الشخصانيّة السياسيّة هلاكُ المجتمع اللبنانيّ

Views: 528

د. مشير عون

(الاثنين 4 تشرين الثاني 2019)

أعجبُ كلَّ العجب من هؤلاء اللبنانيّين الذين ما زالوا ينتظرون من زعماء طوائفهم إصلاحَ الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والتربويّة والبيئيّة. ويبدو لي أنّ الذهنيّة اللبنانيّة ما انفكّت أسيرة عبادة الزعماء، شأنها في ذلك شأن الذهنيّات البطريركيّة القديمة التي أثبتت الحداثةُ الفكريّة أنّها عادت لا تلائم مبدأ الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة. 

جميع القوميّات والأيديولوجيّات الإقصائيّة الاحترابيّة تستميت في اختراع صورةٍ بهيّة للزعيم القائد تستنهض بها عزائم الناس للإطباق على وعيهم، والانقضاض على ضميرهم، والإجهاز على حرّيّتهم. 

خوفي أن يكون اللبنانيّون ما برحوا عاجزين عن الفصل بين عدالة الدولة الحديثة الديموقراطيّة، بما هي جهازٌ إداريٌّ قضائيٌّ أمنيٌّ تقنيٌّ صرف، وسحر القائد الزعيم الذي يستطيع وحده أن يقوّم الاعوجاج، ويصلح الأوضاع، ويأتي بالأمن والسلام والازدهار. هي مشكلةٌ نفسيّةٌ جماعيّةٌ تصيب جميع الطوائف اللبنانيّة التي تلتئم في زمن المحنة حول زعيمها لتغترف من سحر شخصيّته التماسك الكيانيّ، والطمأنينة الوجوديّة، والعزم على النضال، والمثابرة على تحمّل مصائب الدهر. 

 

 

يُحزنني أن أعاين الجماعات اللبنانيّة تحتشد في ساحات زعمائها من كلّ التكتّلات السياسيّة لتستجدي من أوليائها نعمة الرجاء، وقدرة النهوض، وعزيمة الإصلاح. لستُ أنكر أنّ بعضًا من السياسيّين المتألّقين فكرًا وقولًا ومسلكًا يمكنهم، حتّى في المجتمعات الغربيّة المعاصرة، أن يستقطبوا اهتمام الجماهير،ويوجّهوا مداركَها، ويؤثّروا في تصوّراتها واختياراتها وقراراتها. غير أنّ الدولة الغربيّة الحديثة وضعت حدودًا صارمة تواكب مسعى هذه الشخصيّات الساطعة النابغة مواكبة التدقيق والمحاسبة والمساءلة لكي ترسم لأثرها الشعبيّ حدودًا قضائيّة مُلزمة. اللبنانيّ يُحسُّ بالزعيم ولا يُحسُّ بالدولة. فالزعيمفي وعيه هوالدولة !

لستُ أعلم كيف يستطيع الشعب اللبنانيّ الثائر أن يُبطل على الفور صورة القائد الملهَم والملهِم، ولاسيّما إذا استمرّت الوضعيّة الطائفيّة على حالها، وإذا تقاعس اللبنانيّون عن اعتماد العَلمانيّة الهنيّة التي تعيد للإنسان اللبنانيّ ذاتيّتَه وفرديّتَه وكرامتَه وحرّيّتَه ومسؤوليّتَه اللصيقة بوعيه الخاصّ. غير أنّي أعلم أنّ مطالب هذا الشعب تقتصر الآن على إنهاء حالة الفساد المستشري، وضبط الإدارة الراشدة في أجهزة الدولة، وتعزيز استقلاليّة القضاء، واسترداد الأموال المنهوبة المستودعة إمّا في الشركات الوهميّة المنتشرة في الجنّات الضرائبيّة المشهورة، وإمّا في المصارف العالميّة تحت أرقام وهميّة وأسماء مستعبَدة. واليقين أنّ المجتمع الدوليّ يستطيع على الفور أن يكشف أصحاب هذه الأموال، إنْ هو شاء أن يُسعف اللبنانيّين بمواجهة الانهيار الاقتصاديّ. في إثر سقوط كلّ مستبدّ عربيّ أو أفريقيّ أو آسيويّ كانت دوائر النفوذ السياسيّ والمصرفيّ العالميّ تسارع إلى حجز حسابات المستبدّين. فلمَ لا تسارع هذه الدوائر عينها إلى كشف حسابات الفاسدين اللبنانيّين المرعبة وحجز أموالهم وردّها إلى الشعب اللبنانيّ قبل أن ينهار الهيكلُ اللبنانيّ على الجميع !

 

 

أعتقد أنّ الطبقة السياسيّة اللبنانيّة تذهب بعنفوان اللبنانيّين تضليلًا وهدرًا، في حين أنّ لبنان يحتاج إلى مثل هذا العنفوان البريء للنهوض والترميم. هي حنكةٌ خبيثةٌ تدفع بالسياسيّين إلى استقبال الحشود المنفعلة، وتأليبها وتحريضها تأييدًا لمصالحهم الأنانيّة، في حين أنّ الشعب يريد تغيير صورة هذا النظام الطائفيّ السقيم. ليس ينفع اللبنانيّين أن ينساقوا إلى تحريضات زعمائهم في جميع المناطق، وهم في حالة التخدّر النفسيّ الجماعيّ، يعتصمون في لاوعيهم المقهور برجاءات مزيّفة اقترنت إمكاناتُها حصرًا بمشيئة الزعيم وحسن نواياه. والمعلوم أنّ الزعماء لا يمكنهم أن يتوبوا عن الزعامة. فالقادر على مثل هذه التوبة لا يركب في الأصل موجة الزعامة. إذا استثنيتَ حشود الزعماء العشرة، وحجمُها في لبنان نصف مليون في أعلى تقدير، ظلّ اللبنانيّون في أغلبيّتهم الساحقة (خمسة ملايين)أسرى هذه العبوديّة الأيديولوجيّة المميتة، واستمرّ لبنان يستولد كلّ عشر سنوات انحطاطًا تحت انحطاط، وتخلّفًا فوق تخلّف، وحروبًا على حروب.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *