرق العربي أصلح من تربة لبنان لبذور الفكر.  إنّها أداة الإشعاع الفكري، رسالة لبنان !

 

 

***

فتحنا دار المعلمين العليا ، في بيروت، على بركات الله.

وفتحنا الثانوية.  أين؟  فثانوية واحدة لا تكفي.

أود أن تكون الثانوية نموذجية، واحدة في مركز كلّ محافظة، وليس ذلك بكثير.  فقد أمست بيروت نصف لبنان، من أجل المدارس.  والأزمات في العاصمة: أزمة السكن، وأزمة السير، وأزمة السوق… والأزمات في القرى: الرحيل عن القرى، والإنصراف عن الأرض، وبيع الأرض بخسًا… والأزمات الإجتماعية في لبنان: البطالة، والتكالب على الوظيفة، واضطراب الأمن… جميع هذه الأزمات تردُّ في معظم أسبابها إلى تمركز العلم في بيروت، وفي معظم الباقي من الأسباب إلى تمركز كلّ شيء في بيروت !

وإذن لنراجع !  تنشيط المدرسة الرسمية الإبتدائية، وفتح الثانوية النموذجية، وفتح دار المعلمين العليا.  والأمور الفنية متروكة لأرباب الإختصاص، فقد قلت أنّ محاضرتي سياسية، بعد أن قلبت إناء السياسة على فمه، فأفرغ منه كلّ ما كان أفرغ فيه، وعادت الكلمة إلى معدنها.

ستقولون: كلّ ذلك جميل.  إنّه حبر على ورق.  وهل بإمكان لبنان، مع تقوية المدرسة، فتح الثانوية النموذجية، في المحافظات الخمس، وفتح دار المعلمين العليا، بقسميها التحضيري والتكميلي، وبضخامتها التي تود؟…

– ولم لا يكون بالإمكان؟  أيعوذنا الأساتذة؟  وخرّيجو السوربون والبوليتكنيك والسنترال وجامعات أميركا وإنكلترا يفتشون عن عمل يعينهم على الحياة فلا يجدون، ويمكننا استقدام من نشاء من أساتذة الغرب !

أيعوذنا التلامذة؟  وهم بمئات الألوف، يتزاحمون بالمناكب، وترفض المدارس والمعاهد أكثر من نصفهم في كلّ عام، لأنّها تضيق بهم، فضلًا عمّن يأتينا من طلاب البلاد العربية !

أتعوزنا الكتب المدرسية؟  ومكتباتنا تغصّ بمؤلفات الكتّاب العرب والكتّاب الأجانب، ننتخب منها ما يلائمنا، ونؤلّف ما يجب تأليفه !

أيكون المال هو الذي يعوزنا؟

– إنّنا نعمّر من الأساس !  أيجوز الإقتصاد في أساس البيت والإسراف في زخرفته؟  ألا تخافون أن تنهار الجدران الفخمة والسقوف المتينة والنقوش البارعة على الأساس الواهي؟

يجب أن لا يعوزنا المال.

والبيت اللبناني، لا أقول أساسه المدرسة.  إنّه المدرسة !

الإبتدائية الطابق الأرضي، والثانوية الطابق الأوسط، والجامعة الطابق الأخير.  أمّا الباقي: الداخلية والخارجية والمالية، العدلية والصحّة والإقتصاد الوطني، الزراعة والتجارة والصناعة… جميع الوزارات، جميع الدوائر، جميع مرافق الحياة اللبنانية ومنظماتها العامة والخاصة، فأولئك سكان الغرف في البيت اللبناني.  جميع هؤلاء السكان يهمّهم، أول كلّ شيء، ألّا ينهار البناء على رؤوسهم.

***

بارك الله بالكلام !  إنّنا سنفترض – كلامًا –  أن المدارس التي طلبناها قد فتحت أبوابها،  فتعالوا نطلّ من النوافذ.

كوّنا المعلّم، وفتحنا المعاهد اللازمة، فماذا يجب بعد؟

التعليم معلّم وكتاب، ومن ثمّ تلميذ.  فبعد تكوين المعلّم، يجب تأليف الكتاب.  قلت بعد تكوين المعلّم، حاجة إلى الترتيب في سياق البحث.  فتأليف الكتاب، إن لم يسبق تكوين المعلّم، يجب أن يماشيه على الأقل.  لأن الكتاب يكوّن المعلّم الذي يكوّن التلميذ بدوره، بواسطة الكتاب.  إنّها شبه حلقة مفرغة…

يجب الإسراع إلى تأليف الكتاب اللبناني، إلى تأليف الكتب اللبنانية المثلى.

هيا نؤلّف:

تاريخ لبنان، على ضوء مفهوم لبنان كما استخلصناه من الواقع منذ حين: عربي، إنساني، مستقل، همزة الوصل بين الشرق والغرب.

جغرافية لبنان، بوجه شامل: الطبيعية، والإقتصادية، والإجتماعية، والروحية.  ما على وجه الأرض وما في بطنها.  جميع الإمكانيات.

كتابًا في التربية المدنية اللبنانية، يدرس التلميذ فيه جهاز الدولة التي هي دولته، ودستورها السياسي، وميثاقها القومي، وطابعها الروحي.

كتبًا للمطالعة، أو للقراءة يدرسها الطالب ويسأل عنها:

كتابًا أول يجمع من أساطير الأدب العربي ومن أساطير الآداب العالمية، مصوغة في قالب عربي أخّاذ، كلّ ما يغرس في طينة التلميذ الطريئة، المثل العليا التي نودّ أن تصبح طبيعة في أولادنا: الجمال، الإخاء، التعاون، الوفاء، الفرح، التفكير بأسرار الكون، الإعتماد على النفس، الإقدام، الصبر، البطولة… كلّ ما يكوّن اللبناني العربي الإنساني !

كتابًا آخر يكون للتلاميذ ذخرًا روحيًّا: مقتطفات من التوراة والإنجيل وأقوال الرسل، ومن القرآن والحديث ونهج البلاغة وأقوال الأئمّة والصحابة.  مقتطفات من كلّ ما فيه روح صرف، وما ليس فيه تعرّض لدين آخر.  فنحن في لبنان مسيحيون ومسلمون.  ويجب أن نعيش متفاهمين متحابين، والمرء عدو ما جهل ومن جهل !  ليس هذا هو التعليم الديني، والمدرسة الرسمية يجب أن لا تفصل التلاميذ فئات، وتلقّن كلّ فئة طقوس دينها.  وإنّما الخير كلّه في أن تدرّس كلّ فئة شيئًا من أدبيات مذهب الفئة الأخرى.  بذلك يحصل التفاهم.

كتابًا ثالثًا يقصّ على التلاميذ أهمّ أسرار الكون وأنفع الإختراعات، من حيث نتيجتها العلمية وصداها الحيوي، بطريقة طريفة، بسيطة، خلّابة، تتوخّى شحذ الخيال وإيقاظ التفكير، لاحشو الدماغ.

أمثال هذه الكتب نريد وطبيعي ألّا يؤلّفها إلّا أربابها، وأن تراقبها الحكومة، وأَن تكون لجنة المراقبة صالحة للقيام بمهمتها، قوميًا وعلمًا وذوقًا، ولن أدخل في التفاصيل !…

وينبغي أَلّا ننسى أمرًا مهمًّا، وإن كان من باب الفضول الإطالة فيه: هو اللغة الأجنبية.  فمن عناصر تكوين اللبناني العربي العالمي أَن يُتْقِن، بأسرع ما يمكن، لغة عالمية.  اللغات العالمية اليوم إثنتان، لا ثالث لهما: الفرنسية والإنكليزية.  وإتقان كليهما إقتراب من الكمال في هذا المضمار.  وإتقان لغات أخرى، الروسية والألمانية على الأخصّ، أمر فيه كلّ الخير.  ولكنّه أمر أفراد يتخصّصون، لا قاعدة عامة.

***

وجدنا المعلّم، ووجدنا الكتاب، فما قولكم بمناهج التعليم؟

لقد وعدتكم إنّي لن أتدخّل في شؤون فنية بحت.  ولا أزال على وعدي.  فالمناهج قضية مختلطة، فيها سياسة، وفيها فنّ، وفيها سياسة الفنّ والآراء في كلّ ذلك متضاربة.  فإذا كنتم تشُكّون بالأمر، فإليكم نتيجة التحقيق:

رأى فريق أنّ توحيد مناهج التعليم أساس لتكوين اللبناني.  وقال أنّ هذه المناهج قد وُحّدت دون ضغط، بفضل الإمتحانات الر سمية.  فالمدارس الأجنبية، والمدارس الوطنية الخاصة مضطرّة إلى إتّباع المناهج الرسمية ليفوز تلاميذها بالإمتحانات.  ولم يطالب بإصلاح المناهج الرسمية، ولا الإمتحانات، فهو راضٍ عنها.

ورأى فريق آخر أنّ هذه المناهج، على وجوب وجودها، تحتاج إلى تعديل وإصلاح فيجب تخفيف المواد حسب عقلية الطالب وسنّه ووقته… وتبقى الإمتحانات على ما هي، مع ضمانة صلاحية الفاحصين ونزاهتهم.

وقال فريق ثالث بنسف كلّ ما هو رسمي: المناهج والمدرسة والإمتحانات.  وزعم أنّ المدرسة الرسمية تجرّد اللبناني من لبنانيّته، لأنّها لا تعنى إلّا بالمعلومات، وليس لها رسالة كما للمدارس الخاصة.  وحمل على البكالوريا بحجّة أنّها تقتل روح التربية والتوجيه المهني، وتشلّ النشاط الفكري عند الطالب، النشاط الصرف وتجعل منه آلة لاستيعاب مواد متعدّدة متشعّبة، قد لا يحتاج إلى معظمها في دراسته العليا، ولا يتّسع وقته لدراستها، ولا يقوى دماغه على هضمها.  وبحجّة أنّها تهيّء للجامعات قوالب من السكر، لا أدمغة وقلوبًا.  فليس من المعقول أن نجهّز طالب الحقوق بما نجهّز به طالب الطب، وفرع الفلسفة لا يميّز بين الإثنين.  واستعاض هذا الفريق عن البكالوريا بشهادة نهاية الدروس الثانوية، تعطيها المدرسة، مرفقة بمعلومات عن مواهب التلميذ ودراسته ومواظبته وصحّته، وما إليها…

وأنتم ترون أنّ الإختلاف في وجهات النظر يبلغ أشدّه، إلى أن يصير تناقضًا تامًّا.  ولكنّي لن أسألكم هذه المرة: أرأيتم لماذا لا تمشي العجلة، ولن أقول أنّ الخيل تشدّ بها إلى جهات مختلفة.  لأنّنا لا نختلف هنا على أمور سياسية قومية بحت، بل على أمور علمية تربوية، وعلى سياسة هذه المور، بملء معنى السياسة، والكلمة في كلّ ذلك للمربّين.

وليست البكالوريا أمرًا لا بدّ منه.  فهذا النظام الأنكلوسكسوني يولي المدارس والمعاهد والجامعات كامل ثقته، فالشهادات جميعها مدرسية تعترف بها الحكومة إعترافًا.

وليست البكالوريا خطلًا مبدئيًّا.  فهذا النظام الفرنسي لا يزال يعتصم بها، على الرغم من تعديلاته العديدة.

والمهمّ في كلّ ذلك – في جميع ما تفحّصنا من المواضيع – أن يتناقش أولو الإختصاص، نقاشًا علميًّا رصينًا، وأن يدلي كلّ منهم بآرائه مستندة إلى إختباراته.  ونتيجة نقاشهم كفيلة بأن تحمل إلينا المنهاج الأمثل.  فإلى النقاش إيّها المربّون !

إلى النقاش المثمر يا رجال الفكر، يا رجال السياسة، يا آباء التلاميذ، يا أمهات اليوم والغد، يا أيها الشعب اللبناني !

تعالوا نختط للعجلة هدفًا تسعى إليه، وندرّب الخيول على السير معًا في اتّجاهٍ واحد !

لقد استخلصت معكم الهدف اللبناني من الواقع اللبناني.  ورسمنا اتّجاه السير بوحي رسالتنا القومية والإنسانية.  على أنّ ذلك ليس أهمّ ما عملنا.  ولعلّ الأهم أنّ حديث هذا المساء ربّما يكون – بل يجب أن يكون – موضوع نقاش حاد، شرارة حربٍ بين الآراء، نعقد السلم الدائم بعد إنطفائها.  فنحن لا نريد أن يفلت من لبنان لبناني واحد !

قلت لكم أنّني سألقي على السائق تبعته، لا أهاب؛ تبعته المزدوجة، لأنّه منا ولأنّه سائق.  وترون أنّني ألقيتها عليه، في الماضي والحاضر – والمدرسة الرسمية حجّتي – وفي المستقبل – والمشاريع الضخمة التي طلبت سلاحي.

ولكنّي ألقيت عليه تبعته وحدها، فلا تطلبوا مني إلقاء تبعتنا عليه.  فتحقيق هذه المشاريع وما يتطلّب من سعي متواصل، وبذل عن سخاء، وصبر في غير وهن، وإقدام في غير عرقلة… كلّ ذلك علينا، نحن الشعب، قبل أن يكون على الحكّام.

العمل كما ترون إنشاء مدارس، إنشاء المدرسة اللبنانية الكاملة وهي وحدها الكفيلة بأن يتعاون الشعب اللبناني – تلميذها –  على الحياة بصدق وإخلاص، في إطار الأخوّة الوطنية.  لأنّها تكون قد وحّدت المفاهيم ووضعت النقاط على الحروف في أبجدية السياسة اللبنانية، الداخلية والخارجية.

هذه المدرسة اللبنانية الكاملة، التامة بفروعها المتسلسلة، هي الكيان اللبناني الفكري.  ونحن، الباحثين في سياسة هذا الكيان، قد وضعنا منذ الآن أساسه.  وبهذا نعود إلى الموضوع الأصلي: التعمير من الأساس، ولم يعد بالأمر هدنة؛ إنّه السلم النهائي.

هذا العمل يتطلّب التفكير الناضج والإستفتاء والمناقشة فللكتابة محاضرة متواضعة كالتي سمعتم، تتوخّى التعمير من الأساس حبرًا على ورق، إضطررت إلى الإستفتاء، وإلى إزعاج المربّين في صوامعهم العليا، والمفكرين في أبراجهم العاجية، ورجال الشارع في عملهم اليومي ولكلّ هؤلاء شكري وتقديري.  إنّ هذه المحاضرة من صنعهم !

فكيف بنا إذا أردنا البناء بالحجر والحديد، ثمّ بالعلم والكتاب، ثمّ بالمناهج والبرامج… إنّ الأمر يتطلّب جهود سنوات، جهود فكر وعمل، جهودًا متواصلة.  وليس ذلك بكثير على تعمير البيت اللبناني، من أساسه !

ومتى عمر هذا البيت لا تعود الشكاوى التي عرضتها في مطلع البحث معضلات مزمنة، ولا معضلات حادة، بل تجد حلّها الطبيعي، لأنّنا نكون قد إتفقنا على المفاهيم، وعلى طرق المعالجة.

ومتى عمر هذا البيت يعود لبنان إلى طبيعته، عربيًّا إنسانيًّا مستقلًّا، يؤدّي رسالته، العربيّة والإنسانيّة، آخذًا معطيًا، مستفيدًا مفيدًا، ينبوعَ إشعاع فكري وروحي، واحة سلام وتساهل وإخاء في صحراء الأنانية البشرية، همزةَ الوصل بين الشرق والغرب !

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *