ثورة الاستثناءات العالقة!

Views: 894

د. مشير عون

(الخميس 24 تشرين الأوّل 2019)

في وطن الأوضاع الاستثنائيّة لا يمكن أن تنفجر ثورةٌ سليمةٌ، طبيعيّةٌ، منطقيّةٌ. ومع أنّ الثورات لا تعترف بهذه الصفات، فإنّ النظر في الوضعيّة الخاصّة التي تكتنف المجتمع اللبنانيّ يَضطرّ الجميع إلى التبصّر في تعقيدات هذه الثورة.

التعقيد الأوّل ينشأ من أنّ اللبنانيّين يحلمون بالوحدة، ولكنّهم لا يجسّدونها إلّا شعريًّا. لذلك غالبًا ما كانت ثوراتُهم الصادقة يخنقها التشرذمُ الطائفيّ والمذهبيّ، ويختطفها أهلُ الخبث من الطبقات السياسيّة المتعاقبة على حكمه، ومن أصحاب الثروات المنهوبة الفاحشة. وعليه، يكون تنوّعُهم، وهو ما زال في حالته البدائيّة الأولى، هو الوضع الاستثنائيّ الذي يهدّد كلَّ ثورات اللبنانيّين المحقّة.

التعقيد الثاني يأتي من أنّ اللبنانيّين تعوّدوا اللجوء إلى الآخرين والغرباء والأجانب لكي يحلّوا مشاكلهم الاقتصاديّة،والتقنيّة،والإداريّة،والبيئيّة. وكانوا على الدوام يتناسون أنّ الآخرين، مهما أحبّوا لبنان، لن يحبّوه أكثر من حبّهم لأوطانهم ولمصالحهم. ومن ثمّ، تكون ارتباطاتُهم بالخارج هي الوضع الاستثنائيّ الذي يتربّص بكلّ ثورات اللبنانيّين المحقّة.

التعقيد الثالث ينجم عن أنّ اللبنانيّين يعيشون في عالم عربيّ لم يختبر الديموقراطيّة إلّا نادرًا، طاويًا سنواته في الفتن والتصارع والاقتتال. جميع الأنظمة العربيّة، من أكبرها إلى أصغرها، أرادت أن يكون اللبنانيّون مطيّةً لها ولمخطّطاتها التوسّعيّة.زد على ذلك أنّ آثار العدوان الصهيونيّ تنخر في المجتمعات العربيّة نخرًا يجعل التسالم العربيّ مستحيلًا. ولذلك تكون الوضعيّة الإقليميّة المضطربة هي الوضع الاستثنائيّ الذي يُنذر على الدوام بانهيار ثورات اللبنانيّين المحقّة.

التعقيد الرابع عنوانه التوتّر المتخلّف الموروث عن القرون الوسطى بين أهل السنّة وأهل الشيعة، وقد ورث اللبنانيّون آثاره القاتلة منذ صحوة الوعي الشيعيّ في الثورة الإيرانيّة وتصلّب الوعي السنّيّ في السعوديّة. ومن بعد أن تفاقم الغباءُ المسيحيّ في إدارة السياسة اللبنانيّة في أثناء الحرب اللبنانيّة وفي إثرها، وتشنَّج اليسارُ العَلمانيّ في موروثاته الستالينيّة البائدة، أصبح جميع اللبنانيّين مضطرّين إلى الاختيار بين حلف سنّيّ الهوى وحلف شيعيّ الهوى. أمّا اللبنانيّون الوطنيّون المستقلّون الذين يريدون الانعتاق من الألبسة الطائفيّة ومن هذا الاستقطاب، فأصبحوا في موضع التهميش والرذل. فإذا كان الأمر على هذا النحو، كانت مخاطر الفتنة السنّيّة الشيعيّة وتبعات الغباء السياسيّ المسيحيّ هي الوضع الاستثنائيّ الذي يربض على ثورات اللبنانيّين المحقّة.

التعقيد الخامس يرتبط بمهنة الفساد الذي يستوليعلى ذهنيّة اللبنانيّين في أغلبيّتهم الساحقة. من جرّاء سقوط القيم الأخلاقيّة، واستفحال النهب في جميع دوائر الإدارة اللبنانيّة وعلى تعاقب الحكومات اللبنانيّة، تبيّن للّبنانيّين أنّ بقاءهم على قيد الحياة يَضطرّهم إلى أن يسرق بعضهم بعضًا. فالكلّ يسرق الكلّ في لبنان، من الوزير إلى البوّاب. مثل هذا الفساد المتفاقم جعل الاقتصاد اللبنانيّ خاضعًا للإرادة الماليّة الدوليّة. ومن ثمّ، فإنّ المديونيّة الهائلة هي الوضع الاستثنائيّ الذي ينذر بالقضاء على ثورات اللبنانيّين المحقّة.

فهل يستطيع اللبنانيّون الثائرون، والحال هذه، أن يتجاوزوا جميع هذه الاستثناءات المعطِّلة ؟ وهل يمكنهم أن يُنقذوا ثورتهم من طغيان هذه الاستثناءات على وعيهم وعلى واقعهم اليوميّ ؟ اقتناعي أنّ الساحات الثائرة متألّمة حتّى العظم. ولكنّ المتربّصين بالثورة هم كثُر، قادرون على إجهاض الثورة وتهديمها وإفنائها. لذلك أصرّ على التفاعل السلميّ الليّن بين السلطة الحاكمة والساحات الثائرة. فمن ذا الذي يجرؤ على التحدّث باسم الثورة ؟ وهل تجرؤ السلطة على اعتقال مجلس الثورة حين يظهر على العلن ؟

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *