الزواج المدنيّ الإجباريّ الشامل

Views: 825

د. مشير عون

(الجمعة1 تشرين الثاني 2019)

الشبّان والشابّات الثائرون يُصرّون على تغيير النظام اللبنانيّ تغييرًا جذريًّا. ويصرّ ثائرون آخرون على إلغاء الطائفيّة وإنشاء الدولة المدنيّة. أمّا الأحزاب اللبنانيّة، فبعضُ يسارها يصرّ على إلغاء الطائفيّة السياسيّة، وبعضُ يمينها يصرّ على العَلمانيّة الشاملة. في إصرار الشبّان والشابّات براءةُ الثورة البهيّة، وفي الإصرار على إنشاء الدولة المدنيّة حكمةٌ جليلةٌ. أمّا في تنازع الأحزاب بين إلغاء الطائفيّة السياسيّة والعَلمانيّة الشاملة، فدليلٌ على إشكاليّات خطيرة تتجاوز مقاصد الثورة من أجل غايات أيديولوجيّة مُغرِضة.

يعلم الجميع أنّ لبنان هو وطن الأزمات المتعاقبة. وفي كلّ أزمة تُطرَح مسألتان، مسألة الكيان وضرورته، ومسألة النظام الطائفيّ وعِلَله. ينسى الجميع أنّ لبنان، في مصادفته الأصليّة وفي تكوّنه التاريخيّ، السياسيّ والدستوريّ والقانونيّ، نشأ ملتقًى للجماعات وموئلًا للأقلّيّات الهاربة من بطش السلاطين. على تعاقب العقود، استحسن بعضُهم أن يجعل هذا الملتقى مختبرًا للتنوّع الإنسانيّ الروحيّ حتّى بلغ الرجاء أوجه حين أعلنت البابويّة الكاثوليكيّة العالميّة أنّ لبنان هو رسالةٌ حضاريّةٌ كونيّةٌ.

لستُ من الذين يقولون بسرمديّة الحقائق والأوضاع والترتيبات والتسويات. فكلّ شيء في التاريخ قابلٌ التغيّرَ والتطوّر والانحلال والتكوّن الجديد المستمرّ. من الواضح أنّ كثرةً كاثرةً من اللبنانيّين ضاقت ذرعًا بالانحرافات المميتة التي انطوت عليها الطائفيّة اللبنانيّة. بيد أنّ تغيير النظام الطائفيّ لا يتيسّر للّبنانيّين ما لم يسارعوا إلى تغيير أذهانهم وعقولهم، وذهنيّاتهم وعقليّاتهم، وتشريعاتهم وقوانينهم. أخطر السبُل وأفعلُها في تغيير النظام الطائفيّ تشريعُ الزواج المدنيّ الشامل الإجباريّ. وهو تشريعٌ يستتلي توحيدَ نظام الأحوال الشخصيّة ووضع اللبنانيّين في موضع المساواة الوطنيّة أمام القانون. 

ذلك بأنّ الزواج المدنيّ الشامل الإجباريّ ينشئ للّبنانيّين هويّتهم الوطنيّة الجامعة، ويحرّرهم من إكراهات السلطان الدينيّ الطائفيّ، ويمنحهم الحرّيّة في الإقبال المستنير إلى الإيمان الذاتيّ الشخصيّ الداخليّ الحرّ المنعش. وليس للمسيحيّين والمسلمين أن يتحجّجوا بذريعة التماسك الوجوديّ الذي يُمليه الإيمان في مسلك الإنسان. فكلّ لبنانيّ يمكنه، من بعد أن يعقد زواجه المدنيّ أمام المحكمة اللبنانيّة الواحدة، أن يعود إلى جماعته المؤمنة ويحتفل وإيّاها بزواج دينيّ يناسب معتقده. وإذا أراد أن يتصرّف بأحكام الزواج والإرث بحسب ما يمليه عليه إيمانُه الدينيّ، فيمكنه أن يفعل ذلك من غير أن يناقض ما أجمعت عليه قوانينُ الزواج المدنيّ المستلّة من شرعة حقوق الإنسان الكونيّة.

مسألةٌ جليلةٌ ينبغي التبصّر فيها في حال اعتماد مبدإ الزواج المدنيّ الإجباريّ الشامل. عنيتُ بها المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة. وفي اعتقادي أنّ المسيحيّين والمسلمين يستطيعون تطوير فقههم الدينيّ تطويرًا يتيح لهم اعتماد مبدإ الزوجة الواحد والزوج الواحد، ومبدإ الميراث العادل بين الذكور والإناث. ولستُ أظنّ أنّ التشريع المدنيّ، في أحكامه القانونيّة العادلة، يتهاون في تعزيز القيم الأساسيّة التي تصبو إليها الأديانُ، ومنها صون وحدة الزواج، وترسيخ مواثيق الأسرة، وتدبّر مقتضيات الطلاق وحقوق المرأة والأولاد.

عبثًا تدعو بعض الأحزاب إلى إلغاء الطائفيّة ايتهاون لسياسيّة من غير الاعتناء الصريح بتشريع الزواج المدنيّ الإجباريّ الشامل. فالطائفيّة يجب أن تُلغى من الأحوال الشخصيّة ومن القوانين والأحكام حتّى يتمكّن الناسُ من إلغائها من النفوس. المساواة أمام القانون اللبنانيّ في اعتماد الزواج المدنيّ، وتحرير المجال العامّ والإدارة والسياسة من سلطة الطوائف، هما الشرطان اللذان يجعلان اللبنانيّين قادرين على انتباذ الطائفيّة من نفوسهم وتصوّراتهم ومسلكهم وتصرّفاتهم. لا بدّ إذًا من سياسة تربويّة شاملة تؤيّد مثل هذا التحوّل القانونيّ الجذريّ حتّى ينعم اللبنانيّون بعَلمانيّة هنيّة تعزّز المواطنة اللبنانيّة،وتُنعش الاختبارَ الإيمانيّ الفرديّ الذاتيّ الحرّ المسؤول.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *