اضاءة على كتاب “مشكلات فلسفية” لـ برتراند راسل

Views: 325

وفيق غريزي

من الصعب أن يلج المرء الى عالم الفيلسوف البريطاني برتراند راسل ويظل مؤمنًا بالمعنى التقليدي للايمان، لكن مترجم كتاب “مشكلات فلسفية” خالد الغنامي تمكن من دخول هذا العالم والخروج منه سالما. وايمانه المتغلغل في كيانه المعرفي هو الحاكم على بنيته الفكرية. لقد بين راسل شرطه في مقدمة كتابه “مشكلات فلسفية”، وحصر كتابه في قضايا نظرية المعرفة دون غيرها. ونظرية المعرفة كما هو معلوم تشكل ثلث الفلسفة. هناك ثلث لقضايا الوجود، وثلث للاخلاق، إلا أن هذين الثلثين كانا خارج شرط هذا الكتاب. بطبيعة الحال، هذه التقسيمات هي تقسيمات اجتهادية ولك أن تعترض عليها بما تشاء، انها كتقسيم الفلاسفة المثاليين والماديين، او العقلانيين والواقعيين.

الفلسفة ابنة عصرها كما يقول هيغل، وفلسفة راسل ابنة عصرها، فهي امتداد لفلسفة العصور الحديثة، وقد كان اهتمام الفلسفة الحديثة منصبًا بقدر كبير على نظرية المعرفة – نستثني منهم هيغل ومارتن هيدغر اللذين شغلا بنظرية الوجود- لكن لو اردنا أن نختصر نظرية المعرفة عند الفلاسفة في كلمات لقلنا إنها تعنى نظرية المعرفة، بمحاولة الاجابة عن الاسئلة التالية: هل يمكن أن تعرف؟ ماذا يمكن أن تعرف؟ ما هي ادواتنا للوصول الى المعرفة؟ هل تعتمد على العقل ام الحس ام الحدس؟ ما مدى مصداقية هذه الادوات؟ ما هي وجهة نظر الفلسفة المثالية حول نظرية المعرفة.

خالد الغنامي وكتاب “مشكلات فلسفية”

 

ويؤكد المترجم انه لكي نفهم راسل اكثر، ينبغي أن نقول أن كل فيلسوف لديه لفظة محظية يفضلها على كل المفردات، او الفاظ عدة. هذه اللفظة هي ما يدور حولها محور تفكيره، مثلا اننا نربط بين ديكارت والكوجيتو: “انا افكر، اذن انا موجود”، وبين هيغل ومفردة الروح التي تقوم عليها فلسفته. كذلك برتراند راسل له مفردة، وهي تترجم: بالواقعية، وتعني الشيء الذي تم فعله، وهي احدى معطيات التجربة، ويقابلها الوهم والخيال والممكن. إن النقد السلبي المجرد سيكون غير مناسب، ولهذا السبب تحتل نظرية المعرفة مساحة اكبر من الميتافيزيقا في كتاب راسل “مشكلات فلسفية”. وهناك بعض الموضوعات التي ناقشها الفلاسفة سابقا، ناقشها راسل هنا باختصار.

المظهر والحقيقة

هل هناك معرفة في العالم هي من الموثوقية بمكان؟ لدرجة انه لا يمكن لأي رجل عاقل أن يشكك فيها؟ هذا السوال الذي قد يبدو من النظرة الأولى غير عسير على الاجابة. يقول راسل هو في الحقيقة: “احد اصعب الاسئلة التي يمكن أن طرحها على الاطلاق. عندما ندرك المعوقات التي تحول دون الوصول الى اجابة واضحة وقاطعة، عندها فقط نكون قد وصلنا الى عتبات دراسة الفلسفة”، ذلك أن الفلسفة لا تعدو أن تكون مجرد محاولة لمقاربة الاسئلة الوجودية الكبرى، بطريقة جادة ومتحررة من الدوغمايية.

برتراند راسل

 

ويطرح راسل على نفسه سؤالين: الأول: هل يوجد هناك ما يسمى بالمادة؟ والثاني: اذا كان الأمر كذلك، فما هي طبيعتها؟ ويقول إن: “اول من قدّم لنا الأسباب التي جعلتنا ناخذ في الاعتبار أن الاشياء المباشرة لحواسنا ليست موجودة بصورة مستقلة هنا، هو الفيلسوف والناقد بيركلي ( 1685-1753 ). وقد أخذ على عاتقه في كتابه “الحوارات الثلاثة بين هيلاس وقيلونوس” القيام بمعارضة المشككين والملحدين، من أجل اثبات انه ليس هنالك شيء اسمه مادة على الاطلاق، وأن العالم يتكون فقط، من العقول والأفكار. وعند التساؤل عن وجود المادة، تنبثق مشكلتان مختلفتان، ومن الأهمية بمكان أن نفهمهما جيدا. فنحن يقول راسل: “نقصد بالمادة بشكل عام الشيء المقابل للعقل. الشيء الذي نعتقد انه يشغل حيزا في الفراغ، ويكون عاجزا تماما عن اي نوع من الفكر او الشعور”. وهذا يؤكد أن بيركلي ينكر وجود المادة. هذا معناه، أن ينكر أن المعطيات الحسية التي تعتبر اشارات تدل على وجود المادة، هي اشارات فعلية لوجود شيء مستقل عنا. ولعل من الافضل من منظار راسل أن ننظر ولو لحظة، الى ما اكتشفه من هذا البحث، فاذا اخذنا شيئا ما، من النوع الذي نظن انه يمكن معرفته بالحواس، فاننا لا يمكن أن نعتبره ما تخبرنا به حواسنا مباشرة هو حقيقة الشيء، كشيء معزول عنا. ولكنها في الحقيقة، يقول راسل: “معطيات حسية معينة لا اكثر، وهي تعتمد على العلاقة بيننا وبين هذا الشيء، هذا بقدر ما يمكننا رؤيته حتى الآن”.

المعرفة المباشرة والمعرفة بالوصف

هناك نوعان من المعرفة. معرفة الاشياء ومعرفة الحقائق، وعلينا أن نميز نوعين منها، معرفة الاشياء، عندما تكون من النوع الذي نسميه: المعرفة المباشرة، فان جوهرها يكون ابسط من أي معرفة بالحقائق، ويمكن من الناحية المنطقية وصفها بالاستقلال عن المعرفة بالحقائق، رغم انه من الطيش أن نفترض أن لدى البشر معرفة مباشرة، حقا، بالاشياء من دون أن يكون لديهم في الوقت ذاته، بعض الحقائق حول تلك الاشياء. والمعطيات الحسية، هي من بين الاشياء التي تتعرف عليها مباشرة، وبالفعل، هي تقدم المثال الاوضح والادق لصورة المعرفة المباشرة. ولكن اذا كانت المعطيات الحسية هي المثال الوحيد للمعرفة المباشرة، فهذا من وجهة نظر راسل، يعني أن معرفتنا ستصبح محصورة في نطاق ضيق، اكثر من ذي قبل. وهكذا اصبحت معرفتنا محصورة فقط بما يظهر الآن…

فردريك هيغل

 

المعرفة القبلية وكيفية امكانها

يعتبر الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط عند راسل من اعظم فلاسفة العصور الحديثة. رغم انه عاش حرب السنوات السبع والثورة الفرنسية، فانه لم ينقطع ابدا عن تدريس الفلسفة في مدينة كوينغزبيرغ في بروسيا الشرقية. وكان اسهامه الاكثر تميزا هو اختراع ما سمّاه الفلسفة النقدية، والتي تفترض أن هناك انواعا مختلفة من المعرفة، ثم يتساءل: كيف يمكن أن تكون هذه المعرفة ممكنة؟

يؤكد راسل أن كانط، استخلص من الاجابة، نتائج ميتافيزيقية كثيرة تتعلق بطبيعة العالم. هذه النتائج، وان كانت في موضع الشك. لكن، انتبه الى أن لدينا معرفة قبلية، ليست تحليلية بحتة، حيث أن عكسها سيتضمن تناقضا ذاتيا. وثانيا: لأنه ابرز الاهمية الفلسفية لنظرية المعرفة. يقول راسل: “قبل زمن كانط، كان الاعتقاد السائد هو أن المعرفة اذا كانت قبلية، فيجب أن تكون تحليلية، وسوف يتضح معنى هذا الكلام بصورة افضل عندما نقوم باعطاء الامثلة على ذلك، اذا قلت: “إن الرجل الاصلح هو رجل” و”شكل الطائرة شكل” و”الشاعر الرديء شاعر”، فانني اصدر احكاما تحليلية بحتة. فالموضوع الذي اتحدث عنه له خاصتان على الاقل، اخترنا واحدة لنصفه بها، لا جديد في مثل هذه القضايا، ولم نسمع بها في الحياة الحقيقية الا على لسان خطيب يمهد الطريق للوصول الى السفسطة، نسميها قضايا تحليلية لاننا نستنتج المحمول بمجرد تحليل الموضوع”. قبل زمن كانط كان الاعتقاد السائد أن جميع الاحكام التي يمكن أن نتأكد منها قبليا هي من هذا النوع، لأن في كل قضية منها، محمول، ليس الا جزءا من هذا الموضوع الذي وصفه، اذا كان الأمر كذلك، فاننا نقع على تناقض، واضح عندما نحاول انكار اي شيء يمكن أن يكون معروفا معرفة قبلية.

مارتن هايدغر

 

وديفيد هيوم (1711- 1776) الذي سبق كانط بقبوله للفهم المشترك بخصوص ما يجعل المعرفة قبلية، اكتشف أن الارتباط تركيبي في كثير من الحالات التي كان يفترض مسبقا أن تكون تحليلية، وخاصة في حالة السبب والنتيجة، يقول راسل: “لقد افترض العقلانيون قبل مجيء هيوم على الأقل، أن من الممكن استنتاج النتيجة منطقيا من السبب، اذا كانت لدينا المعرفة الكافية. وقد برهن هيوم باعتراف الجميع الان، على أن هذا لا يمكن أن يكون”. (Valium) ما تؤيده هذه النظرية، انه يبدو لدينا معرفة قبلية بالمكان والزمان والسببية والمقارنة. لكن ليس عندنا معرفة قبلية خاصة بمادة الاحساس الخام الموجودة بالفعل. يقول كانط: في هذه المسالة: “اننا نستطيع التأكد من أن أي شيء ندركه بالتجربة، يتعين أن يظهر الخصائص التي اثبتناها له في معرفتنا القبلية. لان هذه الخصائص ترجع الى طبيعتنا الخاصة، وهكذا لا يمكننا أن ندرك اي شيء لا تكون فيه هذه الخصائص “. ويرى كانط أن الشيء المادي الذي يسميه الشيء في ذاته لا يمكن معرفته اصلا. لكن يمكننا نعرف الشيء كما تدركه حواسنا، اي ما نسميه ظاهرة، يقول راسل: “وبما أن الظاهرة نتيجة عمل مشترك بيننا وبين الشيء في ذاته، اذن فنحن قد شاركنا في وضع خصائصها. وبناء عليه في تطابق معرفتنا القبلية، وعلى هذا فهذه المعرفة رغم كونها صحيحة بالنسبة الى اية تجربة ممكنة، إلا انه من الواجب الا نتوقع انها ستنطبق خارج حدود التجربة. هناك معرفة قبلية، لكننا لا نستطيع أن نعرف اي شيء عن الشيء في ذاته، ولا عن موضوع تجربة فعلية او ممكنة. وهكذا يحاول كانط أن يوفِّق بين تأملات الفلاسفة العقلانيين وبين براهين الفلاسفة التجريبيين وأن يصنع التناغم بينهما. إن العلاقات يجب أن تكون في عالم غير عقلي ولا مادي، وهذا العالم له اهمية عظمى بالنسبة الى الفلسفة، وخصوصا في ما يتعلق بمشكلات المعرفة القبلية.

عالم الكليات

يقول برتراند راسل: “المشكلة التي نحن بصددها قديمة جدا، منذ أن قدّمها افلاطون الى الفلسفة لاول مرة. نظرية افلاطون في الافكار هي محاولة لحل هذه المشكلة، وفي رأيي انها واحدة من المحاولات الاكثر نجاحا، حتى الآن، النظرية التي سندافع عنها بشكل كبير في ما يلي: هي نظرية افلاطون، مع بعض التعديلات التي اظهر الزمن ضرورتها”.

 جورج بيركلي

 

طريقة المشكلة في الظهور امام افلاطون، كانت على النحو التالي: “دعونا نتامل في فكرة العدالة مثلا. فلو سألنا انفسنا ما هي العدالة؟ فمن الطبيعي أن ننطلق من استدعاء امثلة من الاعمال العادلة لعلها تكشف عما وراءها من القواسم المشتركة. ولابد انها جميعا، الى حد ما، تشترك في طبيعة واحدة، والتي سيتم العثور عليها في كل ما هو عادل وليس في شيء آخر”،  ولقد انساق افلاطون الى القول بالعالم فوق المعقول، وهو اقرب للحقيقة عنده من العالم الحسي المعروف، عالم الافكار اللامتغير، والتي تعطي لعالم الحواس انعكاسا باهتا للحقيقة التي تنتمي اصلا لذلك العالم. فالعالم الحقيقي حقا عند افلاطون هو عالم الافكار، ولن تنجح اية محاولة للحديث عن الاشياء في العالم الحسي، الا عندما نقول انها تشترك في هذه الفكرة او تلك، مما يحدد صفاتها، وبالتالي يصبح من السهل الاتجاه نحو تصوف صفاتها.

وحتى بين الفلاسفة، هناك من لا يرى من هذه الكليات الا ما تشير الى الصفات والمنعوتات، في حين يتجاهلون الافعال وحروف الجر، وقبل كل شيء يجب علينا أن نفحص معرفتنا بالكليات

حدود المعرفة الفلسفية

معظم الفلاسفة، او الكثير منهم على اي حال، قد صرح بانه قادر على أن يثبت اسبقية التفكير الميتافيزيقي، واشياء مثل العقائد الاساسية للعين، وعقلانية الكون الجوهري، وزيف المادة، وعدم واقعية جميع الشرور، ليس هناك ادنى شك في أن الأمل في العثور على سبب للاعتقاد بمثل هذه القضايا كان مصدرها للالهام الاكبر بالنسبة الى الطلاب الذين قضوا حياتهم كلها في الفلسفة. في العصور الحديثة، كان الممثل الكبير لمثل هذا النوع من الاقوال التي تود فحصها، هو هيغل( 1770-1831). يقول راسل إن فلسفة هيغل: “صعبة جدا، وقد اختلف الشارحون في تحديد التفسير الصحيح لها.

ايمانويل كانط

 

ووفقا للتفسير الذي اعتمدته، وقد اعتمده كثيرون، أن لم يكن اكثر الشارحين، والذي يجعلها نوعا كثيرا ومهما من الفلسفة، فان قضيته الاساسية الرئيسة هي أن كل شيء غير الكل. هو شظية مقتطعة من الكل، ومن الواضح أنها غير قادرة على الوجود دون تكملتها من بقية العالم”. وكما في علم التشريح المقارن، نستطيع من عظم واحد، أن نعرف اي نوع من الحيوانات كان يشكله الكل الذي ينتمي اليها هذا العظم. وكذلك الميتافيزيقي كما يدعي هيغل، يستطيع أن يرى كل الحقيقة اذا رأى جزءا منها. على الأقل في خطوطها الكبرى، كل ما يظهر انه قطعة معزولة في الحقيقة، لديها شبك يوثقها بقطعة اخرى من الحقيقة، والقطعة الاخرى لديها بدورها مشبك جديد، حتى يتم اعادة بناء كل الكون من جديد. وعدم الكمال الجوهري هذا كما يزعم هيغل يظهر بنفس الدرجة في عالم الفكر وعالم الاشياء. يتضح لنا مما سبق اننا لا نستطيع أن نحكم بأن الكون كله يشكل منظومة واحدة متناغمة كما يرى هيغل عن هيئة الكون.

وفي الختام، المعرفة الفلسفية من منظور راسل، أن كان ما اورده صحيحا، لا تختلف بشكل اساسي عن المعرفة العلمية. ليس هناك مصدر خاص. للحكمة، مفًتوح للفلسفة ومغلق امام العلم، والنتائج التي تصل اليها الفلسفة لا تختلف جذريا عن تلك التي يصل اليها العلم، غير أن السمة الاساسية للفلسفة التي تجعلها متميزة عن دراسة العلوم انما هو النقد.

ديفيد هيوم

 

الفلسفة شأنها شأن جميع الدراسات الاخرى، تهدف اساسا الى المعرفة، والمعرفة المستهدفة هي ذلك النوع من المعرفة الذي يعطي الوحدة والنظام لجسد العلوم، انه النوع الذي ينجم عن الدراسة النقدية والتمحيص لاساسات قناعاتنا وتحرياتها والمعتقدات.

يؤمن معظم الفلاسفة حقيقة حسب اعتقاد راسل بان الفلسفة يمكنها تأسيس الحقيقة ببعض الاجوبةعل هذه الاسئلة الجوهرية، لقد افترضوا انه يمكن اثبات القضايا الأكثر اهمية في المعتقدات الدينية من خلال البرهنة الصارمة على انها حق. من اجل الحكم على مثل هذه المحاولات، فانه من الضروري المتعين علينا، اجراء مسح شامل للمعرفة البشرية، وتكوين راي حول المناهج التي عملت بها وحدودها التي تتوقف عندها: “إن قيمة الفلسفة تكمن بشكل كبير في عدم اليقين، بحد ذاته، والرجل الذي لا يحمل مسحة الفلسفة يعبر عن هذه الحياة تابعا في سجن الاحكام السابقة المستمدة من الفهم المشترك، ومن المعتقدات المعتادة في عصره

وأمته”….

***

* الصورة الرئيسية: وفيق غريزي وخالد الغنامي

 

 

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *